تعريف الوحي وأنواعه
الحلقة: الثالثة والثلاثون
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
ذو القعدة 1441 ه/ يوليو 2020
1 ـ تعريف الوحي في اللغة والاصطلاح:
أ ـ الوحي في اللغة:
اسمُ مصدر من أوحى إليه ، إذا أعلمه بمراده في سرعةٍ وخفاء ، ويدور من ثَـمَّ معنى الكلمة في اللغة على الإعلام الخفي السريع الخاص بمن يوجَّه له ، بحيث يخفى على غيره مهما اختلفت أسبابُ هذا الإعلام وواسطته ، لذلك يطلق الوحي على: الإلهام ، والإيحاء ، والإشارة ، والكناية ، والأمر ، والرسالة ، والكلام الخفي ، وكل ما ألقيتَه إلى غيرك.
ب ـ الوحي في لسان الشرع:
إعلامُ الله تعالى مَنْ اصطفاه من عبادِه ما أرادَ إطلاعَه عليه من ألوان الهداية والعلمِ بطريقةٍ غيرِ معتادةٍ للبشر مع الوعي والإدراكِ التامّ لكلِّ ما يتلقّى.
2 ـ أنواع الوحي:
تعدّدت طرق الوحي وأنواعه ، قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِي بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ *} [الشورى : 51]. وهي كما يلي:
أ ـ الرؤيا الصادقة:
الرؤيا الصادقة الصالحة كانت أوّلَ ما بُدِءَى صلى الله عليه وسلم به من الوحي ، كما جاء في حديث عائشة رضي الله عنها ـ قالت: أول ما بُدِأى به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم ، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فَلقِ الصبح، وشُبِّهت بفلق الصبح لظهوره ، ووضوحه ، وكذلك الرؤيا ، وقوعها حقٌّ لا مرية فيه. وكان بَدْءُ الوحي للنبي صلى الله عليه وسلم بالرؤيا الصالحة إرهاصاً للنبوة.
ورؤيا الأنبياء من الوحي ، قال تعالى: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَابُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَاأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ *} [الصافات : 102].
وقال تعالى: {إِذْ قَالَ يُوسُفُ لأِبِيه ياأَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ *} [يوسف : 4].
وقال تعالى في شأن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لاَ تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا *} [الفتح : 27].
ب ـ أن يلقي المَلَكُ في روع النبيِّ صلى الله عليه وسلم وقلبه دون أن يراه ، كما ورد عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ جبريلَ عليه السلام ألقى في روعي أنَّ أحداً منكم لن يخرِجَ مِنَ الدُّنيا حتّى يستكملَ رزقه ، فاتّقوا الله ، وأجملوا في الطلب ، فإن استبطأَ أحدٌ منكم رزقَه ، فلا يطلبْه بمعصيةِ الله ، فإنّ الله لا ينالُ فضلُه بمعصيتِه»، وفي رواية: «فإنَّ الله لا يُنالُ ما عنده إلا بطاعته».
ج ـ أن يـأتيه الوحي مثل صلصلة الجرس فيتلبّس به ، وهو أشدّه على النبيّ صلى الله عليه وسلم.
روى البخاريُّ عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أنّ الحارث بن هشام رضي الله عنه ، سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله كيفَ يأتيك الوحي؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أحياناً يأتيني مثلَ صلصلة الجرس وهو أشدُّه ، فَيَفْصِمُ عنِّي ، وقد وعيتُ عنه ما قال ، وأحياناً يتمثَّلُ لي المَلَكُ رجلاً ، فيكلّمني فأعي ما يقولُ» قالت عائشة رضي الله عنها: ولقد رأيتُه ينزلُ عليه الوحيُ في اليوم الشديد البرد ، فيفصم عنه وإنَّ جبينَه ليتفصّدُ عَرقاً.
وهذا النوع من الوحي كان من أشدِّ أنواع الوحي ، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يعاني منه مشقةً عظيمةً ، كما جاءت بذلك الأحاديث الصحيحة.
ففي (صحيح مسلم) عن عبادة بن الصامت قال: كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم إذا أنزل عليه الوحي نكسَ برأسِهِ ، ونكسَ أصحابُه رؤوسَهم ، فلمّا سُرِّيَ عنه رفع رأسه.
وعن زيد بن ثابت قال: إذا نزل الوحيُ على الرسولِ صلى الله عليه وسلم ثقلَ لذلك ، وتحدّر جبينُه عرقاً ، كأنّه الجُمان ، وإن كان في البردِ.
وعنه أيضاً فيما يروي عنه: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أملى عليه: {لاَ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [النساء : 95]. فجاءه ابنُ أمِّ مكتوم وهو يُملّها عليَّ ، قال: يا رسول الله ، والله لو أستطيعُ الجهادَ لجاهدتُ ، وكان أعمى ، فأنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم وفخذُه على فخذي ، فثقلتْ عليَّ حتّى خِفْتُ أن ترضَّ فخذي ، ثم سُرِّي عنه فأنزل الله الله [النساء: 95]
د ـ مجيء الرسول الملكي في صورة بشر:
وهذه الحالةُ من أيسرِ الأنواعِ ، إذ يرى الرسولُ صلى الله عليه وسلم المَلَكَ ويخاطِبُه ، ويعي منه ما يقول ، وقد يشارِكُه في الرؤيةِ غيرُه من أصحابه ، كما كان جبريل عليه السلام يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم في صورة دحية الكلبيِّ رضي الله عنه ، وجاءه مرةً في صورة أعرابي ، فدخل المسجدَ ، وجلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وأسند ركبتيه إلى ركبتيه ، ووضع يديه على فخذيه ، وأخذ يسأل الرسول صلى الله عليه وسلم ، والرسولُ صلى الله عليه وسلم يجيب ، وهو يصدِّقه بقوله: «صدقت» حتى عجِبَ الصحابة منه ، كيف يسأله ويصدّقه ، ولمّا انصرف ، أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابَه أن يردّوه عليه ، فطلبوه ، فلم يظفروا به ، فقال صلى الله عليه وسلم: «هذا جبريلُ جاءَ ليعلّم الناسَ دينهم».
وفي نزول جبريل عليه السلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال تعالى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ *عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ *بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ *} [الشعراء : 193 ـ 195].
والوحي بواسطة الملك هو الذي عناه الله تعالى بقوله: {أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِي بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ *} [الشورى : 51] ، وهذا الرسولُ في الغالبِ هو جبريل عليه السلام ، وقد يكونُ غيره ، وذلك في أحوال قليلة.
هـ رؤية الملك بصورته التي خلق الله عليها: فيوحي إلى الرسول ما شاء الله أن يوحيه ، وقد وقع هذا للرسول صلى الله عليه وسلم مرّتين ، كما جاء في سورة النجم ، قال تعالى: {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى *فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى *فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى *مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى *أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى *وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى *عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى *}
فقد رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريلَ مرّتين، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى *} جبريل لم أره على صورته التي خُلِقَ عليها غير هاتين المرتين ، رأيته منهبطاً من السماء سادّاً ما بين السماء والأرض».
فأما الأولى ، فكانت في الأرض بُعيدَ بعثته صلى الله عليه وسلم بعد أن فتر الوحي. روى البخاري عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما ، أنه سمع النبيَّ صلى الله عليه وسلم يقول في فترة الوحي: «بينا أنا أمشي إذ سمعتُ صوتاً من السماء ، فرفعتُ بصري ، فإذا المَلَك الذي جاءني بحِرَاءَ جالس على كرسيٍّ بين السماء والأرض ، فرعبتُ منه ، فرجعتُ قلتُ: زمّلوني زمّلوني ، فأنزل الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ *قُمْ فَأَنْذِرْ *وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ *} {فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ *وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ *} [المدثر: 1 ـ 5]. فحمى الوحي وتتابع».
وأما الثانية ، ففي السماء ليلة الإسراء والمعراج ، روى الإمام أحمد رحمه الله بسنده عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال هذه الاية: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى *} [النجم : 13] ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رأيتُ جبريلَ عند سدرةِ المُنْتَهى عليه ستمئة جناحٍ ، ينثرُ مِنْ ريشهِ التهاويلَ والياقوت».
و ـ تكليم الله عز وجل لرسوله بلا واسطة ملك من وراء حجاب:
تكليمُ الربِّ لعبده من وراء حجاب ، كما كلّم الله موسى عليه السلام ، وقد ذكر الله سبحانه تكليمه موسى عليه السلام في كتابه حيث قال تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا *} [النساء : 164]. وقال تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} [الاعراف : 143] ، وقال تعالى: {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِيءِ الْوَادِي الأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَامُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ *وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَآنٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَامُوسَى أَقْبِلْ وَلاَ تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الآمِنِينَ *} [القصص : 30 ـ 31].
وكما كلّم الله محمداً صلى الله عليه وسلم ليلةَ المعراج ، عندما فرض عليه الصلوات الخمس، كما كلّم الله ادم عليه السلام: {وَقُلْنَا يَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ *} [البقرة : 35].
وجميع هذه المراتب ثبتت لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم وهذا من خصائصه.
و ـ وحي الإلهام والإرشاد: أمّا بالنسبة لوحي الإلهام والإرشاد فهو عام ، ولا يختصّ بالأنبياء عليهم صلوات الله وسلامه ، وهو المذكور في قوله تعالى: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ *} [النحل : 68].
ومنه أيضاً قوله تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تَحْزَنِي إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ *} [القصص : 7] ، وهذا وحيُ إلهامٍ وإرشادٍ ، لأنّ من شرط النبوة الذكورةَ ، كما بينا سابقاً.
ومن الإلهام قوله تعالى: {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا} {آمَنَّا واشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ *} [المائدة: 111].
والإلهامُ: هو شيءٌ يوقعه الله في رَوْع مَنْ كُتِبَ له ذلك ، فيلقيه إلى الناس ، فيكونُ مطابقاً للواقع ، وليس من الكهانة ، ولا من باب النجامة والرمل ، ولا من باب تلقين الشيطان.
والفرق بين الإلهام والوحي ، أنّ الوحي معصومٌ من الخطأ ، أما بالنسبة للإلهام فليس معصوماً ، فقد يقعُ وقد ولا يقع.
ومن الإلهام ما يجري على لسان عمر بن الخطاب رضي الله عنه كما في الحديث الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لقد كان فيمن قبلَكم منَ الأمم ناسٌ محدثون ، فإن يكُ في أُمَّتِي أحدٌ فإنَّه عمر»، والحديث إلهام خاص.
ويأتي الوحي بمعنى الإيماء والإشارة ، فقد سمّى القرانُ إشارةَ زكريا إلى قومه وحياً: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا *} [مريم : 11].
وأكثر ما وردت كلمة (وحي) في القران الكريم بمعنى إخبار وإعلام الله من اصطفاه من عباده كل ما أراد إطلاعه عليه من ألوان الهداية والعلم ، بطريقة سرّية خفيّة ، غيرِ معتادةٍ للبشر.
يمكنكم تحميل -سلسلة أركان الإيمان- كتاب:
الإيمان بالرسل والرسالات
من الموقع الرسمي للدكتور علي الصَّلابي
http://alsallabi.com/uploads/file/doc/Book94(1).pdf