تعرّض الأنبباء عليهم السلام للأذى والصدّ عن سبيل الله عزّ وجلّ مِنْ قِبَلِ أعداء الدعوة.
الحلقة: الثامنة و العشرون
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
ذو القعدة 1441 ه/ يوليو 2020
من سنن الله في دعوة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام تعرّضهم للأذى ، ووقوف المفسدين في طريق دعوتهم ، يصدونهم ، ويشوّهون دعوتهم ، ويؤذونهم بصنوف الأذى والابتلاء ، قال تعالى: {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ *} [الانعام : 34].
ولمّا جاء الرسول صلى الله عليه وسلم إلى ورقة بن نوفل ابن عمِّ خديجة رضي الله عنها ، وأخبره بما رأى في غار حراء من نزول الوحي قال له ورقة: هذا الناموسُ الذي نزّل على موسى: يا ليتني فيها جذعاً ، ليتني أكونُ حياً ، إذ يخرجُك قومك ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أو مخرجي هم؟» قال نعم ، لم يأتِ رجلٌ قطُّ بمثلِ ما جئتَ به إلا عُودي ، وإن يدركني يومك أنصرْك نصراً مؤزّراً.
ومن صور الأذى والصد عن سبيل الله عز وجل التي تعرّض لها أنبياء الله عليهم الصلاة والسلام:
1 ـ السخرية ، ورميهم تارة بالسحر ، وتارة بالجنون والسفاهة ، وتارة بالكذب والضلالة:
والشواهد في القران على هذا كثيرة منها:
قال تعالى عن قوم نوح عليه السلام: {قَالَ الْمَلأَ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ*} [الاعراف : 60]. وقال تعالى: {إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ *} ] المؤمنون : 25].
وقال عز وجل عن قوم هود عليه السلام: {قَالَ الْمَلأَُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ *} [الاعراف : 66].
وقال تعالى عن قوم صالح عليه السلام: {قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ *} [الشعراء : 153].
ونفس هذه المقولة قالها قوم شعيبٍ لنبيهم: {قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ *} [الشعراء : 185].
وقال تعالى عن قوم فرعون: {فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ *} [يونس : 76].
وقال تعالى عن مشركي العرب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم: {بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ بَلْ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الأَوَّلُونَ *} [الانبياء : 5].
وقال عزَّ وجل مخبراً عن هذا الموقف الموحّد من المشركين مع أنبيائهم عليهم السلام: {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ *أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ *} [الذاريات : 52 ـ 53].
2 ـ القتل والسجن والإخراج من الأرض:
قال تعالى: {قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَانُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ *} [الشعراء : 116].
وقال تعالى عن قوم إبراهيم عليه الصلاة والسلام: {قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ *} [الانبياء : 68].
وإخباره تعالى عن تهديد قوم شعيب لنبيهم عليه السلام بقوله تعالى: {قَالَ الْمَلأَُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَاشُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا} [الاعراف : 88].
وقول قوم لوط لنبيهم عليه السلام وأهله في قوله تعالى: {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ *} [النمل : 56].
ولما قصّ الله عز وجل علينا خبرَ قوم نوح وهود وصالح مع رسلهم عليهم السلام في سورة إبراهيم [13] قال بعد ذلك: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنِا}.
وقوله تعالى عن تهديد فرعون لموسى عليه السلام بالقتل: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ} [غافر : 26].
وما تعرض له الرسول صلى الله عليه وسلم من التهديد بالسجن ، أو الإخراج ، أو القتل ، والذي ذكره الله عز وجل في قوله: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ *} [الانفال : 30].
وقال نوح عليه السلام عندما هُدِّدَ بالرجم: {قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ *فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِي مِنَ الْمُؤْمِنِينَ *} [الشعراء : 117 ـ 118].
وقال شعيب عليه السلام عندما هُدِّدَ بالإخراج من بلده: {عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ *} [الاعراف : 89].
وقال لوط عليه السلام بعدما هُدِّدَ بالإخراج: {قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ *رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ *} [الشعراء: 168 ـ 169].
وقد يلجأ المبطلُ إلى القوّة المادية ، فيقتل بعضَ أنبياء الله ، ويعذّب بعضاً اخر ، بعد أن تعوِزُه الحجّة ، وينقصه البرهانُ والدليل ، فيكون التجاؤه إلى التعذيب والتقتيل عنوان خذلانه ، وعلامةً على نصر أعدائه ، ورُبَّ معذب أو قتيل كتب الله له النصر ، ولدعوته الظفر والتأييد ، وربَّ جبار أو عنيد كتب الله عليه الذل ، وسجّل عليه الخذلان ، فكان الأول حياً في موته ، منتصراً في قبره ، وكان الثاني ميتاً في حياته ، مكبوتاً في جبروته وكبريائه ، فهو نصر معنوي ، يظفر فيه الحقّ بالباطل ، وتظهر فيه الحجّة على التقليد ، والبرهان على الشبهة ، وقوة الروح على قوة المادة ، وقد يكونُ مع النصر المعنوي نصرٌ مادي ، كإنجاء الله إبراهيم من النار ، بعد أن دبّروا له ما دبّروا ، وصنعوا له ما صنعوا ، وإنجاء نبينا محمد صلى الله عليه وسلم من تدبير قريش لقتله ، كلُّ ذلك نصر مادّي ، ومعه نصر معنوي.
