(شهادة محمد البشير الإبراهيمي في ابن باديس)
من كتاب كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي(ج2):
الحلقة: 184
بقلم: د.علي محمد الصلابي
صفر 1443 ه/ سبتمبر 2021
عندما رفض الشيخ محمد البشير الإبراهيمي دعم فرنسا في الحرب العالمية الثانية ؛ تمّ نفيه من قبل السلطات الفرنسية إلى منفاه بمدينة افلو، ووصلت إليه آخر رسالة من أخيه الشيخ عبد الحميد بن باديس، وكانت وجيزة الألفاظ وقوية المعاني، جاء فيها: الأخ الكريم الأستاذ الشيخ البشير الإبراهيمي سلمه الله، وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته وبعد، فقد بلغني موقفكم الشريف الجليل العادل فأقول لكم؟ الان يا عمر، فقد صنت العلوم والدين، صانك الله وحفظك في تركتك، وعظمتهما عظم الله قدرك في الدنيا والاخرة، وأعززتهما أعزك الله أمام التاريخ الصادق، وبيّضت محيّاها بيّض الله محيّاك يوم القيامة، وثبّتك على الصراط المستقيم، وجب أن تطالعني برغباتكم والله المستعان.
من أخيكم عبد الحميد بن باديس
وبعد عشرة ايام فقط من نفيه إلى افلو، وبعد أربعة أيام فقط من كتابة هذه الرسالة الخالدة توفي إلى رحمة الله الشيخ الرئيس الإمام عبد الحميد بن باديس، فجاء نعيه بعد تلك الرسالة بهذا الموت الفجائي، ونشرت جريدة «لا ديبيش الحريان» الخبر مقتضباً مع صورة الإمام في الصفحة الأولى في 17 أفريل، فحزن الأستاذ حزناً بالغاً وبكى بكاء مراً، وضاق صدره لعدم تمكنه من حضور جنازته، ففوض أمره إلى الله واسترجع، وكتب إلى اخوانه بقسنطينة رسالة تعزية بث فيها أحزانه وشجونه، وقسم نفسه إلى قسمين: نفس سائلة، ونفس مجيبة. ننقل للقراء من الرسالة الأسئلة والأجوبة.
قال رحمه الله: وسألت نفس أختها بأين؟
فأجابت المجيبة بلا أين؟
سؤال السائلة:
أين؟ ـ يا أخت ـ الحسام المنتضي لصروف الدهر في اليوم العصيب
أين؟ ـ يا أخت ـ الإمام المرتضى ذو البيـــــــــان الحر والرأي المصيب
أين؟ من إن أمحل الفكر مضى يرحض الإمحال بالفكر الخصيب
جواب المجيبة:
جاء المحتوم من صرف القضا فقضى لم يرضَ بالدنيا نصيب
سؤال:
أين؟ ـ يا أخت ـ هلال الداجية فارس الحلبة كشاف الكرب
كان نوراً في الليـــــــــــــالي الساجية ويل قومي إن توارى أو غرب
أين؟ ـ يا أخت ـ إمام الناجية وأمين الله عن مجــــــد العــــــــرب
جواب:
حرمت منه النفوس الراجية وتمثلت حظها منها الترب
سؤال:
أين؟ حامي الدين من شوب الضلال ومجير الحق من إفك الهوى
أين؟ ـ يا أخت ـ حواري الجــــــــــلال صيقل الأذهان أكسير القوى
عاف خفض العيش في برد الظلال وامتطى للمجد نزاع الشوى
جواب:
خبر الأظعان والحي الحلال أن نجم الدين قد هوى
سؤال:
أين؟ ليث كان بالأمس هنا خــــــــــــــادراً قد ملأ الدنـــــــــــيا زئيــــــــــر
أغلـــــــــــــبا في لبـــــــتدتين ارتهــــــــــــنا عن عـــــــــــرين الدين يرمي ويجــــــــــير
ما ونى عن فــــــرصة أو وهــــــــنا هل رأيت المخذم العضب الطرير
جواب:
هجر الغيل وأسرى موهنا والحمى أصبح نهباً للمغير
سؤال:
أين؟ منا اليوم يا أخت الرئيس كم به قد رفع القوم الرؤوس
ما له غاب؟ فما منه حسيس ما له أقصر واليوم عبوس
من رمى الأمة بالجد التعيس وسقاها جرع الغم كؤوس
جواب:
غاله من خاتل الموت دسيس فهو قد أصبح رهناً في الرموس
إلى أن قال: والسلام عليكم مجتمعين على الحق ومتفرقين في خدمة الحق.
أخوكم المعتد بوجودكم وعطفكم
محمد البشير الإبراهيمي
أفلو يوم السبت 13 رجب الفرد عام 1359هـ.
وقال عنه الإبراهيمي: عبد الحميد بن باديس باني النهضة الجزائرية وإمامها، ومدرب جيوشها، عالم ديني، ولكن ليس كعلماء الدين الذين عرفهم التاريخ الإسلامي في قرونه الأخيرة، جمع الله فيه ما تفرق في غيره من علماء الدين في هذا العصر، وأربى عليهم بالبيان الناصع، واللسان المطاوع، والذكاء الخارق، والفكر الولود، والفعل اللماح، والفهم الغواص على دقائق القران، وأسرار التشريع الإسلامي، والاطلاع الواسع على أحوال المسلمين، والإلمام الكافي بمعارف مع التمييز بين ضارها ونافعها، مع أنه لا يحسن لغة من لغاته غير العربية، وكان من التضلع في العلوم الدينية واستقلاله في فهمها إماماً في العلوم الاجتماعية، يكمل ذلك كله قلم بليغ شجاع يجاري لسانه في البيان والسحر، فكان من أخطب خطباء العربية، وفرسان منابرها، كما كان من أكتب كتّابها.
ويقول فيه: الحقيقة التي لا يختلف فيها اثنان، والشهادة التي يؤديها لوجه الحق حتى رجال الاستعمار، هي أن أول صيحة ارتفعت بحرية الجزائر كانت من لهاة عبد الحميد بن باديس ولسانه، وأن أول صخرة وضعت في أساس نهضة الجزائر إنما وضعتها يداه
كل ما يوجد اليوم في الجزائر من حركات فهو مدين لجمعية العلماء بوجوده، وكل ما يعلو فيها من أصوات، فهو صدى مردد للكلمات النارية التي كان يقذفها لسان مبين يترجم عن علم مكين ودين متين.
وكتب عنه فصلاً قيماً في البصائر بعنوان «الرجال أعمال» مما قال فيه:... باني النهضتين العلمية والفكرية بالجزائر، وواضع أسسها على صخرة الحق، وقائد زحوفها الخيرة إلى الغايات العليا، وإمام الحركة السلفية، ومنشأئ مجلة الشهاب مراة الإصلاح، وسيف المصلحين، ومربي جيلين كاملين على الهداية القرآنية والهدي المحمدي والتفكير الصحيح، ومحيي دروس العلم بدروسه الحية، ومفسر كلام الله على الطريقة السلفية في مجالس انتظمت ربع قرن، وغارس بذور الوطنية الصحيحة، وملقن مبادئها، علم البيان وفارس المنابر، الأستاذ الرئيس الشيخ عبد الحميد بن باديس أول رئيس لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين، وأول مؤسس لنوادي العلم والأدب وجمعيات التربية والتعليم، رحمه الله ورضي عنه.
