الأربعاء

1446-11-02

|

2025-4-30

تدرّج الأنبياء في الدعوة ومراعاة المصالح والمفاسد

الحلقة: التاسعة والعشرون

بقلم الدكتور علي محمد الصلابي

ذو القعدة 1441 ه/ يوليو 2020


أوّل ما أوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من ربه تبارك وتعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ *} [العلق : 1] ، وذلك أوّل نبوته ، فأمره أن يقرأ في نفسه ، ولم يأمره إذ ذاك بالتبليغ ، ثم أنزل عليه: {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ *قُمْ فَأَنْذِرْ *} [المدثر : 1 ـ 2] فنبأه بقوله: {اقرأ} وأرسله بـ {يا أيها المدثر} ثم أمره أن ينذرَ عشيرته الأقربين ، ثم أنذرَ قومه ، ثم أنذرَ مَنْ حولهم من العرب ، ثم أنذر العربَ قاطبةً ، ثم أنذرَ العالمين ، فأقام بضعَ عشرةَ سنةً بعد نبوته ، ينذِرُ بالدعوة بغير قتال ولا جزية ، ويؤمَرُ بالكفِّ والصبرِ والصفحِ ، ثم أذن له في الهجرة ، وأذن له في القتال ، ثم أمره أن يقاتِلَ منْ قاتله ، ويكفَّ عَمّنْ اغترَّ به ولم يقاتله. ثم أمره بقتال المشركين حتى يكونَ الدين كلّه لله.
ثم كان الكفار معه بعد الأمر بالجهاد ثلاثة أقسام: أهل صلح وهدنة ، وأهل حرب ، وأهل ذمة ، فأمر بأنْ يتمَّ لأهل العهد والصلح عهدهم ، وأن يوفي لهم به ما استقاموا على العهد ، فإن خاف منهم خيانة نبذ إليهم عهدهم ، ولم يقاتلهم حتى يُعْلِمهم بنقض العهد. وأمر أن يقاتل مَنْ نقضَ عهده ، ولما نزلت (سورة براءة) نزلت ببيان حكم هذه الأقسام كلها ، فأمره فيها أن يقاتل عدوّه من أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية ، أو يدخلوا في الإسلام ، وأمره فيها بجهاد الكفار والمنافقين ، والغلظة عليهم ، فجاهد الكفّارَ بالسيف والسنان ، والمنافقين بالحجة واللسان ، وأمره أن يجعل أهل العهد في ذلك ثلاثة أقسام:
1 ـ قسم أمره بقتالهم ، وهم الذين نقضوا عهده ، ولم يستقيموا له ، فحاربهم ، وظهر عليهم.
2 ـ وقسم لهم عهدٌ مؤقّت لم ينقضوه ، ولم يظاهروا عليه ، فأمره أن يتمَّ لهم عهدهم إلى مدتهم.
3 ـ وقسم لم يكن لهم عهد ، ولم يحاربوه ، أو كان لهم عهد مطلق ، فأمر أن يؤجّلهم أربعةَ أشهرٍ ، فإذا انسلخت قاتلهم وهي الأشهر الأربعة المذكورة ، وهي الأشهر الحرم المذكورة في قوله: {فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} [التوبة : 2] ، وهي الحرم المذكورة في قوله: {فَإِذَا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة : 5].
فالحُرُم هاهنا: أشهرُ التسيير ، أوّلها يومُ الأذان ، وهو اليوم العاشر من ذي الحجة ، وهو يومُ الحجّ الأكبر ، الذي وقع فيه التأذين بذلك ، واخرُها العاشر من شهر ربيع الاخر ، وليست هي الأربعة المذكورة في قوله: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} [التوبة : 36] ، فإن تلك واحدٌ فردٌ ، وهو شهر رجب وثلاثة سردٌ: ذو القعدة ، وذو الحجة ، والمحرم ، ولم يسيّر المشركين في هذه الأربعة ، فإنّ هذا لا يمكن ، لأنّها غير متوالية ، وهو إنّما أجّلهم أربعة أشهر ، ثم أمره بعد انسلاخها أن يقاتلهم ، فقتل الناقض لعهده ، وأجَّل مَنْ لا عهدَ له ، أو له عهد مطلق أربعة أشهر ، وأمره أن يُتَمَّ للموفي بعهده عهدَه إلى مدته ، فأسلم هؤلاء كلهم ، ولم يقيموا على كفرهم إلى مدتهم.
