الجمعة

1446-11-04

|

2025-5-2

من كتاب الدولة الأموية عوامل الإزدهار وتداعيات الإنهيار (ج1)

(ابن الزبير وأهم صفاته)

الحلقة: الرابعة والتسعون

بقلم الدكتور: علي محمد الصلابي

ربيع الآخر 1442 ه/ ديسمبر 2020

كان عبد الله بن الزبير نحيفاً، ليس بالطويل، وكان بين عينيه أثر السجود، كثير العبادة، مجتهداً شهماً فصيحاً، صوّاماً قوّاماً، شديد البأس، ذا أنفة، له نفس شريفة وهمّة عالية، وكان خفيف اللحية ليس في وجهه من الشعر إلا قليلاً، وكانت له جُمة، وكان له لحية صفراء ، وكان عالماً عابداً مهيباً وقوراً، كثير الصيام والصّلاة، شديد الخشوع، قويَّ السياسة ، وكان لأبيه الزبير وأمه أسماء وخالته عائشة وجده أبي بكر، وجدته صفية عمة رسول الله ﷺ أكبر الأثر على شخصيته من جميع النواحي وهذا ما نلمسه من صفات ابن الزبير التي أهمها:
1 ـ فقهه وعلمه:
كان عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما أحد العبادلة الأربعة الذين تفقهوا في أمور الدين في المدينة المنورة؛ وهم: عبد الله بن الزبير، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وعبد الله بن عمر رضي الله عنهم.
ولابن الزبير في الصحيحين أحاديث اتفقا له على حديث واحد، وانفرد البخاري بستة أحاديث، ومسلم بحديثين ، حدَّث عن رسول الله وهو صغير، وكذلك حدث عن أبيه الزبير وعن جده أبي بكر، وعمر وعثمان، وخالته أم المؤمنين عائشة وغيرهم رضي الله عنهم، وروى عنه مشاهير التابعين منهم أخوه عروة، وطاوس بن كيسان، وعمرو بن دينار، وابن أبي مليكة، وثابت البناني، وغيرهم كثير .
وقد كان رضي الله عنه فقيهاً، وقد قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: لما مات العبادلة: عبد الله بن عباس، وعبد الله بن الزبير، وعبد الله بن عمرو بن العاص؛ صار الفقه في جميع البلدان إلى الموالي ، وعرف ابن الزبير بأنه واسع المعرفة بالقران والسنة، وكان رضي الله عنه من العلماء المجتهدين، عالماً عابداً، ولا غرو في ذلك؛ إذ كان كثير الدخول على خالته عائشة، أم المؤمنين، رضي الله عنها، وهي العالمة الفقيهة، وكانت تحدثه وهو من أحب الناس إليها بعد رسول الله ﷺ، وبعد أبيها أبي بكر الصديق، رضي الله عنه، وعنها.
وكانت مدة خلافة عبد الله بن الزبير تسع سنوات، وقد حج خلالها ثماني مرات، وفي السنة الأخيرة كان محاصراً فلم يستطع الحج. خطب ابن الزبير مرة الحُجّاج فقال: يا معشر الحجاج ! سلوني فعلينا كان التنزيل ونحن حضرنا التأويل، فقال رجل من أهل العراق: انحلّ جرابي فدخلت فيه فأرة فقتلتها، وأنا محرم، فقال: اقتلوا الفويسقة، فقال: أخبرنا بالشفع والوتر والليالي العشر، فقال: العشر: الثماني وعرفة والنحر، والشفع من تعجل في يومين فلا إثم عليه، ومن تأخر فلا إثم عليه، والوتر: هو هذا اليوم (يعني عرفة)، ولم يكن أحد أعلم بالمناسك من ابن الزبير في عهده . وقال عنه ابن عباس رضي الله عنهما: كان قارئاً لكتاب الله متبعاً لسنة رسول الله ﷺ، قانتاً لله صائماً في الهواجر من مخافة الله، ابن حواري رسول الله، وأمه بنت الصديق، وخالته عائشة حبيبة حبيب الله زوجة رسول الله ﷺ، فلا يجهل حقه إلا من أعمى الله بصيرته . وكتب في فقهه رسالة علمية للطالب محمد عبد الرضا هادي بالعراق.
2 ـ عبادته وتقواه:
تواترت الروايات التي تصور لنا حرص ابن الزبير على العبادة من صلاة وصيام وغيرها، حتى إنها أصبحت معالم شخصيته ، قال عنه مجاهد: لم يكن أحد يطيق ما يطيقه ابن الزبير من العبادة (رضي الله عنه)، وقال: جاء سيل مرة فطبق أبنية الكعبة فجعل ابن الزبير يطوف سباحة .
وكان ابن الزبير رضي الله عنهما كثير العبادة، إذا قام إلى الصلاة انقطع عن الدنيا ونسي مشاغلها وما فيها من حلو ومر، وخرج من كل شيء إليها، فقد روي: أن ابن الزبير كان يوماً يصلي، فسقطت حية من السقف فطوقت بطن ابنه هاشم، فصرخ النسوة وانزعج أهل المنزل واجتمعوا على قتل تلك الحية، فقتلوها وسلم الولد، فعلوا هذا كله وابن الزبير في الصلاة لم يلتفت ولا درى بما جرى حتى سلّم . وقال عنه ثابت البناني: كنت أمر بابن الزبير وهو خلف المقام يصلي كأنَّه خشبة منصوبة لا تتحرك ، وقال يزيد بن إبراهيم: عن عمرو بن دينار، قال: كان ابن الزبير يصلي في الحجر والمنجنيق يصيب ثوبه، فما يلتفت ـ يعني: لما حاصروه ، وعن ابن أبي مليكة: قال لي عمر بن عبد العزيز: إن في قلبك من ابن الزبير. قلت: لو رأيته، ما رأيت مناجياً ولا مصلياً مثله، وعن ابن أبي مليكة قال: كان ابن الزبير يواصل سبعة أيام، ويصبح في اليوم السابع وهو أليَثُنا . وعلق الذهبي على ذلك فقال: لعله ما بلغه النهي عن الوصال، ونبيك ﷺ بالمؤمنين رؤوف رحيم، وكل من واصل وبالغ في تجويع نفسه، انحرف مزاجه وضاق خلقه، فاتباع السنة أولى، ولقد كان ابن الزبير مع مُلكه صِنفاً في العبادة .
3 ـ جرأته وشجاعته:
كان عبد الله بن الزبير فارس قريش في زمانه، وكان يشتد بالسيف وقد ناهز السبعين كأنه فتى في ربيع العمر، قال عنه عثمان بن طلحة: كان ابن الزبير لا ينازع في ثلاثة: لا شجاعة ولا عبادة ولا بلاغة ، وعن هشام بن عروة قال: كان أول ما أفصح به عمي عبد الله بن الزبير وهو صغير السيف، فكان لا يضعه من فيه، فكان أبوه إذا سمع ذلك منه يقول: أما والله ليكونن لك منه يوم ويوم وأيام ، وكان مشهود له بالشجاعة منذ كان صغيراً، وقد مرّت شجاعته في اليرموك وفي حصار القسطنطينية وفي فتح إفريقية، وفي دفاعه عن عثمان يوم الدار، وفي قتاله في الجمل، وسيأتي الحديث عن شجاعته أكثر بإذن الله في حصار الحجاج له بمكة، وكان يقول: والله إني لا أبالي إذا وجدت ثلاثمئة يصبرون صبري لو أجلب عليَّ أهل الأرض ، وكان يضرب بشجاعته المثل ، وكان ابن الزبير متأثراً بشجاعة أبيه وإقدامه وشجاعة جده الصديق، وأمه وأخواله، وعلى رأسهم عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق.
4 ـ فصاحته وخطابته:
كان ابن الزبير رضي الله عنهما لا ينازَع في فصاحته، وكان من خطباء قريش المعدودين، وكان إذا خطب يشبَّه بجده أبي بكر الصديق (رضي الله عنه) في حركاته وإشاراته ونبرات صوته، وكان صيتاً إذا خطب، ويروى: أن المسلمين عندما انتصروا على البربر فقتلوا منهم خلقاً كثيراً وغنموا أموالاً وغنائم كثيرة جداً، فبعث ابن أبي سرح بالبشارة مع ابن الزبير إلى عثمان، فقص على عثمان الخبر وكيف جرى، فقال له عثمان: إن استطعت أن تؤدي هذا للناس فوق المنبر، قال: نعم، فصعد ابن الزبير فوق المنبر فخطب وذكر لهم كيفية ما جرى، قال عبد الله: فالتفت فإذا أبي الزبير في جملة من حضر، فلما تبينت وجهه كاد يرتج عليّ في الكلام من هيبته في قلبي، فزبرني بعينه وأشار إلي ليحظنني، فمضيت في الخطبة كما كنت، فلما نزلت قال: والله لكأني أسمع خطبة أبي بكر الصديق حين سمعت خطبتك يا بني .