وحسب ابن باديس من المجد التاريخي هذه الأعمال التي أجملناها في ترجمته، وإن كان واحد منها لأصلٌ لفروع وفصل من كتاب، وإذا كان الرجال أعمالاً ؛ فإن رجولة أخينا عبد الحميد تقوم بهذه الأعمال. وحسبه من المجد التاريخي أنه أحيا أمة تعاقبت عليها الأحداث والغِيَر، وديناً لابسته المحدثات والبدع، ولسان أكلته الرطنات الأجنبية، وتاريخاً غطى عليه النسيان، ومجداً أضاعه ورثة السوء، وفضائل قتلتها رذائل الغرب.
وحسبه من المجد التاريخي أن تلامذته اليوم هم جنود النهضة العلمية، وهم ألسنتها الخاطبة وأقلامها الكاتبة وهم حاملوا ألويتها، وأن اراءه في الإصلاح الديني والاجتماعي والسياسي ؛ هي الدستور القائم بين العلماء والمفكرين والسياسيين، وهي المنارة التي يهتدي بها العاملون، وأن بناءه الوطنية الإسلامية هو البناء الذي لا يتداعى ولا ينهار.
وحسبه من المجد التاريخي أن إخوانه الذين حملوا معه معظم الأمانة في حياته، اضطلعوا بحملها كاملة بعد وفاته، في أيام أشد تجهماً من أيامه، وفي هزاز ما كان يتخيلها في أحلامه، فما وهنوا ولا هانوا ولا ضعفوا ولا استكانوا، وإنهم استخلفوا على النهضة فكانوا نعم الخلف تمموا وعمموا، وأجمعوا وصمموا، وأنهم وفَّوا له ميتاً كما وفَّوا له حياً، واعتزوا باسمه بعد مماته كما كان يعتز بهم في حياته.
وأرسل محمد البشير الإبراهيمي رسالة تعزية في ابن باديس للأستاذ أحمد توفيق المدني.
الأخ الأستاذ أحمد توفيق المدني حفظه الله:
أخي، أعتقد أن الراحل أخي العزيز لم يكن لأحد دون أحد، بل كان كالشمس لجميع الناس، وأعتقد أن فقده لا يحزن قريباً دون بعيد، وأن أوفر الناس حظاً من الأسى لهذا الخطب هم أعرف الناس بقيمة الفقيد وبقيمة الخسارة بفقد للعلم والإسلام، لا للجزائر وحدها، فلهذا بعثتُ أعزيكم على فقد ذلك البحر الذي غاض بعد أن فاض، ببقاء اثاره في الحياض وأنهاره في الرياض، كما يعزى على مغيب الشمس بشفقها، وعن ذبول غضارة الشباب ببقاء رونقها، وإن كانت التعازي تعاليل لا تطفي الغليل، ولكنها على كل حال تحمل بعض الروح من كبد تتلظى شجناً إلى كبد تتنزى حزناً.
وظني في أخي أنه لو كان يعرف عنواني لكان أول معزّ لأول معزّى.
واحسرتاه، رحم الله الراحل العزيز جزاء ما بثّ من علم وزَرَعَ من خير، وثقف من نفوس ؛ ولله ذلك اللسان الجريء، وذلك الجنان المشع، وذلك الرأي الملهم، وإنا لفقدك يا عبد الحميد لمحزونون.
أخوكم الحزين الإبراهيمي.
يمكنكم تحميل كتب كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي من موقع د.علي محمَّد الصَّلابي:
الجزء الأول: تاريخ الجزائر إلى ما قبل الحرب العالمية الأولى
alsallabi.com/uploads/file/doc/kitab.PDF
الجزء الثاني: كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي وسيرة الزعيم عبد الحميد بن باديس
alsallabi.com/uploads/file/doc/BookC135.pdf
الجزء الثالث: كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي من الحرب العالمية الثانية إلى الاستقلال وسيرة الإمام محمد البشير الإبراهيمي
alsallabi.com/uploads/file/doc/BookC136(1).pdf
كما يمكنكم الإطلاع على كتب ومقالات الدكتور علي محمد الصلابي من خلال الموقع التالي: