الأربعاء

1446-11-02

|

2025-4-30

(المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار...دروس وعبر)

من كتاب الدولة الحديثة المسلمة دعائمها ووظائفها:

الحلقة: الثالثة عشر

بقلم الدكتور: علي محمد الصلابي

23 محرم 1443 ه/ 31 أغسطس 2021

كان من أولى الدعائم التي اعتمدها الرسول صلى الله عليه وسلم في برنامجه الإصلاحي والتنظيمي للأمة وللدولة والحكم والاستمرار في الدعوة إلى التوحيد، والمنهج القرآني، بناء المسجد وتقرير المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار وهي خطوة لا تقلُّ أهمية عن الخطوة الأولى في بناء المسجد لكي يتلاحم المجتمع المسلم، ويتآلف وتتضح معالم تكوينه الجديد
كان مبدأ التآخي العام بين المسلمين قائماً منذ بداية الدعوة في عهدها المكي ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن كل ما يؤدي إلى التباغض بين المسلمين، فقال صلى الله عليه وسلم: «لا تباغضوا ولا تحاسدوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخواناً، ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق الثلاثة أيام»(1).
ـ وقال صلى الله عليه وسلم: «المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يسلمه(2)، ومن كان في حاجة أخيه، كان الله في حاجته، ومن فرّج عن مسلم كربة(3)، فرّج الله ـ عز وجل ـ عنه كربة من كربات يوم القيامة، ومن ستر مسلماً، ستره الله يوم القيامة»(4)، وقد أكد القرآن الكريم الأخوة العامة بين أبناء الأمة في قوله تعالى: ﴿وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ الله لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ (آل عمران، آية : 103).
ـ وقال تعالى: ﴿وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَـكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ (الأنفال، آية : 63).
وقد أسهم نظام المؤاخاة في ربط الأمة بعضها ببعض، فقد أقام الرسول صلى الله عليه وسلم هذه الصلة على أساس الإخاء الكامل بينهم، هذا الإخاء الذي تذوب فيه العصبيات، فلا حمية إلا للإسلام، وتسقط به فوارق النسب واللون والوطن، فلا يتأخر أحد أو يتقدم، إلا بمروءته وتقواه، وقد جعل الرسول صلى الله عليه وسلم هذه الأخوة عقداً نافذاً لا لفظاً فارغاً، وعملاً يرتبط بالدماء والأموال، لا تحية تثرثر بها الألسنة، ولا يقوم لها أثر(5).
وممّن تآخوا في الله من المهاجرين والأنصار، أبو بكر الصديق رضي الله عنه، وخارجة بن زهير، وعمر بن الخطاب وعتبان بن مالك، وأبو عبيدة بن الجراح وسعد بن معاذ، وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن الربيع، والزبير بن العوام وسلامة بن سلامة بن وقش، وطلحة بن عبيد الله وكعب بن مالك، وسعيد بن زيد وأبي بن كعب، ومصعب بن عمير وأبو أيوب، خالد بن الوليد وأبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة، وعباد بن بشر وعمار بن ياسر، وحذيفة بن اليمان وأبو ذر الغفاري، والمنذر بن عمرو وحاطب بن أبي بلتعة(6)، وعويم بن ساعدة وسلمان الفارسي، وأبو الدرداء وبلال مؤذن الرسول صلى الله عليه وسلم وأبو رويحة عبد الله بن عبد الرحمن الخثعمي(7)، ومن أهم الدروس والفوائد والعبر من المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار:
أ ـ آصرة العقيدة هي أساس الارتباط:
إن المجتمع المدني الذي أقامه الإسلام كان مجتمعاً عقدياً يرتبط بالإسلام، ولا يعرف الموالاة إلا لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين، وهو أعلى أنواع الارتباط وأرقاه، إذ يتصل بوحدة العقيدة والفكر والروح(?.
فقد فهم الصحابة أن ولاءهم لا يكون إلا لقيادتهم، وإخلاصهم لا يكون إلا لعقيدتهم، وجهادهم لا يكون إلا لإعلاء كلمة الله فحققوا ذلك كله في أنفسهم وطبقوه في حياتهم فمحّضوا ولاءهم وجعلوه لله ورسوله والمؤمنين وأصبح تاريخهم حافلاً بالمواقف الرائعة التي تدل على فهمهم العميق لمعنى الولاء الذي منحوه لخالقهم ولدينهم وعقيدتهم وإخوانهم(9).
إن التآخي الذي تمَّ بين المهاجرين والأنصار كان مسبوقاً بعقيدة تمَّ اللقاء عليها والإيمان بها.
فالعقيدة التي جاء بها رسول الله صلى الله عليه وسلم من عند الله تعالى هي العمود الفقري للمؤاخاة التي حدثت، لأن تلك العقيدة تضع الناس كلهم في مصاف العبودية الخالصة لله، دون الاعتبار لأي فارق إلا فارق التقوى والعمل الصالح، إذ ليس من المتوقع أن يسود الإخاء والتعاون والإيثار بين أناس شتتتهم العقائد والأفكار المختلفة، فأصبح كل منهم ملكاً لأنانيته وأثرته وأهوائه(10).
ب ـ الحب في الله أساس بنية المجتمع المدني:
إن المؤاخاة على الحب في الله أقوى الدعائم في بناء الأمة المسلمة، إذا ما وهنت وتآكل كل بنيانها(11)، ولذلك حرص النبي صلى الله عليه وسلم على تعميق معاني الحب في الله، في المجتمع المسلم الجديد، فقد قال صلى الله عليه وسلم: «إن الله تعالى يقول يوم القيامة: أين المتحابون بجلالي؟ اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظليّ»(12).
كانت توجيهات النبي صلى الله عليه وسلم تحث الصحابة على معاني الحب والتكافل، واحترام المسلمين بعضهم بعضاً، فلا يستعلي غني على فقير، ولا حاكم على محكوم، ولا قوي على ضعيف، وكان للحب أثره في المجتمع المدني الجديد، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان أبو طلحة أكثر أنصاري بالمدينة نخلاً وكان أحب أمواله إليه بيُرحاء، وكانت مستقبلة المسجد، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخلها، ويشرب من ماء فيها طيب، فلما نزلت : ﴿لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾ (آل عمران آية : 92).
قام أبو طلحة، فقال: يا رسول الله، إن الله يقول ﴿لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ﴾، وإن أحبّ أموالي "بيُرحاء"، وإنها صدقة لله، أرجو برّها، وذُخرها عند الله، فضعها يا رسول الله حيث أراك الله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ذلك مال رابح، وقد سمعت ما قلت، وإني أرى أن تجعلها في الأقربين»، فقال أبو طلحة: أفعل يا رسول الله، فقسمّها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه(13).
ج ـ النصيحة بين المتآخين في الله:
كان للمؤاخاة أثر في المناصحة بين المسلمين، فقد آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين سلمان وأبي الدرداء، فزار سلمان أبا الدرداء فرأى أم الدرداء متبذلة، فقال لها: ما شأنك؟ قالت: أخوك أبو الدرداء ليس له حاجة في الدنيا، فجاء أبو الدرداء فصنع له طعاماً، فقال له: كل فإني صائم، قال: ما أنا بآكل حتى تأكل، قال: فأكل، فلما كان الليل، ذهب أبو الدرداء يقوم، قال: نم فنام، ثم ذهب يقوم، فقال: نم فلما كان آخر الليل قال سلمان: قم الآن، فصليا، فقال له سلمان: إن لربك عليك حقاً، ولنفسك عليك حقاً، ولأهلك عليك حقاً، فأعط كل ذي حق حقه، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «صدق سلمان»(14).
د ـ قيم إنسانية ومبادئ مثالية:
من خلال الروابط الوثيقة التي ألفت بين المهاجرين والأنصار، أرست قيم إنسانية واجتماعية، ومبادئ مثالية، لا عهد للمجتمع القبلي بها، وإنما هي شأن المجتمعات المتحضرة الفاضلة، وفي مقدمة تلك القيم قيمة العمل الشريف كوسيلة لكسب الرزق، فلقد قبل المهاجرون في أول الأمر ما أظهره إخوانهم الأنصار من كرم الضيافة، ولكنهم أبوا بعد ذلك إلا أن يبحثوا عن موارد رزق لهم، ولا يعوّلوا على رابطة المؤاخاة التي سعد بها الأنصار، فكان منهم من اشتغل بالتجارة، ومنهم من عمل بالزراعة، مستعذبين متاعب العمل على أن يكونوا عالة على إخوانهم، ذلك عزة الإيمان لا ترضي لصاحبها أن يكون عالة على أحد، بل تطلب منه أن يعطي أكثر مما يأخذ، فاليد العليا خير وأحب إلى الله من اليد السفلى، وقد فهم الصحابة الكرام من تعاليم الإسلام أن العمل عبادة، وهي منزلة لم تصل إليها النظم المعاصرة التي قصرت فائدتها على سد حاجات الإنسان المادية والمعنوية، وفي ضوء هذا المفهوم الإسلامي نستطيع أن نقول: إن الإخاء والعمل كانا حجر الزاوية في بناء مجتمع دار المهجر، وبالتالي في تأسيس الحضارة الإسلامية التي بنيت أصولها في المدينة بعد إقامة أول دولة في الإسلام، برئاسة النبي صلى الله عليه وسلم، ثم ترعرعت حتى أصبحت شجرة يتفيأ ظلالها العالم كله(15).

مراجع الحلقة الثالثة عشر
( ) أخرجه البخاري، الحديث رقم: 6065.
(2) أي: لا يتركه مع من يؤذيه، ولا فيما يؤذيه بل ينصره.
(3) كربة أي: غمة.
(4) أخرجه البخاري، الحديث رقم: 2442، وأخرجه مسلم، الحديث رقم: 2580.
(5) فقه السيرة للغزالي، ص: 193، 194.
(6) بلتعة: تبلتع الرجل: إذا تطرّف.
(7) السيرة النبوية لابن هشام (2/ 109 ـ 111).
(? السيرة النبوية الصحيحة للعمري (1/ 252).
(9) السيرة النبوية للصلابي (1/ 442).
(0 ) فقه السيرة، للبوطي، ص: 156.
(1 ) محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم لمحمد رضا (3/ 129).
(2 ) أخرجه مسلم، الحديث رقم: 2566.
(3 ) أخرجه البخاري، الحديث رقم: 1461، وأخرجه مسلم، الحديث رقم: 998.
(4 ) أخرجه البخاري، الحديث رقم: 1968.
(5 ) الهجرة في القرآن الكريم، لأحزمي سمعون ، ص: 411.
يمكنكم تحميل كتاب الدولة الحديثة المسلمة دعائمها ووظائفها
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي:
http://alsallabi.com/uploads/file/doc/Book157.pdf
كما يمكنكم الإطلاع على كتب ومقالات الدكتور علي محمد الصلابي من خلال الموقع التالي:
http://alsallabi.com


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022