وعن محمد بن عبد الله الثقفي، قال: شهدت ابن الزبير بالموسم خرج علينا قبل التروية بيوم وهو محرم، فلبى بأحسن تلبية سمعتها قط، ثم حمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد فإنكم جئتم من افاق شتى وفوداً إلى الله عز وجل، فحق على الله أن يكرم وفده، فمن كان منكم يطلب ما عند الله؛ فإن طالب ما عند الله لا يخيب، فاصدقوا قولكم بفعل؛ فإن ملاك القول الفعل، والنية النية، القلوب القلوب، الله الله في أيامكم هذه؛ فإنها أيام تغفر فيها الذنوب، جئتم من افاق شتى في غير تجارة ولا طلب مال ولا دنيا ترجون هاهنا. ثم لبى ولبى الناس، فما رأيت باكياً أكثر من يومئذ .
وقال سعيد بن المسيب: خطباء قريش في الإسلام: معاوية وابنه، وسعيد وابنه، وعبد الله بن الزبير .
ومن خطبه المشهورة: خطبته في أهل مكة بعد مقتل الحسين رضي الله عنه، وخطبته في الخوارج حين ناظرهم، وخطبته بعد مقتل أخيه مصعب في العراق ، ومن مواعظه المشهورة ما كتبه لوهب بن كيسان؛ حيث قال: كتب إليّ عبد الله بن الزبير بموعظة: أما بعد؛ فإن لأهل التقوى علامات يُعرفون بها، ويعرفونها من أنفسهم: صدق الحديث، وأداء الأمانة، وكظم الغيظ، وصبر على البلاء، ورضا بالقضاء، وشكر للنعماء، وذلّ لحكم القران، وإنما الأيام كالسوق ما نفق فيها حمل إليها، إن نفق الحق عنده حمل إليه وجاءه أهله، وإن نفق الباطل حمل إليه وجاءه أهله .
ولا شك: أن صفة الخطابة والقدرة على الإقناع من أهم الأمور التي يجب أن يتحلى بها أي زعيم، وقد أفاد ابن الزبير من ذلك كثيراً، وكانت فصاحته وقدرته الخطابية عاملاً من عوامل نشر أفكاره والقيم التي امن بها في حياته.
5 ـ عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما وجوده:
كان عبد الله بن الزبير كريماً يعطي حقوق الرعية كاملة، ويزيد إلى من يستحق، ولا يدفع إلا بطرق مشروعة، ولكن اتهمه بعضهم بالبخل إذ لم يكن مبذراً يعطي عن يمين وعن شمال من لا يستحق، ولم يكن مسرفاً فلا يدفع إلا قدر الحاجة، ولا يُقدّم للمدّاحين والمتزلّفين، وهم عادة أصحاب ألسنة حادة، ومنها تخرج الشائعات الهادفة، غير أن ابن الزبير لم يكن يُبالي بما يُقال، ما دام أنه على الجادة ، وقد انساق كثير من الباحثين وراء روايات الخصوم واتهموا ابن الزبير بالبخل، وهذا الوصف فيه تجنٍّ على حقيقة ابن الزبير، وللأسف أن أصحاب الدراسات الحديثة لم يلتفتوا إلى الروايات الأخرى التي تنفي صفة البخل عن ابن الزبير .
والذي يظهر أن صفة البخل التي وصف بها ابن الزبير كانت بسبب سياسته المالية المتشددة، ذلك أن ابن الزبير كان يتأسَّى بالخلفاء الراشدين، وينظر إلى ما بيده من مال أنه ليس ملكاً له وإنما هو للمسلمين، ومن ثمّ لا ينفقه إلا في وجوهه الشرعية ؛ فالذين عاشوا في ذلك العصر ورأوا سياسة ابن الزبير المتشددة وقارنوها بسياسة الأمويين في الإنفاق لكسب الأنصار والمؤيدين والشعراء، اتهم بعضهم ابن الزبير بالبخل، وهذه الاثار تدل على كرم وجود ابن الزبير رضي الله عنهما وحرصه على أموال المسلمين:
أ ـ شهادة السيدة عائشة في كرم ابن الزبير:
قالت عائشة بنت طلحة: خرجت مع أم المؤمنين عائشة ـ وهي خالة عائشة بنت طلحة ـ، فبينما نحن كذلك إذا براجز يقول:
أنشد من كان بعيد الهمّ

