الأربعاء

1446-11-02

|

2025-4-30

تفاضل الأنبياء

الحلقة: الثانية والثلاثون

بقلم الدكتور علي محمد الصلابي

ذو القعدة 1441 ه/ يوليو 2020


أ ـ التفاضل بين الأنبياء ثابتٌ بأدلةِ الكتاب والسنة:
فمن الكتاب:
قوله سبحانه: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيْسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ} [البقرة: 253]
قوله تعالى: {مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ} فالمراد به موسى عليه ، إذ هو المشتهر بين الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم بالتكليم ، وقد قال له سبحانه: {قَالَ يَامُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي} [الاعراف : 144]. وقال تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا *} [النساء : 164].
وقال سبحانه: {وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعَضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا *} [الاسراء : 55].
ومن السنة:
ما رواه أبو هريرة: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «فُضِّلْتُ على الأنبياءِ بستِّ: أعطيتُ جوامعَ الكلم ، ونُصِرْتُ بالرعبِ ، وأُحلّتْ لي الغنائم ، وجُعلتْ لي الأرضُ طهوراً ومسجداً ، وأُرسلتُ إلى الخلق كافّةً ، وخُتِمَ بي النبيون» ، فقوله صلى الله عليه وسلم: «فضلت على الأنبياء» دليل على وقوع التفاضل بينهم ، والأمةُ مجمعةٌ على أنّ بعض الأنبياء أفضلُ من بعضٍ.
ب ـ وجوه تفاضل الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم بالتفصيل:
بعد أن ذكرنا تفاضل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام على وجه الإجمال ، وذكرنا الأدلة على ذلك من القران الكريم والسنة النبوية ، نذكر الآن وجوه التفضيل على التفصيل ، وهذه الوجوه هي:
الوجه الأول: التفضيل بالتخصيص بمنقبةٍ:
كتكليم موسى عليه السلام ، فمن خُصَّ بمنقبةٍ عظيمةٍ أفضلُ ممّن لم يخصَّ.
الوجه الثاني: التفضيل بالبينات والايات:
كما قال سبحانه: {وآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ} [البقرة : 87] ، وقال صلى الله عليه وسلم: «أعطيتُ جوامعَ الكلم ، ونصرتُ بالرعب».
الوجه الثالث: التفضيل بالتأييد بالملائكة:
كما قال سبحانه في عيسى: {وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ} [البقرة : 253] ، وروح القدس هو جبريل في أظهر الأقوال، فمن كان تأييد الله له من الأنبياء بالملائكة أكثر وأظهر كان أفضل.
وقال ابن السعدي في الاية: وأيده بروح القدس أي: بروح الإيمان ، فجعل روحانيته فائقة روحانية غيره ، فحصل له بذلك القوة والتأييد ، وإن كان أصل التأييد بهذه الروح عاماً لكل مؤمن بحسب إيمانه ، كما قال: {وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} [المجادلة : 22] ولكنّ ما لعيسى أعظمُ ممّا لغيره ، لهذه خصّه بالذكر ، وعليه فكلُّ مَنْ كان من تأييد الله له من الأنبياء بالإيمان أعظم وأقوى كان أفضل.
الوجه الرابع: التفضيل بالشرائع:
كما قال صلى الله عليه وسلم: «وأُحلّت ليَ الغنائمُ ، وجُعِلتْ ليَ الأرضُ مسجداً وطهوراً» ، وكما قال سبحانه عن محمد صلى الله عليه وسلم في شأن اليهود: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الاعراف : 157].
وكما حكى الله قول عيسى لليهود: {وَلأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} [ال عمران: 50]. فكل من كانت شريعتهُ أتمَّ وأيسرَ فهو أفضل.
الوجه الخامس: التفضيل بإنزال الكتب:
كما قال سبحانه: [النساء: {وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا *} ، فمن أُنزل عليه الكتابَ أفضلُ ممّن لم ينزل عليه كتاب.
