تعريف المعجزة وشروطها
الحلقة: الخامسة و الثلاثون
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
ذو القعدة 1441 ه/ يوليو 2020
لم يـرد في القران الكريم ولا في السنة المطهرة مصطلحُ المعجزة ، وإنّما ظهر هذا المصطلح في وقتٍ متأخر بعضَ الشيء ، عندما دوِّنت العلوم ، ومنها علمُ العقـائد ، في أواخر القرن الثاني الهجري وبدايـة الثالث ، لذا نجد أنّ القران الكريم قد استعمل كلمة: (الاية) في صدر إعطاء الدلائل للرسل عليهم الصلاة والسلام لمحاجّة الأقوام ، يقول تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لاَ يُؤْمِنُونَ *}[الأنعام: 109].
كما استعمل القران الكريم تارة لفظة البينة ، كما في قوله تعالى: {قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً} [الاعراف : 73]. والبينة هي الدلالةُ الواضحةُ عقليةً كانت أو حسية.
وتارة يستخدم القران لفظة البرهان ، يقول تعالى: {فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ *} [القصص : 32].
والبرهان بيّن للحجة ، وهو أوكد الأدلة ، ويقتضي الصدقَ لا محالة.
كما يأتي التعبير عن المعجزة أحياناً بالسلطان ، قال تعالى: {تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ *} [ابراهيم : 10].
ولعلّ اختيارهم هذا المصطلح بدلاً من الاية والكلمات الأخرى لإزالة الدلالة المشتركة في الاية من القران الكريم ، كما في قوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا} [البقرة : 106] ، وبين الاية بمعنى العلامة البارزة الدالة على وجود الخالق سبحانه وتعالى ووحدانيته كما في قوله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآَيَاتٍ لأُِولِي الأَلْبَابِ *} [ال عمران: 190].
وبين الاية بمعنى البناء العالي ، كما في قوله تعالى: {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ *} [الشعراء : 128] ، وكذلك الخروج من الدلالات المشتركة في الكلمات الاخرى.
1 ـ تعريف المعجزة: أمرٌ خارقٌ للعادة ، مقرونٌ بالتحدّي ، سالمٌ عن المعارضة ، يظهره الله على يدِ رسله.
فالمعجزة أمر خارق للسنة التي أودعها الله سبحانه وتعالى في الكون ، ولا تخضع للأسبابِ والمسبباتِ ، ولا يمكن لأحدٍ أن يصل إليها عن طريق الجهد الشخصي والكسب الذاتي ، وإنّما هي هبة من الله سبحانه وتعالى ، يختار نوعها وزمانها ليبرهنَ بها على صدق رسوله الذي أكرمه بالرسالة.
والسحرُ والأعمالُ الدقيقة التي يمارسها بعضُ أهل الرياضيات البدنية أو الروحية لا يدخلُ تحت اسم الخارق ، لأنّ لكلِّ من تلك الأمور أساليبَ ووسائلَ يمكن لأيِّ إنسانٍ أن يتعلّمها ويتقنها ويمارسها ، فإذا اتبع الأسباب والأساليب المؤدية إلى نتائجها أمكنه بواسطة الجهد الشخصي والمران والممارسة أن يتوصل إلى تلك النتائج.
أما الأمور الخارقة فلا تدخلُ تحت طاقة البشر، وليست لها أسباب تؤدي إليها.
2 ـ شروط المعجزة:
ومن خلال التعريف السابق للمعجزة نستطيع أن نتلّمس شروطها:
أ ـ أن تكون من الأمور الخارقة للعادة: سواء كان هذا الأمر الخارق من قبيل الأقوال ، كتسبيح الحصى ، وحنين الجذع ، ومثل القران الكريم ، أو يكون من قبيل الفعل ، كانفجار الماء بين أصابع الرسول صلى الله عليه وسلم ، وتكثير الطعام القليل ، وكفايته للجمع الكثير ، أو من قبيل الترك: مثل عدم إحراق النار لسيدنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام ، وعدم إغراق الماء لموسى وقومه ، وعدم سيلانه عليهم.
ب ـ أن يكون الخارق مِنْ وضع الله وإنجازه:
قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ *} [غافر : 78].
فالمعجزةُ هبةٌ من الله سبحانه وتعالى ، لا يستطيعُ أحدٌ أن يعيّنَ زمانها ونوعها: {قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ} [الانعام : 109].
ج ـ سلامتها من المعارضة: فلو استطاع الخصمُ أن يأتي بمثل ما جاء به النبيُّ بطلت حجته، ولم يسلّم له ادعاؤه أنّ هذه الخارقة أو هذا الأمرَ دليلٌ على صدقه ، وأمارةٌ على بعثهِ من قبل الله سبحانه وتعالى.
د ـ أن تقع على مقتضى من يدِّعيها: يشترط في المعجزة أن تكون موافقة لقول مدّعيها، غير مخالفة له ، سواء كان هذا الأمر مطابقاً لطلب المعاندين ، أو مخالفاً له، لأنّ الرسول يبلِّغ عن ربه في تحديد نوع المعجزة وزمانها ، ولا دخل له في هذا التعيين ، فإذا جاءت المعجزةُ على وجهٍ غير الوجه الذي عيّنه الرسول لم تكن دليلاً على صدقه ، بل تثيرُ عندئذٍ الشكوك حول ادّعائه.