يدلني اليوم على ابن أمّ

له أب فـي باذخ أَشَم

وأمه كالبدر ليل تم

مقابل الخال كريم العمّ

جرّعه أكؤسه بسمّ

قالت: فلما سمعت أم المؤمنين الأبيات دعت به، فقالت له من وراء حجابها: يا عبد الله ! سمعت رسول الله ﷺ يقول: «الدّال على الخير كفاعله». فحاجتك رجل بين يديك، فاسأل عن عبد الله بن الزبير، فإنه شرطك، فخرج الرجل حتى أدرك عبد الله بن الزبير، فحمله على راحلة وصنع إليه معروفاً .
ب ـ شهادة معاوية بن أبي سفيان في ابن الزبير رضي الله عنهم:
سمع معاوية رضي الله عنه رجلاً وهو يقول:
ابن رقاش ماجد سَمَيْدع

يأتي فيعطي عن يدٍ أو يمنع

فقال: ذاك عبد الله بن الزبير

جـ نابغة بني جعدة وابن الزبير:
عن عبد الله بن عروة قال: أقحمت السنة نابغة بني جعْدة، فدخل على عبد الله بن الزبير المسجد الحرام، فأنشده:
حكيتَ لنا الصِّديقَ لمَّا وليتَنَا
وعثمانَ والفاروقَ فارتاحَ مُعْدمُ

وسويتَ بينَ الناسِ في الحقِّ فاستَوَوْا
فعادَ صباحاً حَالكُ اللونِ مظلمُ

أتاكَ أبو ليلى يجوبُ به الدُّجى
دُجى الليل جوّاب الفلاة عَثمثمُ

لتجبرَ مِنْهُ جانباً دَعْدَعَتْ به
صُروفُ الليالي والزمانُ المُصَمّمُ

فقال ابن الزبير: هوّن عليك أبا ليلى ! فإن الشعر أهون وسائلك عندنا، أمّا صفوة مالنا فلال الزبير، وأمّا عفوته فإن بني أسد تشغلها عنك، وتيماً، ولكن لك في مال الله حقان: حق برؤيتك رسول الله ﷺ، وحق لشركتك أهل الإسلام في فيئهم، ثم أخذ بيده فدخل به دار النَّعَم، فأعطاه قلائص سبعاً وجملاً رحيلاً، وأوقر له الركاب براً وتمراً وثياباً فجعل النابغة يستعجل ويأكل الحب صِرْفاً، فقال ابن الزبير: ويح أبي ليلى، لقد بلغ الجهد . فهذا الخبر ينفي ما روي عن بخل ابن الزبير، ففرق بين البخل والحفاظ على مال المسلمين، فقد بدا واصخاً من كلام عبد الله بن الزبير تبريره حق النابغة الجعدي فيما منحه إياه دون أي اعتبار لما مدحه به من شعر .
د ـ عبد الله بن عروة ابن أخ ابن الزبير:
جاء في رواية للزبير بن بكار: أن عبد الله بن الزبير زوّج ابنته أم حكيم من ابن أخيه عبد الله بن عروة، فأرسل عروة إلى أخيه عبد الله عشرين ألف درهم، فردها عبد الله قائلاً: لو أردت المال لوجدته عند غيرك .
هـ حمزة بن عبد الله بن الزبير في سجن أبيه:
قدم حمزة بن عبد الله بن الزبير على أبيه بعد أن عزل من العراق، فلما سأله أبوه عن المال، أخبره بأنه وزعه على قومه فوصلهم به، فقال له ابن الزبير: مال ليس لك ولا لأبيك، ثم سجنه.
وهكذا يتضح حرص ابن الزبير على المال العام، وإنفاقه وكرمه الذي لا تجاوز فيه لشرع الله في الإنفاق.

يمكنكم تحميل كتاب الدولة الأموية عوامل الإزدهار وتداعيات الإنهيار
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي:
الجزء الأول:
http://alsallabi.com/uploads/file/doc/BookC9(1).pdf
الجزء الثاني:
http://alsallabi.com/uploads/file/doc/BookC139.pdf
كما يمكنكم الإطلاع على كتب ومقالات الدكتور علي محمد الصلابي من خلال الموقع التالي:
http://alsallabi.com 

 


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022