الوجه السادس: التفضيلُ بما في الكتاب من الشرائع ونحوها بين مَنْ أُنزل إليهم كتاب.
الوجه السابع: التفضيل بالدرجات:
كما قال سبحانه: {وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} [البقرة: 253] يعني مراتبَ ، ووجوه متعددة.
الوجه الثامن: والتفضيل بالمراتب في السماء:
كما في حديث المعراج.
الوجه التاسع: التفضيل بكثرة الاتباع:
كما في حديث (الصحيحين) أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم عُرِضَتْ عليه الأمم ، فرأى النبيَّ وليس مَعَه أحدٌ ، والنبيَّ ومعه الرجلُ والرجلان ، والنبيَّ ومعه العشرةُ ، والنبيَّ ومعه السوادُ الأعظم.
قال بعضُ أهل العلم: والتفضيلُ المرادُ لهم هنا في الدنيا ، وذلك بثلاثة أحوال:
أن تكون ايتُه ومعجزاتُه أبهرَ وأشهرَ.
وأن تكونَ أمّتَه أزكى وأكثر.
أو يكون في ذاته أفضل وأظهرَ ، وفضله في ذاته راجعٌ إلى ما خصّه الله به من كرامته ، واختصاصه من كلامٍ أو خلةٍ أو رؤيةٍ ، أو ما شاء الله من ألطافه ، وخصوص ولايته واختصاصه.
والرسولُ الذي ينشأ بين أهل الكفر الذين لا نبوّة لهم يكونُ أكملَ من غيره من جهةِ تأييد الله له بالعلم والهدى وبالنصر والقهر ، كما كان نوح وإبراهيم عليهما السلام. فهذه جملةٌ من وجوه تفاضلِ الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم.
ج ـ أولو العزم من الرسل:
أفضلُ الرسل أولو العزم منهم ، قال سبحانه وتعالى امراً نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وهو أفضل الخلق: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلاَ تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ} [الأحقـاف: 35].
فامتدحهم الله عزّ وجلّ بالعزم ، وخصّهم بالذكر من بين رسله ، وأمرَ نبيّه محمداً صلى الله عليه وسلم ـ وقد فضله على جميع خلقه ـ أن يقتديَ بهم ، فأفضلُ أولياء الله هم أنبياؤه ، وأفضل أنبيائه هم المرسلون منهم ، وأفضل المرسلين هم أولو العزم.
قال ابن كثير: لا خلافَ أنّ الرسلَ أفضلُ من بقيةِ الأنبياءِ ، وأنّ أولي العزم منهم أفضلهم.
وواضحٌ من الاية السابقة أنَّ الصفةَ البارزةَ في أولئك الرسل أولي العزم هي الصبر ، ذلك أنها هي الصفةُ التي يطلب الله عز وجل من رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم أن يتأسّى بهم فيها من بين صفاتهم العديدة.
وكل الرسل ذوو صبر وثبات وتحمّل ، فلابدّ أن يكون اختصاصُ (أولي العزم) بهذا الوصفِ الذي وصفهم به الله في كتابه الكريم ناشئاً عن زيادةِ صفةِ الصبر عن الرسل العاديين ، وقدرة فائقة على تحمّل الشدائد ، وثبات في مواجهة المواقف الصعبة ، التي مرّت بهم في أثناء قيامهم بالدعوة إلى التوحيد.
وإذا كان الرسل جميعاً هم هداةُ البشرية وقادتها ، وهم موضع القدوة والأسوة ، فإنّ في حياة أولي العزم من الرسل عِبَراً خاصة ، لطول جهادهم ، وكثرة المواقف الصعبة التي تعرّضوا لها ، وثباتهم في وجه العواصف المزلزلة ، التي تنخلعُ لها القلوب ، واطمئنانهم إلى قدر الله ، ووعده بالنجاة والنصر... ثم فيما حلّ بالمكذّبين من أقوامهم من هلاكِ وتدمير.
إنّ الدعاة بصفة خاصة هم أَوْلى الناسِ بأخذِ العبرة من سير الرسل جميعاً ، ولكنّهم أجدر بأن يأخذوا العبرة من سير أولي العزم من الرسل ، وعلى رأسهم محمد صلى الله عليه وسلم ، لأنّه ما مِنْ موقفٍ يتعرّضون له في دعوتهم إلا وله مثيلٌ أو شبيه في سيرهم.. ثم ينتصر الحق بعد الجهاد الطويل ، والجهد الشاق ، وتذهب قوى الباطل بدداً ، ويبقى الحق راسخاً في الأرض ، يظلل الناسَ بظلاله الوارفة ، وينعَمَ الناسُ في ربوعه بالأمن ، بعد أن يكون المجاهدون قد ضحّوا في سبيله بأمنهم وراحتهم ، وأموالهم وأنفسهم ، يذهبُ منهم مَنْ ذهب شهيداً في سبيل الله ، ويبقى منهم من يبقى شهيداً للحق بصبره وثباته وتجرّده لله ، قال تعالى: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً *} [الشورى : 23].
1 ـ تعيين أولي العزم:
أولو العزم خمسةٌ وهم: محمّد ، ونوح ، وإبراهيم ، وموسى ، وعيسى عليهم الصلاة والسلام ، وهم الخمسة المذكورون نصّاً في قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا *} [النساء : 7]. وفي قوله سبحانه: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ} [الشورى : 13].
فقد خصّهم الله عزّ وجلّ بالذكر في هاتين الايتين من بين الأنبياء ، وهو تنبيهٌ إلى فضلهم بين سائر الأنبياء ، وقد خصّهم سبحانه بالذكر في ذكره أعظمَ الأمور وأفضلها وأغلظها ، وهو الميثاقُ الذي قال فيه: {وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا *} [النساء : 154].
والوصايا التي شرعها لخلقه ، وذلك ما أخذ على جميع النبيين ، وبَعث به جميع النبيين ، وهو العهدُ الذي بين اللهِ وخلقه ، وهو إقامة الدين ، وعدم التفرق فيه ، وإسلام الوجه له سبحانه ، والدعوة إلى ذلك ، والمجاهدة فيه ، والموالاة فيه ، والبراءة فيه.
وهؤلاء الخمسة صلوات الله وسلامه عليهم أكمل وأعظم مَن قام بهذا الميثاق ، ولذا خُصّوا بالذكر ، وهم الذين تفزعُ الأمم إليهم في الموقف يوم القيامة بعد أبيهم ادم ، فيتراجعونها ، حتى تنتهي إلى محمد صلى الله عليه وسلم ، كما في حديث الشفاعة.
يقول ابن القيم في بيان طبقات المكلّفين:
الطبقة الأولى: مرتبة الرسالة ، وهي العليا على الإطلاق ، فأكرم الخلق وأخصّهم بالزلفى لديه رسلُه.
قال: وأعلاهم منزلة أولو العزم منهم ، المذكورون في قوله تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى} [الشورى : 13] وهؤلاء هم الطبقة العليا من الخلائق ، وعليهم تدورُ الشفاعة ، حتى يردوها إلى خاتمهم وأفضلهم محمد صلى الله عليه وسلم.
قال: الطبقة الثانية: من عداهم من الرسل ، على مراتبهم من تفضيل بعضهم على بعض.
2 ـ في تفاضل أولي العزم:
ذكر الله عز وجل أولي العزم في ايتي الأحزاب والشورى المذكورتين ، وقد بدأ سبحانه في الايتين بذكر الطرفين أول الرسل وخاتمهم ، وذكر بعدهما الثلاثة مبتدأ بإبراهيم ثم موسى ثم عيسى بحسب ترتيب وجودهم عليهم الصلاة والسلام.
