لعبت ليبيا دورًا كبيرًا في دعم كفاح الشعب الجزائري، إيمانًا من قناعة زعيمها الملك إدريس السنوسي وقناعة شعبها بأن الوقوف إلى جانب الجزائريين في كفاحهم هو واجب وطني وديني، وقد تجسد هذا الموقف منذ زمن المصلح الكبير محمد بن علي السنوسي وتصديه للاحتلال الفرنسي ودعمه للمجاهدين، ولم تنقطع هذه الصلة بين الشعبين الشقيقين وازدادت قوة وتحمساً مع اندلاع ثورة أول نوفمبر 1954م، ووقف الملك والحكومة والشعب بكافة ما يملكون لتحقيق الانتصار العظيم على الغزاة المحتلين.
1 ـ اهتمام الملك إدريس بالثورة الجزائرية
واصل الملك إدريس جهوده المادية والمعنوية لدعم ثورة الجزائر التي اندلعت في 1 /11 /1954م. وقد أثبتت الوثائق التاريخية جهوده العظيمة وأعماله الجسيمة في هذا الباب، فقد ذكر مصطفى بن حليم في كتابه “صفحات مطوية من تاريخ ليبيا السياسي”، ما يقيم الحجة والبرهان على صدق الملك إدريس لدعمه للثورة الجزائرية، حيث عُرض الأمر على الملك رحمه الله، فقال: من ناحية لا يمكننا أن نتردد في القيام به.. ومن ناحية أخرى فإنني لا أريد أن أعرض استقلال هذا الوطن …ولا أود أن أقامر بهذا الاستقلال. في البداية أخذ الملك قرارا بمنع مرور السلاح عبر البر واقتصار مروره عبر البحر، لأن المخابرات المصرية قامت بتسريب بعض قطع السلاح للمدنيين إبان العدوان الثلاثي فقاموا بتخريب بعض المحلات والمنشآت، ثم تغير موقفه بعد ذلك، حيث يروي بن حليم تفاصيل لقاء جرى بين أحمد توفيق المدني وملك ليبيا إدريس السنوسي، وافق على إثره الملك على السماح بعودة مرور السلاح عبر ليبيا.
2 – ليبيا قاعدة خلفية ولوجستية لثورة الشعب الجزائري
أصبحت ليبيا قاعدة خلفية ولوجستية للثورة الجزائرية، حيث كانت بها مستودعات الأسلحة، ومراكز التدريب، وشبكات التسليح، كما وفرت إقامة خاصة لقادة جبهة التحرير وأمّنت تنقلاتهم، وأصبحوا يتصرفون بكل حرية دون مراقبة أو إزعاج. وللإشارة، فإن شبكات التسليح بليبيا لم تتلق أية ضغوطات ولم يجمد أي نشاط للثورة بها عكس ما كان يحدث في بعض البلدان الأخرى، وبذلك احتلت ليبيا مكانة رائدة في مجال دعم الأسلحة لصالح الجزائر.
وقد أشار رئيس الجزائر، أحمد بن بله، الذي أجرى آنذاك اتصالات بالحكومة الليبية والفعاليات الشعبية إلى أن حركة التحرير الجزائرية قد اتصلت بالحكومة الليبية منذ وقت مبكر، وأن التعاون مع الحكومة الليبية كان قائماً، والمساعدات كانت حقيقة، ولكنها تعطى لنا في سرية مطلقة، ومن الطرق التي استخدمت لتهريب السلاح تونس، حيث يتم تهريب السلاح عبرها.
وتجدر الإشارة إلى أن استعمال الأراضي الليبية لنقل الأسلحة من المشرق كان يتم تحت رقابة الحكومة الليبية وبتغطية منها، وذلك بأمر من الملك إدريس السنوسي نفسه.
إن نجاح عمليات التهريب الأولى دفع بالحكومة الليبية إلى إرسال برقية إلى أعضاء الجبهة بالقاهرة عن طريق سفارة تونس تدعوهم إلى إرسال ممثل عنهم إلى طرابلس، وبذلك تم تعيين السيد محمد خيضر لهذه المهمة.
3 ـ مطارات ليبيا في خدمة شعب الجزائر وثوارها
بعد اجتماع 27 أفريل 1956م، رأت لجنة السلاح الجزائري بالقاهرة، أنه من الضروري السعي لدى رئيس الوزراء الليبي، بن حليم، لكي يضع تحت تصرف اللجنة الفرعية للأسلحة بليبيا مطاراً أو مطارين على الحدود الجزائرية الليبية جنوباً بقصد إيصال الأسلحة بصفة فورية، ومباغتة للفرنسيين، وقد قررت الحكومة الليبية بعد لقاء مع قادة الجبهة ما يلي:
-تضع الحكومة الليبية مطاري بلدة نالوت جنوب فزان تحت تصرف القيادة الجزائرية بعد إصلاحهما من قبل الحكومة المصرية.
-ضرورة دخول السلاح من مصر إلى ليبيا بواسطة الطائرات وبعلم رئيس الحكومة الليبي بغرض تأمين العملية.
-العمل على شراء السلاح بليبيا وتوفير كل الشروط الضرورية لإنجاح العملية.
وبعد هذا اللقاء ختم الوفد الجزائري زيارته بزيارة الملك إدريس السنوسي، حيث خصه باستقبال كبير، وأعرب له عن وقوف ليبيا الدائم والداعم للقضية الجزائرية، وعن تقديم كل التسهيلات لتمرير السلاح، وتنقل المجاهدين عبر كل التراب الليبي.
4 – دعم السفارة الليبية في فرنسا لكفاح الجزائريين
كان الملك إدريس، رضي الله عنه، بعيد النظر، فبعد أن استقال السيد مصطفى بن حليم من الحكومة في آخر ماي 1957م، عينه سفيراً لليبيا في باريس، لأن علاقته ممتازة مع رجال الثورة الجزائرية، ولأن الحكومة الفرنسية قد وصلت لقناعة بأن قضية الجزائر لا تُحل عسكرياً وإنما بالمفاوضة مع سكان الجزائر.
وقد كانت مهمة سفير ليبيا في فرنسا البحث مع الحكومة الفرنسية عن سبل سلمية لإعطاء شعب الجزائر حق تقرير مصيره، وتشجيع الحكومة الفرنسية على انتهاج سياسة التفاهم والتفاوض مع جبهة تحرير الجزائر. وبدأ بن حليم أولى خطواته بنقل طلب رسمي من الملك إدريس إلى ديغول رئيس الجمهورية، بأن يطلق سراح أحمد بن بلة ورفاقه من السجن، أو على الأقل أن يخفف وطأة السجن إلى إقامة جبرية أو شيء من هذا القبيل، وقد آتت هذه الوساطة أكلها فنقل زعماء الثورة إلى فيلا سكنية.
عقب إطلاق سراح أحمد بن بله ورفاقه الأربعة من السجون الفرنسية، قام هؤلاء الزعماء بزيارة إلى ليبيا، واستقبلهم الملك إدريس السنوسي، وحثهم على التضامن ونكران الذات، وذكّرهم بالحديث الشريف الذي يقول فيه الرسول صلى الله عليه وسلم: رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر.
5 ـ مؤتمرات مصيرية لقادة الثورة الجزائرية في ليبيا
تواصل الدعم الليبي للقضية الجزائرية وثورة أول نوفمبر، حيث شهدت الأراضي الليبية عدة اجتماعات ومؤتمرات مصيرية بالنسبة للشعب الجزائري وثورته المباركة، من أهمها:
أ ـ مؤتمر طرابلس الأول: الاجتماع الثالث للمجلس الوطني للثورة الجزائرية.
ب ـ مؤتمر طرابلس الثاني: الاجتماع الرابع للمجلس الوطني للثورة الجزائرية.
ج ـ مؤتمر طرابلس الثالث: الاجتماع الخامس للمجلس الوطني للثورة الجزائرية.
6 ـ الدعم الشعبي الليبي لثورة شعب الجزائر
نظرًا للأواصر الدينية والقومية والتاريخية بين الشعبين الجزائري والليبي، ابتهج الليبيون لانفجار الثورة التحريرية في مختلف أرجاء التراب الجزائري، وأخذت القطاعات الشعبية تفكر جدياً في إيجاد الطريقة التي يمكن بها دعم ثورة الجزائر ومناصرتها في المجالين المعنوي والمادي، وكانت الفكرة التي لمعت في الأفكار وواجهها الجميع بالرضى والتأييد، هي تأسيس لجنة من الأعيان، الذين اجتمعواوقرروا تشكيل لجنة لمناصرة الشعب الجزائري، فراسلوا في هذا الشأن الجهات الرسمية في الدولة لطلب الإذن بالشروع في العمل، وارتاح الشعب الليبي إلى هذه اللجنة، وتوالت تبرعاته من مختلف أنحاء المملكة الليبية، بشكل يدعو إلى الفخر والاعتزاز.
إن المملكة الليبية بحكوماتها وشعبها ساعدت ثوار الجزائر في معركتهم المقدسة ضد فرنسا، وقاموا بمد الثورة بالسلاح والذخائر والأموال والمساعدات، إن جميع الساسة والقادة العسكريين زمن المملكة الليبية، والذين كانت لهم علاقة مباشرة بمدّ الثورة في الجزائر، يشهدون أن الملك كان مسانداً لحركة الثورة وحريصاً على نجاحها، ولم يقصر معها لا مادياً ولا معنوياً. وتميز الموقف الليبي تجاه الثورة الجزائرية بالوحدة بين الشعب والحكومات والملك خلال كل مراحل حرب التحرير، حيث كان تأييد الملك والحكومة والشعب مطلقاً للشعب الجزائري في ثورته.
(المصدر: جريدة الحوار الجزائرية)