السبت

1446-11-12

|

2025-5-10

عاصر عهد الدولة النورية اثنان من أقوى ملوك بيت المقدس: بلدوين الثالث (539ـ557هـ/1144ـ1162م)، وعموري الأول (658-670هـ/1162-1174م)، ويعد بلدوين الثالث أوّل الملوك الصليبيين الذين ولدوا على أرض المملكة، وقد سيطرت عليه والدته ميلزندا. تمكَّن هذ الملك من توسيع حدود المملكة، وأمكنه الاستيلاء على عسقلان (عام 548هـ/1153م)، وأمّن بالتالي حدوده الجنوبية. كذلك عمل على تشييد عدّة قلاع وحصون من أجل تدعيم مناطق سيادته في مواجهة أعدائه المسلمين، وسعى أيضا إلى حماية إمارتي طرابلس وأنطاكية من خطر الفوضى الداخلية، والأخطار الخارجية، وهدف إلى كسب عون الإمبراطورية البيزنطية لتساعده في مواجهة الأحداث في شمال الشام.

أما الملك عمُّوري الأول، فإنه أراد توسيع حدود المملكة هو الآخر، وعمل على غزو مصر، وإخضاعها لسيطرته دون جدوى، وسعى إلى طلب العون البيزنطي في مشاريعه التوسعية خاصة ضدَّ مصر. (أبو صيني، 2000، ص 155)

وقد عمل نور الدين محمود للتصدِّي لمشاريع مملكة بيت المقدس التوسعية، وكان دافعه المحرك في ذلك هو عقيدة الجهاد في سبيل الله، لا كما يزعم بعض الباحثين، ولا سيما من الغربيين الذين أنكروا ذلك الاتجاه لأسباب استشراقية تعصبية لا تخفى على أحد، وفي مقدمتهم المؤرخ الأميركي جون لامونت الذي أنكر الطابع الديني لحروب نور الدين محمود، وفضَّل الأخذ بالدوافع السياسية، ورأى: أنَّه لم يكن مهتما بالحروب الدينية اهتماما خاصا، وأنه حارب الصليبيين على أساس أنهم وجدوا في مجال توسُّعه الطبيعي، وأن رغبته في توسيع رقعة مملكته في الاتجاه الوحيد الممكن هي التي أملت عليه السياسة التي اتبعها في علاقاته مع جيرانه اللاتين، ويذكر: أنَّه لم يكن للدين دخل في ذلك، وأن مراجعة أعماله الحربية توضح: أنَّ دافعه الرئيسي كان سياسيا. (عوض، 1998، ص 137)

والواقع: أنَّ الرغبة في القضاء على عقيدة الجهاد الإسلامي التي ازدهرت في مرحلة الحروب الصليبية، كان أحد الأهداف الأساسية للمستشرقين الذين تناولوا بالدراسة تلك المرحلة، وذلك من أجل القضاء على النماذج التاريخية لفكرة الجهاد الإسلامي، واقتلاعها من أساسها، خاصة: أنَّها فكرةٌ محوريّةٌ في الإسلام. (عوض، 1998، ص 137)

ولا شك: أنَّ عقيدة الجهاد، وتحرير المقدَّسات من الاحتلال الصليبي، كان المحرك لحركة المقاومة للمسلمين في عهد الزنكيين، والأيوبيين، والمماليك، وما يجري اليوم في أفغانستان، والعراق، وفلسطين، ولبنان.

وقد كان تحرَّك نور الدين محمود ضدَّ مملكة بيت المقدس، يستهدف تحقيق انتصارات في المجال الاقتصادي، والسياسي، والعسكري بالقتال، وبالمفاوضات أحيانا أخرى.

المجال الاقتصادي

فقد وصفت الدولة النورية بأنَّها دولة داخلية حبيسة، دون نطاق ساحليٍّ، والمنافذ البحرية على امتداد الساحل الشامي تم إخضاعها للسيادة الصليبية، حيث أدرك الصليبيون أهميتها الكبيرة لاستمرار اتصالهم بأوروبا، وحصولهم على الدعم البشري والمالي والمعنوي، وكان تصريف قسم مهم من تجارة الدولة النورية يتمُّ من خلال موانئ شرق البحر المتوسط الصليبية، كذلك أرادت تلك الدولة الحفاظ على سلامة الطرق التجارية بين دمشق ذات الأهمية التجارية ومنطقة الجبل الأعلى في شمال فلسطين، بوصفها حلقة وصول إلى الساحل الشامي البالغ الحيوية. (عوض، 1998، ص 137)

المجال السياسي

مثَّل الصراع مع تلك المملكة أهمية خاصة للدولة النورية، ولا نزاع في أنَّ مواصلة الصراع الحربي معها كان ضرورياً من أجل أن يقوم نور الدين محمود بدوره في مجاهدة الكفار، ومثل هذا واجب شرعي ضروري، لدعم حكمه وتوفير الاستقرار السياسي له، وعدم قدرة المعارضة على كسب أعوان لها، طالما: أنه يقوم بتأكيد هذا الدور الشرعي الحيوي. أضف إلى ذلك: أنَّ الدولة النورية بعد نجاحها في توحيد بلاد الشام والجزيرة بقبضة واحدة، مثلت مملكة بيت المقدس منافسا سياسيا خطيرا لها، فإذا أضفنا إلى ذلك: أنَّ ذلك المنافس كان كيانا دخيلا وافدا على المنطقة، ولا يملك وجوده أصلا؛ أدركنا حتمية الصراع بين الطرفين لكافة الدوافع السابقة، سواء الدينية، أو السياسية، أو الاقتصادية. (عوض، 1998، ص 139)

المجال العسكري

فقد أدركت الدولة النورية أن تجيش الجيوش ضدَّ مملكة بيت المقدس الصليبية خير وسيلة من أجل تحقيق باقي الدوافع السابقة، وكانت هناك صلة وثيقة بين آلة الحرب للدولة النورية، وتحركاتها السياسية، وقد حرصت الدولة النورية على الاستيلاء على عدد من القلاع والحصون الإستراتيجية، من أجل إضعاف فعاليات المملكة الصليبية عسكريا، ولتأمين حدود الدولة النورية، ولإيجاد توازن عسكري مع المملكة الصليبية يتطوَّر مستقبلا إلى ما هو أبعد من هذا في سبيل تحقيق التفوق العسكري على الوجود الصليبي، وهو ما تحقق في عهد السلطان الناصر صلاح الدين الأيوبي. (ابن جبير، 1964، ص 253)

ملاحظة مهمة

  • استند هذا المقال بشكل كبير في مادته المرجعية إلى كتاب "الصراع الإسلامي الصليبي" لصاحبه الدكتور محمد مؤنس أحمد عوض.

مراجع البحث

  • علي محمد الصلابي، الدولة الزنكية، دار المعرفة، بيروت، 2007، ص 484-482.
  • أبو الحسن محمد أحمد الكتاني الأندلسي، ابن جبير، الرحلة، دار صادر، بيروت 1383هـ-1964م
  • محمد مؤنس أحمد عوض، الصراع الإسلامي الصليبي- السياسة الخارجية للدولة النورية، عين للدراسات والبحوث، مصر، 1418هـ-1998م.
  • عبد القادر أحمد أبو صيني، دور نور الدين محمود في نهضة الأمة ومقاومة غزو الفرنجة، رسالة دكتوراه، معهد التاريخ العربي والتراث العلمي للدراسات العليا. 1420هـ-2000م.


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022