3 ـ التضييقُ في الرزق ، وانتهاجُ سياسة التجويع والحصار الاقتصادي:
ويتّضحُ هذا مما قام به المشركون في مكة من مقاطعة الرسول صلى الله عليه وسلم ومَنْ امن معه مقاطعةً اقتصادية في البيع والشراء وغير ذلك ، ومحاربتهم في شِعْبِ أبي طالب ، حتى مسّهم الضرُّ ، وبلغ منهم الجوع مبلغاً شديداً ، وكذلك ما نادى به المنافقون في المدينة من محاولةٍ لتضييق سبل الرزق لمن حول رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى يتفرّقوا عنه ، وينشغلوا في بطلب المعاش ، قال تعالى: {هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لاَ تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لاَ يَفْقَهُونَ *} [المنافقون : 17].
وهي قولةٌ يتجلّى فيها خُبثُ الطبع ، ولؤم النحيزة، ذلك أنّه لخسّة مشاعرهم يحسبون لقمة العيش هي كلُّ شيء في الحياة ، كما هي في حسهم ، فيحاربون بها المؤمنين... وهي خطة غيرهم ممّن يحاربون الدعوة إلى الله عز وجل من قديم الزمان إلى هذا الزمان ، ناسين الحقيقة البسيطة ، التي يذكّرهم القرانُ بها قبل ختام هذه الاية: {وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لاَ يَفْقَهُونَ *} [المنافقون: 7].
4 ـ إثارة الفرقة بين أبناء الأمة الواحدة وجعلها أحزاباً وشيعاً:
وهذا واضحٌ من قوله تعالى عن فرعون مصر: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ *} [القصص : 4].
وكذلك ما حاوله اليهود زمنَ الرسول صلى الله عليه وسلم من إثارةِ النعرات بين الأوس والخزرج بعد إسلامهم ، ولكنّهم باءوا بالفشل ، وعصم الله سبحانه الأنصار بوجود الرسول صلى الله عليه وسلم.
5 ـ اتهامهم بالفساد والإفساد وإثارة الفتن:
ويتّضحُ هذا جلياً من قوله تعالى عن المقولة الجائرة لفرعون: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ *} [غافر: 26].
وقال تعالى عن الملأ من قوم فرعون: {وَقَالَ الْمَلأَ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ} [الاعراف : 127].
6 ـ اتّهام الأنبياءِ عليهم الصلاة والسلام بأنّهم طُلاّب مُلْكٍ ودنيا ، وليسوا مخلصين فيما ينادون به:
قال تعالى: {مَا هَذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ} [المؤمنون : 24].
وقوله تعالى أيضاً في مقولة فرعون لموسى عندما رأى معجزة العصا: {قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَامُوسَى *} [طه : 57].
وقوله تعالى عن فرعون وقومه وعن موسى وهارون عليهما السلام:
{أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ *} [يونس : 78].
وفي قوله تعالى: {وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الأَرْضِ} [يونس : 78]: هذه الكلمة مِنْ ملأ فرعون هي إذكاءٌ لشعور الرفعة وأبّهة السلطان ، وتأريثٌ للعداوة والبغضاء لموسى وأخيه ، لأنّه يحاول بعمله هذا أن يَسْلُبَ فرعون مُلكه ، ويقضي على نفوذه وعظمته ، وهي دسيسةُ خبيثةٌ دنيئةٌ ألفناها من بطانات الرؤساء ، وتعوّدناها من حواشي السوء ، إذا كرهوا رجلاً دسّوا عليه تلك الدّسيسة ، واتّهموه بتلك التهمة ، لأنّهم يعلمون أنّ الرؤساء لا يتأثرون بشيءٍ تأثرهم بما يمسّ سلطانهم ، ويتعلق بسلطانهم ، فإذا لقنوهم تلك الكلمة فإنّهم لا يناقشون فيها ، ولا يطلبون عليها دليلاً ، ولا شبه دليل من ذلك المبلِّغ الدسّاس ، وهي طبيعةٌ من طبائع التسلط ، وخُلقٌ من أخلاقه ، ولا تخص رجلاً دونَ اخر ، ولا تتعلّق بجيلٍ دونَ جيلٍ.
وقد يعلم ملأ فرعون أنّ موسى عليه السلام وأخاه هارون لا يريدان ملكاً ، وإنما يريدان إصلاحاً في الأرض ، وإنقاذاً لبني إسرائيل من بطش فرعون وظلمه ، ولـكنّ بطانات السوء تأبى إلا أن تظهِرَ المصلحَ بتلك الصورة ، التي من شأنها أن يطيرَ لها لبُّ فرعون ومَنْ على شاكلته من الظلمة المستبدين ، لـذلك لجأوا إلى تلك الدسيسـة ، دسيسة أنّهما يريدانِ مُلكـاً ، ولا يريدان رسالـة.
وهذه الصور من الأذى والصدّ عن سبيل الله تعالى تبيّنُ لنا سنةَ الله عزّ وجل في الصراع بين الحق والباطل ، وسنته سبحانه في الابتلاء والتمحيص.
يمكنكم تحميل -سلسلة أركان الإيمان- كتاب:
الإيمان بالرسل والرسالات
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/Book94(1).pdf