الثلاثاء

1446-11-08

|

2025-5-6

"السحاب" في القرآن الكريم

الحلقة الثالثة والعشرون

بقلم الدكتور: علي محمد محمد الصلابي

جمادى الأول 1441ه/يناير 2020م

صنف مجموعة من العلماء المختصين السحب إلى نوعين:
أـ السحب البساطية: وقد ذكر هذا النوع في القرآن الكريم وهي كما يفهم من اسمها تظهر بشكل طبقات تحجب السماء بأكملها ولا توجد لها حدود واضحة، ويمكن تشبيهها بالضباب المرتفع وهي من السحب المنخفضة، وقد تصل قاعدتها في بعض الأحيان إلى سطح الأرض فتظهر بشكل ضباب، وقد يحدث أن تتكون من الضباب نفسه عندما يرتفع بتأثيره حرارة الشمس أو الرياح أو كليهما، وهي من السحب التي قد يصحبها هطول خفيف من الرذاذ أو حبيبات الثلج، ويكون الهطول عادة متصلاً أو منقطعاً.. ومنها ما يكون رقيقاً شفافاً لا يحجب الشمس ومنها ما يكون سميكاً معتماً، والنوع السميك منها يصاحبه في المعتاد هطول من المطر أو الثلج أو خليط منها.
وفي كتاب "السحب" ذكر أن السحب تنقسم إلى أربعة عشر نوعاً حسب الشكل الذي تبدو به في السماء، وجعل السحب البساطية في المرتبة السادسة: السحب المنبسطة وهي سحب منتشرة أفقياً بشكل طبقة أو صحيفة، نجدها ممثلة في سحب الركام المتوسطة والركام الطبقي.
وفي هذا النوع قال تعالى:" اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاء كَيْفَ يَشَاء وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ" (الروم، آية : 48).
" اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ": وفق ناموسه في تكوين هذا الكون وتنظيمه وتعريفه. " فَتُثِيرُ سَحَابًا" بما تحمله من بخار الماء المتصاعد من كتلة الماء في الأرض " فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاء" ويفرشه ويمده " وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا" بتجميعه وتكثيفه وتراكمه بعضه فوق بعض، أو يصطدم بعضه ببعض، أو تنبعث شرارة كهربائية بين طبقة منه وطبقة، أو كسفة منه وكسفة، " فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ" وهو المطر يتساقط من خلال السحاب " فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ" ولا يعرف هذا الاستبشار على حقيقته كما يعرفه الذين يعيشون مباشرة على المطر.
ليس في الكلام مثل هذا الكلام من حيث جمال التعبير واكتمال المعنى، ومن حيث المرونة في العرض الذي يستقيم بها المعنى لكل ذي لب من الناس سواء كان في الزمان الغابر وما فيه من بدائية المعرفة أو كان في زماننا هذا بما فيه من ظواهر مذهلة في العلم والاختراع، أو تقدم مثير في الخبرات والنظريات العلمية.
إن كلاماً يسمو فوق آفاق العقول في عامة الأدهار وينسجم تمام الانسجام مع المعطيات الكونية التي يتوصل إليها الإنسان رويداً رويداً.
إن هذا الكلام بهذه الطريقة والكيفية في العرض لا جرم أن يكون من عند الله وأنه معجز.
ب ـ السحب الركامية:
وهي تتكون من تراكم السحب وركوبها بعضها على بعض.
قال تعالى:" أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاء مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاء وَيَصْرِفُهُ عَن مَّن يَشَاء يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ" (النور، آية : 43)
وتمثل هذه الآية الكريمة إعجازاً علمياً رائعاً في علم المناخ والرياح، وتكوين السحب الركامية، فهي تتحدث عن مراحل تكون السحب الركامية والتي تبدأ بدفع الرياح للسحب رويداً رويداً، ثم تأتي المرحلة الثانية والتي تتمثل بتأليف وجمع قطع السحاب، ثم تصبح هذه القطع مركومة فوق بعضها البعض، وعملية الركم هذه تنتج نزول المطر، وبسبب التراكم التصاعدي تنشأ جبال سيارة في السماء من البرد، ونويات البرد هذه محصورة في السحب الركامية، ولم نقرأ في السحب البساطية أنها تحتوي على البرد أو البرق والرعد، ثم إن الآية تخبر أن هذا البرد له برق، والبرق هو نتيجة حتمية للبرد وغير هذه الحقائق والأسرار تحتويها هذه الآية، وسوف نرى بإذن الله أن العلم وصل بشكل دقيق إلى ما أوضحتها الآية القرآنية، بعد ما تطور علم الارصاد الجوية واستعمل العلماء أجهزة الاستشعار عن بعد والرادارات والأقمار الصناعية وغيرها.
وفي آية النور يعرض الله المشهد على مهل وفي إطالة، وتترك أجزاؤه للتأمل قبل أن تلتقي وتتجمع كل أولئك لتؤدي الغرض من عرضها في لمس القلب وإيقاظه وبعثه إلى التأمل والعبرة، وتدبر ما وراءها من صنع الله إن يد الله تزجي السحاب وتدفعه من مكان إلى مكان، ثم تؤلف بينه وتجمعه، فإذا هو ركام بعضه فوق بعض فإذا ثقل خرج منه الماء، والوبل الهاطل، وهو في هيئة الجبال الضخمة الكثيفة، فيها قطع البرد الثلجية الصغيرة ومشهد السحب كالجبال لا يبدو كما يبدو لراكب الطائرة وهي تعلو فوق السحب أو تسير بينها، فإذا المشهد مشهد الجبال حقاً، بضخامتها ومساقطها وارتفاعاتها وانخفاضاتها، وإنه لتعبير مصور للحقيقة التي لم يرها الناس إلا بعد ركوب الطائرات.
وهذه الجبال مسخرة بأمر الله، وفق ناموسه الذي يحكم الكون ووفق هذا الناموس يصيب الله بالمطر من يشاء ويصرفه عمن يشاء وتكملة المشهد " يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ" ذلك ليتم التناسق مع جو النور الكبير في الكون العريض، على طريقة التناسق في التصوير.
يقول الشيخ عبد المجيد الزنداني في تفسير هذه الآية: درسنا السحاب لمدة سنتين تقريباً في جامعة الملك عبد العزيز مع قسم الأرصاد في جدة، فعند الدراسة ظهر لنا أن هناك أنواعاً متعددة من السحب، لكن الأنواع الممطرة ثلاثة أنواع فقط فلما راجعت القرآن وجدت أن القرآن ذكر الأنواع الثلاثة بالضبط، ووصف كل نوع منها وصفاً دقيقاً هذا الوصف لكل سحاب يختلف تماماً عن وصف السحاب الآخر، فالسحب الممطرة ثلاثة أنواع منها النوع الركامي يقول الله جل وعلا في السحاب الركامي :" أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ" يعني الآن يصف لنا القرآن طريقة تكوين السحاب الركامي، ووجد أن السحاب الركامي يتكون هكذا، يزجي أي يسوق برفق يتكون "قزعا" ثم يساق هذا "القزع" إلى خط تجمع السحاب، فيساق برفق إلى خط هذا التجمع " أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ـ في هذا الخط ـ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا" يقوم بعضه فوق بعض " ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ" يعني قطرات المطر تخرج متى؟ إذا حدث الركام " فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاء مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاء وَيَصْرِفُهُ عَن مَّن يَشَاء يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ" (النور، آية : 43). وصف كامل بالضبط لطريقة تكوين السحاب للظواهر المصاحبة لتكوينه، للنتائج المترتبة عليه، قلنا يبدأ بالسوق، ثم بالتأليف ثم بالتراكم فينزل المطر، تغير حرف العطف أنظر الدقة على مستوى الحرف، لأن الفترة من فترة السوق إلى التأليف تأخذ زمناً، ومن التأليف إلى نهاية الركم تأخذ زمناً، لكن بعد أن ينتهي الركم إلى نزول المطر بدون وجود زمن ولذلك كان الفارق في هذا الحرف "الفاء" عبّر بالفاء الذي يدل على التعقيب والترتيب بسرعة ولذلك قال " أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا" ف " فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاء مِن جِبَالٍ" يعني يقول لك : انظر إلى السماء " وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاء مِن جِبَالٍ" مالجبال " فِيهَا مِن بَرَدٍ" إذن هي سحاب " وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاء مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ" لا يتكون البرد إلا في السحاب الركامي، الذي تختلف درجة حرارة قاعدته عن قمته، وبسبب هذا الشكل الجبلي للسحاب يتكون البرد، الشكل الطبقي لا يتكون فيه برد ولذلك قال" وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاء مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ" يجب أن يكون السحاب على شكل جبل " وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاء مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاء" الله الضمير يرجع إلى البرد " وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاء مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ" ـ أي البرد " فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاء وَيَصْرِفُهُ عَن مَّن يَشَاء".