ومن هذا القبيل ما وقع لبعضهم ممّا يطلق عليه العلماء (اسم الإهانة) فإذا مسحَ على المريضِ ليُشفى فمات، أو بصق في البئر لتكثير مائه فغار، كما ذكرت بعض الروايات في شأن مسيلمة الكذاب، فلا تكون معجزةً، إنما هي إهانةٌ له، ودليلٌ على كذبه.
ج ـ التحدّي بها: وهذا شرطٌ أساسي في المعجزة لإثباتِ عجز الجاحدين ، وإقامة الحُجّة عليهم ، فإنّ عدم التحدي لمعجزة لا يبرزهَا كدليلٍ وبرهانٍ لكي لا يقول قائل فيما بعدُ: إنّه لو تحدّى بالمعجزة القومَ لتمكَّنوا من الإتيان بها ، والتحدّي يكونُ بالقول الصريح بأن يقولَ الرسولُ: دليل صدقي وصحة ما جئت به هو عجزكم عن الإتيان بمثل هذا الأمر الذي أفعله ، وهذا هو الغالبُ في معجزات الرسل عليهم الصلاة والسلام.
هـ أن يستشهد بها مدَّعي الرسالة على الله عز وجل: أي يجعلها الرسول دليلَ صدقٍ رسالته ، لإثباتها ، وينسب إليه هذا الأمر إلى الله عز وجل ، فيقول مثلاً: ايتي أن يقلبَ الله سبحانه وتعالى هذه العصا ثعباناً ، أو أن يُحييَ الله سبحانه وتعالى هذا الميت عند قولي له (قم).
و ـ تأخّر الأمر المعجز عن دعوى الرسالة:
لأنّه بمثابة الشاهد ، ولا يقوم الشاهِدُ إلا بعد قيام الدعوى ، أما إذا تقدّم على دعوى الرسالة ، فيكون من قبيل (الإرهاص) ، وهي الأمورُ التي تتقدّم على الرسالة ، وتمهّد لها ، كتظليل السحابةِ لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في سفره إلى الشام قبل البعثة.
3 ـ المعجزة قرينةُ الرسالة:
ولولا المعجزةُ لأشكلَ الأمرُ على الناس ، والتبس أمر الصادق بغيره ، ولمّا سلمت الدعواتُ من مدّعين كاذبين ، وتأييد الرسول باية صدق سنة إلهية في رسالات الأنبياء جميعاً ، والقران الكريم يوضّحُ هذه السنة ، ويقرّرها كما ورد في قصص الأنبياء والأمم السابقة ، ولم يؤاخذِ الأقوامَ عندما طالبوا رسلَهم بالاياتِ الدالّة على صدقهم ، إنّما اخذهم عندما عطّلوا ملكاتهم العقلية ، ولم يتدبّروا أثرَ الحكمة والتدبير فيما حولهم ، أو أصرّوا على نوع معيّنٍ من الايات من قِبَلِ العناد والجحود على العادات الجاهلية الموروثة من الاباء ، الذين لم يكونوا على هدى من ربهم.
إنَّ الرسول لا يتميّز عن سائر الناس بجسمه ولا بكلامه ، فكان لا لابدّ من أمارةٍ تدلُّ على صدقه في سفارته هذه بين الخالق سبحانه وتعالى وبين خلقه.
وقد يعطى الرسولُ الايةَ المعجزة عند تبليغه الوحيَ أوّل مرة من غير سؤالٍ وتطلّع كما حدث لموسى عليه السلام: {فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ *يَامُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ *وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَآنٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَامُوسَى لاَ تَخَفْ إِنِّي لاَ يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ *إِلاَّ مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ *وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ *} [النمل : 8 ـ 12].
وقد يُعطاها الرسول بعد تكذيب القوم له ، ومطالبتهم بالاية ، كما حدث لأغلب الأنبياء عليهم صلوات الله وسلامه: {قَالُوا ياهُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ *} [هود : 53].
وقال تعالى: {قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ *مَا أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ *قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ *} [الشعراء : 153 ـ 155].
وعلى الحالتين فإنّها هبةٌ من الله سبحانه لرسله ، فهو المعطي ، وهو الذي يختارُ نوعَها وزمانها ومكانها ، ودورُ الرسول فيها أنّها تتجلّى على يده ، وليس بالضرورة أن تكونَ نفسَ الخارقة التي طلبها القوم ، فإنَّ مدلول الخارقة والإيمان والتصديقِ لصدق الرسول يتحقّق بوجودِ المعجزةِ مطلقاً ، ولا يتوقَّف على نوع خاص من المعجزات ، بل إنّ سنة الله تقضي بتعجيل عذاب الاستئصال للذين لم يذعنوا للاية الخاصة التي سألوها: {وَقَالُوا لَوْلاَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الأَمْرُ ثُمَّ لاَ يُنْظَرُونَ *} [الانعام : 8].
يمكنكم تحميل -سلسلة أركان الإيمان- كتاب:
الإيمان بالرسل والرسالات
من الموقع الرسمي للدكتور علي الصَّلابي
http://alsallabi.com/uploads/file/doc/Book94(1).pdf