وضرب على أهل الذمة الجزية ، فاستقرّ أمرُ الكفار معه بعد نزول براءة على ثلاثة أقسام: محاربين له ، وأهل عهد ، وأهل ذمة ، ثم الت حالُ أهل العهد والصلح إلى الإسلام ، فصاروا معه قسمين: محاربين ، وأهل ذمة ، والمحاربون له خائفون منه ، فصار أهل الأرض معه ثلاثة أقسام: مسلم مؤمن بربه ، ومسالم له امن ، وخائف محارب.
وأما سيرته في المنافقين ، فإنّه أُمِرَ أن يقبلَ منهم علانيتهم ، ويكلَ سرائرَهم إلى الله ، وأن يجاهِدَهم بالعلم والحجة ، وأمره أن يُعرِضَ عنهم ، ويُغْلِظ عليهم بالقول البليغ إلى نفوسهم ، ونهاه أن يصلّي عليهم ، وأن يقوم على قبورهم ، وأخبر أنّه إن استغفرَ لهم فلن يغفرَ الله لهم ، فهذه سيرته في أعدائه من الكفّار والمنافقين.
هذا هو خط دعوته صلى الله عليه وسلم وجهاده منذ أن بعثه الله سبحانه إلى أن مكّن له في الأرض ونصره.
وفترةُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم قبل الهجرة والإذن بالقتال محلّ اتفاق بين الأنبياء جميعاً ، حيث إنّ هديهم عليهم الصلاة والسلام قد اتفق في هذه الفترة مع هدي الرسول صلى الله عليه وسلم في مكة قبل الهجرة حيث الاستضعاف والصبر وكفّ اليد ، أمّا بعد الهجرة ، فكان الجهادُ الذي نصر الله به نبيّه صلى الله عليه وسلم ، وبما أيده به من المعجزات.
أما الأنبياء الذين لم يشرع في حقهم الجهاد وقتال الأعداء ، فكان نصرُ الله عزّ وجلّ ينزل عليهم بعد أن يكونوا قد تجاوزوا مرحلة البناء والابتلاء بنجاح ، وذلك النصرُ يجيء بمعجزةٍ منه سبحانه ، وايةٍ من اياته ، فينصر الله سبحانه به أنبياءه ، ويهلك به أعداءه ، كما نصر نوحاً بالطوفان ، وهوداً بالريح ، وصالحاً بالصاعقةِ ، وشعيباً بعذاب يوم الظلّة.
ومن أهم ملامح الدعوة في فترات الاستضعاف ـ والذي يتّضح من هدي الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في دعوة أقوامهم في تلك المرحلة ـ الصفحُ والصبرُ على الأذى ، وكفُّ اليد ، والاستعانةُ بالله على كلِّ وسائل الأذى والصدّ والاستفزاز ، الذي يقومُ به أهلُ الباطل ، وأعداءُ الدعوة.
إنّ القول بالصفح والصبر في الدعوة وكفّ اليد لا يعني أبداً تركَ الجهر بالدعوة إلى التوحيدِ ، وتبصير الناس بدينهم ، وتصحيح مفاهيمهم ، وتوعيتهم بكيد أعدائهم ، كما أنّه لا يعني بحالٍ من الأحوال ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والنصح للناس بتحذيرهم من الفساد وعواقبه ، وتعرية الباطل ، وإنما المقصود تجنب أي شكل من أشكال المواجهة بالقوة مع الباطل وأهله للأسباب المذكورة سابقاً ، وما سوى ذلك يجب أن يبقى على أشدّه في الدعوة والبلاغ والتربية ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حسب الضوابط الشرعية ، وحسب الاستطاعة ، وقدر ما يملك من فعل الأسباب ، وأنْ توطّءَى النفوسُ على تحمّل الأذى والابتلاءات التي تترتب على دعوة الناس وتبليغهم دينهم حتى إذا جاءت العقبات من الباطل وأنصاره ، فإذا العزائمُ قوية تتحمّل الأذى ، وتثبت ولا تضعف وتتضعضع أمامَ تهويشِ الباطل وتخويفه ، أو أمام ترغيبه ومساوماته.


يمكنكم تحميل -سلسلة أركان الإيمان- كتاب:
الإيمان بالرسل والرسالات
من الموقع الرسمي للدكتور علي الصَّلابي

http://alsallabi.com/uploads/file/doc/Book94(1).pdf


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022