يقول علماء الأرصاد: يتكون البرد وينزل إلى قاعدة السحاب وفجأة يأتي تيار هوائي يصرفه ويعيده إلى وسط السحاب.
أما كيف نفهم قوله تعالى :" فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاء وَيَصْرِفُهُ عَن مَّن يَشَاء" يعني كان متجهاً إلى قوم.. فقال له ارجع اطلع فوق، وتتبع علماء الأرصاد ذلك فوجدها دورة يدورها، تدورها البردة تكون غلافاً، فلما تنزل البردة إلى الأرض نحسب كم غلاف، نعرف كم دورة دارة هذه البردة في جسم السحاب " فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاء وَيَصْرِفُهُ عَن مَّن يَشَاء يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ" سنا برقه لمعان برقه، والكلام كله عن البرد " فَيُصِيبُ بِهِ ـ أي البرد ـ مَن يَشَاء ويصرف البرد ـ عَن مَّن يَشَاء يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ" لمعان برقه أي برق البرد في عام 1985م قُدّم لأول مرة مؤتمر دولي أن البرد هو السبب الحقيقي لتكوين البرق، فعندما يتحول البرد من سائل إلى جسم صلب تتكون الشحنات الكهربائية الموجبة والسالبة وعندما تدور حبة البرد توزع الشحنات الموجبة والشحنات السالبة عندما يستمر الدوران تقوم بعملية التوصيل، فالبرق من البرد.
ومن الآيات التي تحدثت عن السحب ونزول الأمطار، قوله تعالى:" وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُم مَّاء فُرَاتًا" (المرسلات، آية : 27).
أي: جبال رواسي ثابتات سامقات، تتجمع على قممها السحب، وتنحدر عنها مساقط الماء العذب أفيكون هذا إلا عن قدرة وتقدير وحكمة وتدبير؟
فالجبال الشاهقة تكون بمثابة "مصيدة للأمطار" حيث تعترض الرياح المحملة ببخار الماء إذ تجبر الهواء الرطب على الارتفاع إلى أعلى فيبرد ويتكاثف ويسقط مطراً غزيراً.
وقال تعالى:" وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاء ثَجَّاجًا * لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا * وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا" (النبأ، آية : 14 ـ 16).
" وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ" أي: السحاب، " مَاء ثَجَّاجًا" أي: كثيراً جداً.
فقد أثبت العلم الحديث: بعد أن يتكون السحاب يمر فيه تيار هوائي دائري يدور كالعصارة فيرفع بدورانه هذه السحابة المشبعة ببخار الماء إلى أعلى فيبرد ويتكثف ويلقح أيضاً وتبدأ عملية العصر عند نقطة محدودة في مكان محدد في الطبقات العليا، فتنزل المطر ثم لا تلبث أن ترفع كمية أخرى من الهواء المشبع ببخار الماء من أسفل إلى أعلى وتتكثف وينزل الماء، فعن طريق العصر ينزل الماء من السحب دفعة دفعة وليس بانسياب مستمر وهذه الظاهرة تشاهد كثيراً في المناطق الاستوائية حيث تيارات الحمل قوية فتحمل السحاب وينزل المطر وتكثر الغابات وتتشابك وتلتف الاشجار حول بعضها البعض.

المصادر والمراجع:
* القرآن الكريم
* علي محمد محمد الصلابي، المعجزة الخالدة الإعجاز العلمي في القرآن الكريم براهين ساطعة وأدلة قاطعة، دار المعرفة، صفحة (108:103).
* عبدالعزيز طريح شرف، الجغرافية المناخية والنباتية مع التطبيق على مناخ إفريقيا ومناخ العالم العربي، صفحة (204 ، 205).
* مروان وحيد التفتنازي، الإعجاز القرآني في ضوء الاكتشاف العلمي الحديث، صفحة (75 ، 324).
* سيف الدين الكاتب، دلائل الإعجاز العلمي في القرآن الكريم، صفحة (436).
* سليمان عمر قوش، الاكتشافات العلمية الحديثة ودلالتها في القرآن الكريم، صفحة (157).


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022