الأربعاء

1446-11-02

|

2025-4-30

اهتمام الرسالة المحمدية بالعقل البشري وتميزها بالمنهج الفكري

الحلقة: الرابعة والأربعون

بقلم الدكتور علي محمد الصلابي

ذو الحجة 1441 ه/ أغسطس 2020


من خصائص الرسالة المحمدية ، أنّها أحلّت العقل الإنسانيَّ محله اللائق ، فخاطبته لإيقاظه ، ودفعته لاستخدامه ، قال تعالى: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لاَ يَخْلُقُ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ *} [النحل : 17].
وقال تعالى: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ *} [المؤمنون : 91].
قال تعالى: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا *}[النساء : 82].
فمن خصائص الدعوة المحمدية أنّها تخاطِبُ الإنسان كلّه ، وجدانه وفكره على السواء ، وكما يستثيرُ القرانُ وجدانَ الإنسان ، لينفعلَ بمشاهدة ايات الله ويستسلمَ له ، فكذلك يوقِظُ القرانُ عقلَ الإنسان ليتدبّر ، وليناقِشَ الأمورَ مناقشة فكرية منطقية هادئة تصلّ به إلى اليقين، قال تعالى: {وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ * أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ *أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ *أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ *} [النمل : 59 ـ 64].
وقال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ *} [البقرة : 170].
وقال تعالى: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً *} [الاسراء : 36].
وقال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ *}[سبأ : 46].
إنّ هذه الايات وأمثالُها تكوِّنُ في مجموعها منهجاً فكرياً للوصولِ إلى الحقّ يمكن تلخيصُه في هذه النقاط:
* عدم اقتفاء أي فكرة قبل تمحيصها وعرضها على البرهان والمنطق ، لأنّ الإنسان مسؤول عن تفكيره واعتقاده ، لأنّ الله أعطاه سمعاً وبصراً وعقلاً ، ليفكر لنفسه ، ويتدبر ، ويوم القيامة يسأل عن سمعه وبصره وعقله: كيف اقتفى شيئاً دون أن يعرف حقيقته؟.
* التدبّر في كلّ الأمور بالمنطق العقلي ، وعدمُ اتخاذ المواقفِ بدافع الهوى ، لأنّ الهوى يُعمِي الإنسان عن الحق.
* التخلّي عن التقليد الأعمى ، والموروثات الفاسدة ، التي لا تقومُ على دليلٍ ولا برهان.
فإذا اتّبع الإنسانُ المنهج ، فألقى عنه موروثاته ، التي لا تقومُ على دليل ، وكفّ عن التقليدِ الأعمى ، ورفضَ أن يتّبَعَ شيئاً يعرضُ عليه إلاّ ببرهانٍ ، ثم راحَ يفكّر بالمنطقِ ، بعيداً عن الهوى ، فإنّه لابدّ واصلٌ بإذن الله إلى الحق.
إنّ الإسلام دعا العقل البشري أن يعملَ فيما هو متاحٌ له ، ليصلَ إلى اليقين في تلك الحقائق الرئيسة الكبرى التي تكوّن أساسَ الإيمان.
على أنّ المنهج الفكري الذي تتميّز به هذه الدعوة ، لا ينحصِرُ فيما يتعلّق بأمور العقيدة ، بل يمتدّ فيشمل ميادين أخرى ، فإذا كان القرانُ قد طالب العقل البشري بأن يتدبّر اياتِ الله في الكون ، ليتعرّفَ على الخالق ، الذي له ملك السماوات والأرضِ ، وهو على كل شيء قدير ، فقد طالبه كذلك بالتفكر في تلك الايات ، ليتعرّف على السنن الربانية ، التي تحكمُ سيرَ هذا الكون ليتمكن من استخدام ما سخّر الله له في هذا الكون من طاقات: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} [الجاثية : 13]. {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً *} [الاسراء : 12]. {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ} [البقرة : 189]
وإنّ أمثال هذه التوجيهات في القران والسنة ، لا تكتفي بطلب مشاهدة الأشياء ، بل تلفِتُ النظر إلى عللها ، التي بعثت الأمة الإسلامية تطلب العلم من مصادره ، التي كانت متاحة يومئذ ، ثم تنشأى من بعدُ حركتها العلمية الذاتية ، التي تتلمذت عليها أوربة ، فأنشأت نهضتها ، وكان أبرزُ ما فيها منهجَ المشاهدة والملاحظة والتجريب ، الذي يقومُ على أساسه كلُّ التقدم العلمي الحاضر ، كذلك يطلبُ القران من العقل البشري أن يتأمّلَ في حكمة التشريع (بقدر ما يتاحُ له) حتى إذا طبّقه كان تطبيقه واعياً متفهّماً ، فتختم كثيراً من الأحكام بمثل هذا التعقيب: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ *} [النور : 61].
وهذا التوجيه هو الذي أنشأ الفقه الإسلامي، وهو أثمنُ ما أنتجه العقل المسلم من روائع ، وما يزالُ هذا الإنتاج حياً وقابلاً للحياة والنمو ما دامت الحياة ، كما أنّ الإسلام وجّه العقل البشري إلى تدبّر السنن الربانية ، التي تسيّرُ حياةَ البشر على الأرض ، قال تعالى: {وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً *} [الفتح : 23]. وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ}[الرعد : 11]. وقال تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ *} [الروم : 41]. وقال تعالى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا *} [الاسراء : 16].
وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [الاعراف : 96].
وقال تعالى: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ *} [الانعام : 44] وقال تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَآصَّةً} [الانفال : 25].
والغرضُ من هذه التوجيهات هي أنْ يعرفَ الإنسانُ أنّ حياته لا تمضي بلا ضوابط ، وأنّه ليس معفًى من نتائج عمله ، بل إنّ كلّ عمل يعمله الإنسانُ فرداً أو جماعةً له عواقبه ، سواء في الحياة الدنيا ، أو في الاخرة حسب سنن ربانية لا تتبدَّل ولا تتحوّل ، ولا تحابي فرداً ولا جماعة ، فمِنْ أجلِ ذلك عليه أن يتدبّرَ الطريقَ الذي ينبغي أن يسلكه ، ويتدبّرَ عواقبَ عمله قبل أن يقدمَ عليه.
كذلك يطلبُ الإسلامُ من العقل البشري أن يتدبّر عبر التاريخ: {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ *} [ال عمران: 137]. {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ *} [غافر : 21]. {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ *} [الحج : 46] ، فالمطلوبُ إذن دراسة التاريخ ، لا على أنّه مجموعةٌ من الحوادث حدثت بغير رابطٍ ولا دلالةٍ ، ولكن على أنّه يجري حَسْبَ السنن الربانية الثابتة ، وأنّ هناك رباطاً يربطُ الأحداثَ هو قدر الله المقدور ، الذي يسير حسب تلك السنن الثابتة ، فإذا تدبّر العقلُ ذلك ، ووعى عبرةَ التاريخ ، فإنّه قمينٌ ألاّ يقعَ فيما وقعَ فيه السابقون من أخطاء وخطايا ، بل يقوّم خطأه بحيث لا يصطدِمُ مع السنن الربانية ، فيسيرُ امناً في الحياة الدنيا ، وفي طريق يؤدّي به إلى الأمن في الدار الاخرة ، وعلى ذلك يمكن تلخيص المجالات التي يطلبُ الإسلامُ من العقل البشري أن يتفكّرَ فيها بهذه المجالات الخمسة:
* التدبر في ايات الله في الكون، للتعرّف على الخالق، والإيمان به ، والتسليم له ، والتعرّف على السنن التي يسير الكون لاستخلاص طاقاته ، وتسخيرها لعمارة الأرض.
* التدبر في حكمة التشريع ، لإحسان تطبيقه على الأحوال المتجدّدة في حياة الناس.
* التدبر في السنن الربانية ، التي تسيّرُ حياة الناس في الأرض بمقتضاها لتقويم حياة المجتمع البشري.
* التدبر في عِبَرِ التاريخ ، والاستفادة منها في تجنّب الأخطاء ، والاستقامة على الطريق الصحيح.
وذلك أوسعُ مجالٍ يمكن للفكر البشري أن يعملَ فيه العمل المثمر المفيد.


يمكنكم تحميل -سلسلة أركان الإيمان- كتاب:
الإيمان بالرسل والرسالات
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي

http://alsallabi.com/uploads/file/doc/Book94(1).pdf


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022