(مالك بن أنس: الإمام الزاهد)
اقتباسات من كتاب "مع الأئمة" لمؤلفه الشيخ الدكتور سلمان بن فهد العودة (فرج الله عنه)
الحلقة: الرابعة والخمسون
ذو الحجة 1443ه/ يوليو 2022م
حين خرج محمد بن عبد الله بن الحسن (النفس الزكية)، لزم الإمام مالك بيته، ولم يشهد الجنائز، ولم يُجب الدعوة، قال الواقديُّ ومصعبُ بنُ عبد الله الزُّبيريُّ: «كان مالك يحضر المسجد ويشهد الجمعة والجنائز ويعود المرضى ويُجيب الدعوة ويقضي الحقوق زمانًا، ثم ترك الجلوس في المسجد، فكان يصلِّي وينصرف، ثم ترك عيادة المرضى وشهود الجنائز، فكان يأتي أصحابها ويعزِّيهم، ثم ترك مجالسة الناس ومخالطتهم والصلاة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، حتى الجمعة، ولا يعزِّي أحدًا، ولا يقضي له حقًّا، فكان يقال له في ذلك، فيقول: ما يُتَهيَّأ لكل أحد أن يذكر ما فيه. فاحتمل الناس له كل ذلك، وكانوا أرغب ما كانوا فيه وأشدَّه له تعظيمًا، حتى مات على ذلك».
قال ابنُ كثير: «ومن وقت خروج محمد بن عبد الله بن حسن لزم مالكٌ بيته، فلم يكن يتردَّد إلى أحد، لا لعزاء ولا لهناء، حتى قيل: ولا يخرج إلى جماعة ولا جمعة، ويقول: ما كلُّ ما يُعلم يُقال، وليس كلُّ أحد يقدرُ على الاعتذار».
وقد اختُلف في السبب الموجِب لتخلُّف الإمام مالك عن شهود الجمع والجماعات، على أقوال:
الأول: أن الوقت وقت اعتزال فيما فيه من الفتن الموجِبة لذلك، فقد قال يحيى بنُ الزُّبير: «قال لي مالكٌ: اعتزلتَ أنت وعبد الله بن عبد العزيز؟ قلتُ: نعم. قال: عجلتم، ليس هذا أوانه.
قال: ثم لقيتُ مالكًا بعد عشرين سنة، فقال: هذا أوانه. ثم اعتزل ولَزِمَ بيته».
الثاني- وقد يكون تفسيرًا للسبب الأول-: أنه بسبب خروج محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب الذي يُلَقَّب بالنفس الزكية، خرج على المنصور بالمدينة سنة (145هـ).
قال الواقديُّ: «لما خرج محمد بن الحسن لزم مالك بيته فلم يخرج منه حتى قُتل محمد».
الثالث: أنه بسبب سَلَس البول.
قال عتيق بن يعقوب ومصعب بن عبد الله الزُّبيري: «فلما حضرته الوفاة سُئل عن تخلُّفِه عن المسجد- قال عتيق: وكان تخلفه عنه قبل موته بسنين- فقال: لولا أني في آخر يوم من الدنيا وأوله من الآخرة ما أخبرتكم؟ سَلَس بولي، فكرهتُ أن آتي مسجدَ رسول الله صلى الله عليه وسلم على غير طهارة استخفافًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وكرهتُ أن أذكر علتي، فأشكو ربي».
وفي طريق آخر أنه قال: «خيفة أن آتي منكرًا».
الرابع: أنه بسبب فتق اعتراه بسبب الضرب، فكانت الريح تخرج منه.
قال ابن دينار ومصعب بن عبد الله: «كان بالمدينة رجلٌ مُسَمَّى، وكان يُقَدَّم على العُمَري في فضله وصدقه، قال: فقيل له: أَلَا تعظ مالكًا في تركه الجمعة والجماعة! قال: فأتاه فقال له: يا أبا عبد الله، نصيحة. قال: ما هي نصيحتك؟ قال: هي لله تبارك وتعالى، ولا تغضب. قال: فقال يا ابن أخي، وما دعاك إلى أن تغضبني؟ قال: هي نصيحة لله. قال: هَلُمَّها. قال: فقال له: يا أبا عبد الله، ما لك لا تشهد جمعة ولا جماعة، وقد عرفتَ فضل الجماعة والصلاة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما بالك لا تعود مرضى إخوانك ولا تشهد جنائزهم، وما بالك إذا دعاك السلطان أسرعتَ إليه؟
قال: فقال لي مالك: كان عندي فيك نقصٌ، وقد تبيَّن لي ذلك:
أما قولك: لا أشهد جمعة ولا جماعة. فوالله ما على الأرض موضعٌ أحبُّ إليَّ من مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن بلغني أن الناسَ يتأذون بي.