وقد بدأ سبحانه في اية الأحزاب بذكر محمد صلى الله عليه وسلم لشرفه وفضله عليهم ، وذلك لأنّ في الاية ذكرٌ للنبيين في الجملة ، تعميماً ، ثم خصّ الله سبحانه أفضلهم بالذكر بعد دخولهم في العموم ، فناسب ذلك الابتداء بذكر محمد صلى الله عليه وسلم ، لكونه أفضل هؤلاء المفضلين.
وفي الاية ذكرٌ للميثاق المأخوذ على النبيين ، فهي متعلقة بالأنبياء خاصة ، ولذلك قدم محمد صلى الله عليه وسلم في الذكر للوجه المذكور ، قال سبحانه: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا *} [الاحزاب : 7].
أمّا اية الشورى فمتعلقة بالشريعة التي بعثوا بها ، ولذلك بدأ سبحانه بنوح قبل محمّد عليهمـا الصلاة والسلام ، لأن الايـة في ذكر دين الإسلام ، وما وصى الله به الرسل ، فناسب ذلك أن يبدأ بنوح عليه السلام ، لأنّ رسالته أول الرسالات ، ففيه بيانٌ جلي أنّ أول رسالات الرسل أوصتْ بما شُرِعَ لأمة محمد صلى الله عليه وسلم من الدين ، فهو دينٌ أصيل مستقيم ، لا عوج فيه ولا اضطراب ، ثم ذكر سبحانه مِنْ بين من توسّطوا بين محمد ونوح أشهر أصحاب الشرائع وأفضلهم.
فمحمّد صلى الله عليه وسلم هو أفضلُ أولي العزم بلا خلاف ، يقول ابن كثير: ولا خلافَ أنّ محمداً صلى الله عليه وسلم أفضلهم ، ثم بعده إبراهيم ، ثم موسى ، ثم عيسى عليهم الصلاة والسلام على المشهور.
يرى ابن كثير أنّ نوحاً اخرهم في ترتيبهم في الفضل ، وقوله: (على المشهور) كأنه إشارة إلى وجود خلاف في ترتيبهم في الفضل بعد محمد صلى الله عليه وسلم ، وقد قطعَ بأنّ إبراهيم بعده في الفضل في موضع اخرَ ، فقال في إبراهيم: هو أشرفُ أولي العزم بعد محمّد صلى الله عليه وسلم.
3 ـ بعض خصائص أولي العزم:
إبراهيم عليه الصلاة والسلام:
فمن فضائله وخصائصه عليه الصلاة والسلام أنّه خليلُ الرحمن ، لم يشاركه في الخلة إلاّ محمّد صلى الله عليهما وسلم ، قال سبحانه: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً *} [النساء : 125].
وقد جعله الله إماماً للناس ، يقتدون به ، ويهتدون بهديه ، قال سبحانه: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا} [البقرة : 124]. وقال سبحانه: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ *} [النحل : 120]. وقال سبحانه: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ *} [البقرة : 130].
وقد أجرى الله على يديه بناءَ بيته ، الذي جعله قياماً للناس ، ومثابة وأمناً ، وعهد الله إليه ولابنه تبعاً تطهير البيت للطائفين والعاكفين والركع السجود ، وأمر سبحانه المؤمنين باتخاذِ مقامِهِ مصلى ، قال سبحانه: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ} {وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ *}[البقرة: 125]. وقال تعالى: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ *}[البقرة: 127].
وقد حصر اللهُ النبوّة والكتابَ من بعده في ذريته عليه الصلاة والسلام قال سبحانه: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ *} [العنكبوت: 27]. فلم يأتِ نبيٌّ بعد إبراهيم إلاّ من ، وهو عليه الصلاة والسلام أول من يُكْسَى يومَ القيامة كما في المتفق عليه من حديث ابنِ عباسٍ قال: قام فينا النبي صلى الله عليه وسلم يخطبُ فقال: «إنّكم محشرونَ حُفاةً عراةً غُرْلاً ـ كما بدأنا أوّلَ خلقٍ نعيده ـ الاية وإنّ أوّلَ الخلائقِ يُكْسَى يومَ القيامةِ إبراهيمُ».
وقد جمع الله له منزلتين عظيمتين قال سبحانه: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صَدِّيقًا نَبِيًّا *} [مريم: 41]. فجمع له بين الصديقية ، وفضائله عليه الصلاة والسلام أكثرُ من أن تحصَى ، وما علمناه غيضٌ من فيضِ مما جهلناه في إبراهيم عليه الصلاة والسلام.
نوح عليه السلام:
فقد جاهد في الله حقّ جهاده ، وهو أول رسول بعث في الناس بعد اختلافهم على دينهم ، واجتيال الشيطان لهم ، وقد لبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً ، باذلاً وسعه في الدعوة إلى الله ليلاً ونهاراً ، سراً وجهراً ، صابراً على أذى قومه ، لا تُثنيه عن الدعوةِ إلى ربه سفاهاتهم وتعدّياتهم ، قال سبحانه: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ * فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ *}[العنكبوت: 14 ـ 15]. وقال سبحانه في نوح: {قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَارًا *فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلاَّ فِرَارًا *وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا *ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا *ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا *فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا *} [نوح: 5 ـ 10]. وقال سبحانه عن قوم نوح: {قَالُوا يانُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ *} [هود: 32 ـ 33].
موسى عليه السلام:
وأمّا موسى عليه السلام فهو كليمُ الله ، اشتهر من بين الأنبياء بهذه الحلية ، قال سبحانه: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا *} [النساء: 164]. وقال سبحانه: {وَلَمَّا جَاء مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ موسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ * قَالَ يَامُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ *} [الاعراف : 143 ـ 144].
وقد ورد ذكر تكليم الله موسى في مواضعَ من كتاب الله ، وهو عليه السلام المعنيُّ في قوله سبحانه: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ} [البقرة : 253].
وقد اتاه الله عز وجل تسعَ اياتٍ بيّناتٍ إلى فرعون وقومه ، ظهرت بهنّ حجته ، وقامت بينته ، أيده الله بهنّ ، قال سبحانه: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} [الاسراء : 101]. وقال عز وجل: {وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ *} [النمل : 12].
عيسى عليه السلام:
فاختُصَّ من بين سائر الخلق بأنّه ولد لأم من غير أب ، وإنّما نفخ جبريل في درع جَيْبِ مريم ، فحملت بعيسى عليه السلام ، وتكلّم في المهد ، واتاه الله من البينات ما فضّله به ، كما في قوله تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيْسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ} [البقرة: 253].
وحكى الله كلام عيسى في المهد ، فكان مما قاله وتظهر فيه من فضائله عليه السلام غررٌ: {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا *وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا *وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا *وَالسَّلاَمُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا *} [مريم : 30 ـ 33].
وقد قال سبحانه في ذكر ولادة عيسى عليه السلام: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِيًّا *فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا *قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَانِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا *قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لأِهَبَ لَكِ غُلاَمًا زَكِيًّا *قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا *قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا *فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَاناً قَصِيًّا *} [مريم : 16 ـ 22].
وكان من الايات التي اتاها الله عيسى عليه السلام ما قاله سبحانه: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِىءُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ *} [المائدة: 110].
وقد رفعه الله عز وجل إليه ، فهو حيٌّ في السماء ، وهو في السماء الثانية كما حديث الإسراء قال سبحانه في تكذيب اليهود في دعواهم قتله عليه السلام {وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً * بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} [النساء : 157 ـ 158]. وهذا من خصائصه عليه السلام ، إذ ليس في الأنبياء حيٌّ إلا هو.
وسينزل عليه السلام في اخر الزمان ، كما دلّ عليه الكتاب والسنة والإجماع ، وهذا من خصائصه عليه السلام ، قال سبحانه: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا *} [النساء : 159]. وقد تواترت الأخبار عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم بنزول عيسى عليه السلام. قال صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده ليوشكنَّ أن ينزلَ فيكم ابنُ مريمَ حَكَماً مقسطاً»، وقال صلى الله عليه وسلم: «كيف أنتم إذا نزل ابنُ مريم فيكم وإمامُكم منكم؟».
4 ـ تفضيل نبينا محمّد صلى الله عليه وسلم على جميع الخلائق:
محمّدٌ صلى الله عليه وسلم هو أفضل الأنبياء على الإطلاق ، بل هو خير الخلائق أجمعين ، صلوات الله وسلامه عليه ، وقد جاءت في ذلك نصوص لا تحصى كثرةً فيما أوحاه الله عز وجل في كتابه ، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم ، وفيما كتب وروي من أقوال الأئمة المهديين من السلف الصالح رضوان الله عليهم.
قال سبحانه وتعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ } [البقرة : 253] والمعنى بقوله: {وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} صلى الله عليه وسلم ، قاله ابن عباس والشعبي ومجاهد وغيرهم.
وقال سبحانه: {وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعَضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا *} [الاسراء : 55] ، ذكر المفسرون أنّ الاية في محاجة اليهود ، وأنّ المعنى: وإنّكم لم تنكروا تفضيلَ النبيين ، فكيف تنكرون فضل النبيِّ صلى الله عليه وسلم ؟!.
وقد احتجّ العلماء بقوله تعالى في الأنعام: {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90] لكون النبي صلى الله عليه وسلم أفضل الأنبياء ، لأن ما تفرّق في الأنبياء من خصال الفضل اجتمعت فيه صلى الله عليه وسلم.
وقال صلى الله عليه وسلم: «أُعطيتُ خمساً لم يعطهنَّ أحدٌ من الأنبياء قبلي: نُصرْتُ بالرعب مسيرة شهرٍ ، وجُعِلَتْ لِيَ الأرضُ مسجداً وطهوراً ، فأيّما رجلٍ من أمتي أدركتْه الصلاةُ فليصلِّ ، وأحلَّتْ ليَ الغنائمُ ، وكان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يُبْعَثُ إلى قومِهِ خاصةً ، وبُعِثتُ إلى الناسِ كافةً ، وأعطيتُ الشفاعة».
وفي أحاديث الشفاعة في بيان فضله صلى الله عليه وسلم على الأنبياء ما هو ظاهرُ ، وقد وصف النبيُّ صلى الله عليه وسلم ذلك اليوم بأنّه يومٌ يرغبُ إليه فيه الخلقُ كلّهم حتى إبراهيم عليه الصلاة والسلام.
وقال صلى الله عليه وسلم: «اتي بابَ الجنةِ يومَ القيامةِ فاستفتحُ ، فيقول الخازنُ: مَنْ أنت؟ فأقولُ: محمّد ، فيقولُ: بكَ أمرتُ لا أفتحُ لأحدٍ قبلكَ».
وقال صلى الله عليه وسلم: «أنا أكثرُ الأنبياء تَبَعاً».
وقال صلى الله عليه وسلم: «أنا سيّدُ ولدِ ادمَ يومَ القيامةِ ، وأوَّلُ مَنْ يَنْشَقُّ عنه القبرُ ، وأوّلُ شافعٍ ، وأوّلُ مُشَفَّعٍ».
وقال صلى الله عليه وسلم: «أنا أكثرُ الأنبياءِ تبعاً»، وقال: «لم يصدّق نبي من الأنبياء ما صدقت ، وإنّ من الأنبياءِ ما يصدقه من أمته إلاّ رجلٌ واحدٌ».
وقال صلى الله عليه وسلم: «أنا سيّدُ ولدِ ادمَ ولا فَخْرَ». وفي معنى: (ولا فخر): أي: لا أتبجّحُ بهذه الأوصاف ، وإنّما أقولها شكراً لربِّي ، ومنبهاً أمتي على إنعامه عليّ ، وإنّما نفى الفخرَ الذي هو الكِبْرُ الواقع في النفس ، المنهيُّ عنه ، الذي قيل فيه: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ *} [القصص : 18]. ولم ينفِ فخرَ التجمّل بما ذكره من النعم التي بمثلها يُفْتَخَرُ ، ومثله قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْفَرِحِينَ *} [القصص : 76]. يعني الأشريْنَ ، ولم يُرد الفرحَ بنعمة الله تعالى.
وقد قال سبحانه: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ *} [يونس : 58] فأمر سبحانه بالفرح بفضله . ولقد أجمعت الأمة على أنّه أفضل الخلق.
د ـ توجيه النهي الوارد في التفضيل بين الأنبياء:
لا بدّ من اعتقادِ التفاضل بين الأنبياء ، واعتقادِ فضل الرسل على الأنبياء ، وفضلِ أولي العزم على بقية الرسل ، وفضلِ محمّد صلى الله عليه وسلم على سائر الرسل والأنبياء صلوات الله وسلامه عليه ، لقيام الأدلة الشرعية الصريحة الصحيحة على ذلك ، وقد ثبتَ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم نهيه عن التفضيل بين الأنبياء ، ونهيه عن تفضيله خاصةً على بعض الأنبياء، فقد قال صلى الله عليه وسلم: «لا تفضّلوا بينَ الأنبياء» وهو واقع في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسٌ ، جاء يهودي فقال: يا أبا القاسم ، ضربَ وجهي رجلٌ من أصحابك ، فقال: «أضربته؟» قال: سمعتُه بالسوق يحلِفُ: والذي اصطفى موسى على البشر ، قلت: أي خبيث ، على محمّد صلى الله عليه وسلم ، فأخذتني غضبةٌ ، فضربتُ وجهه ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تخيّروا بين الأنبياء». وفي رواية: «لا تفضلوا بين أنبياء الله».
وروى القصة أبو هريرة بنحوه إلا أنه قال: «لا تخيّروني على موسى».
وفي حديث ثان قال صلى الله عليه وسلم: «لا ينبغي أن يقول أنا خيرٌ من يونس بن متى».
والحاصل أنّ في الحديثين ينهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التفضيل بين الأنبياء ، وعن تفضيله على موسى ويونس خاصّةً.
حُمِلَ الحديث في يونس على أنّ النبي صلى الله عليه وسلم هو المراد ، وهو أفضل منه ومن سائر الأنبياء ، وجميع الخلق قطعاً ، كما تقدّمت الدلائلُ عليه من الكتاب والسنة والإجماع ، وقد وجّه العلماء ذلك النهي لإزالة الإشكال في أقوال متعددة منها:
* أن النهي وردَ قبل أن يعلمَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم أنّه سيدُ ولد ادم ، وأنّه أفضلُ الأنبياء ، فلما علم أخبر به ، وأنّ النهيَ عن التفضيل منسوخ بالقران.
* أنّ النهيَ من باب التواضع ، وهضم النفس ، ونفي الكبر والعجب.
* أنَّ المرادَ بالنهي منعُ التفضيل الذي يؤدّي إلى الخصومة والتشاجر ، وذلك في مثل الحال التي تحاكم فيها اليهودي مع المسلم عند النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث أبي سعيد وأبي هريرة ، فهذا التوجيه ملائمٌ لسبب ورود الحديث.
* أنَّ المرادَ بالنهي منع التفضيل الذي يؤدّي إلى توهم النقص في المفضول ، أو الغضّ منه ، والإزراء به.

يمكنكم تحميل -سلسلة أركان الإيمان- كتاب:
الإيمان بالرسل والرسالات
من الموقع الرسمي للدكتور علي الصَّلابي

http://alsallabi.com/uploads/file/doc/Book94(1).pdf


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022