وأما قولك: إني لا أعود مرضى إخواني. فقد علم الثقات من إخواني ما لهم عندي، وقد علموا زَمَانتي وضعفي وعذري، فعذروني، وأما سواهم من الناس، فلا أبالي.
وأما قولك: إذا دعاني السلطان أسرعتُ. فهذا ما نزل بظهري، وايم الله، لولا أني أجيبهم إذا دعيتُ، ما رأيتُ لرسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا البلد سُنَّة تُذْكر».
الخامس: أن السبب؛ خوفه أن يرى منكرًا، فيحتاج أن يغيِّره.
ذكر الذهبيُّ عن إسماعيل القاضي: «سمعتُ أبا مصعب يقول: لم يشهد مالك الجماعة خمسًا وعشرين سنة، فقيل له: ما يمنعك؟ قال: مخافة أن أرى منكرًا، فأحتاج أن أغيِّره».
وقد قال ابنُ عبد البر: «وعابه قومٌ في قعوده عن مشاهدة الجماعة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونسبوه بذلك إلى ما لا يحسن ذكره، وقد برَّأ الله عز وجل مالكًا عمَّا قالوه، وكان إن شاء الله عند الله وجيهًا، وما مثلُ مَن تكلم في مالك والشافعي ونظائرهما من الأئمة، إِلَّا كما قال الشاعر الأعشى:
كَناطِحٍ صَخرَةً يَومًا ليُوهِنَها *** فَلَم يَضِرْها وَأَوهى قَرْنَهُ الوَعِلُ
أو كما قال الحُسين بن حُميد:
يا ناطِحَ الجبلِ العالي ليكْلُمَه *** أَشْفِقْ على الرأس لا تُشفِقْ على الجبلِ
ولقد أحسنَ أبو العتاهية حيث يقول:
وَمَن ذا الَّذي يَنجو مِنَ الناسِ سالِمًا *** وَلِلناسِ قالٌ بِالظُّنونِ وَقيلُ
وهذا خيرٌ من قول القائل:
وما اعتذارُك من شيءٍ إذا قِيلا
فقد رأينا الباطل والبغي والحسد أسرع الناس إليه قديمًا..».
قال ابنُ عبد البر: «والله لقد تجاوز الناسُ الحدَّ في الغيبة والذم، فلم يقنعوا بذم العامة دون الخاصة، ولا بذم الجهال دون العلماء، وهذا كله يحمل عليه الجهل والحسد.
قيل لابن المبارك: فلانٌ يتكلَّم في أبي حنيفة. فأنشد بيت ابن الرُّقيَّات:
حَسَدُوا أن رَأَوْكَ فَضَّلكَ اللـ *** ـه بما فُضِّلَتْ بِهِ النُّجباءُ
وقيل لأبي عاصم النَّبِيل: «فلان يتكلَّم في أبي حنيفة. فقال: هو كما قال نُصَيْب:
سَلِمْتِ وهلْ حيٌّ على الناسِ يَسْلَمُ».
وقد يتحصَّل من مجموع هذه الأسباب حالة نفسية خاصة تجعل الإمام في مقام تقدير المصالح والمفاسد من اعتزاله أو حضوره، وربما مال إلى استثقال الناس، أو أحسَّ بالفجوة بينه وبينهم في العقل والنظر والتفكير، مع مؤثِّرات تقدُّم السن، مما يضعف الاحتمال، ويحمل على الكَدَر والضِّيق، خاصة لمَن شأنه الوقار والهيبة وترسيم المظهر واللِّباس والمجلس، ولذا أشار مالك إلى الفتنة السياسية، وإلى ظهور منكرات في المدينة، وإلى ما طرأ عليه من عوارض صحية جسدية.
والباحث يميل أحيانًا إلى اختيار سبب، ويغفل عن أن مجموع الأسباب تواردت على شخص واحد، وهو عرضها على عقله، وتخلَّلت مسارب نفسه، وألحَّت عليه زمانًا، حتى انتهى الأمر فيها إلى قرار لا رجعة عنه.
والشهادة أن الإمام العظيم في مقام العذر التام عند مَن يعرف قدره وقدر أمثاله، وهو كذلك إن شاء الله عند الله، والظن أنه له رفيع المنزلة وعظيم المقام بما ورث من علم وصبر وصابر، ورسم من الأسوة والقدوة (الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَىٰ لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ) [الرعد:29]، قال أبو بكر الأوسي: «كان مالك قد أكثر النظر في المصحف قبل موته بسنين، وكان كثير القراءة، طويل البكاء».
وقال ابنُ وهب: «قيل لأخت مالك: ما كان شغل مالك في بيته؟ قالت: المصحف والتلاوة».
هذه الحلقة مقتبسة من كتاب مع الأئمة للشيخ سلمان العودة، صص 120-116
يمكنكم تحميل كتاب مع الأئمة من الموقع الرسمي للدكتور علي محمد الصلابي عبر الرابط التالي: