الأحد

1446-11-06

|

2025-5-4

من كتاب الدولة الأموية عوامل الازدهار وتداعيات الانهيار (ج2):

(معالم التجديد عند عمر بن عبد العزيز)

الحلقة: 160

بقلم الدكتور علي محمد الصلابي

رجب 1442 ه/ فبراير 2021

يرى المتتبع لأقوال العلماء والمؤرخين والمهتمين بدراسة الحركة التجديدية، إجماعاً تاماً على عدّ الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز المجدد الأول في الإسلام، وكان أول من أطلق عليه ذلك الإمام محمد بن شهاب الزهري، ثم تبعه على ذلك الإمام أحمد بن حنبل، فقال: يروى في الحديث: «إن الله يبعث على رأس كل مئة عام من يصحح لهذه الأمة أمر دينها»، فنظرنا في المئة الأولى فإذا هو عمر بن عبد العزيز، وتتابع العلماء على عدّه أول المجددين وذكر بعض أهل العلم أنه من المقصودين بحديث رسول الله ﷺ: «إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مئة سنة من يجدد لها أمر دينها» .

ولا شك أن عمر بن عبد العزيز خليق بأن يكون ممن يحمل عليه هذا الحديث، فقد كان عالماً عاملاً، همه كله، وعزمه، وهمته، اناء الليل والنهار إحياء السنن وإماتة البدع ومحدثات الأمور ومحوها، وكسر أهلها باللسان، والسنن.

يقول ابن حجر العسقلاني: إن اجتماع الصفات المحتاج إلى تجديدها لا ينحصر في نوع من أنواع الخير، ولا يلزم أن جميع خصال الخير كلها في شخص واحد، إلا أن يدعى ذلك في عمر بن عبد العزيز، فإنه كان القائم بالأمر على رأس المئة الأولى باتصافه بجميع صفات الخير وتقدمه فيها، ومن ثم أطلق أحمد أنهم كانوا يحملون الحديث عليه، وأما من جاء بعده فالشافعي، وإن كان متصفاً بالصفات الجميلة إلا أنه لم يكن القائم بأمر الجهاد والحكم بالعدل .

ومع أن بعض العلماء رأى أن مقام المجدد الكامل لا يستحقه إلا مهدي اخر الزمان، وأنه لم يولد في الأمة المسلمة

مجدد كامل حتى الان، وإن كان عمر بن عبد العزيز أوشك أن يبلغ مرتبة المجددية الكاملة لو أنه استطاع إلغاء

طريقة الحكم الوراثية، وإعادة انتخاب الخليفة عن طريق الشورى .

وسواء استحق عمر بن عبد العزيز لقب المجدد الكامل أم لا، فإن الأعمال التجديدية التي قام بها، والجهود الكبيرة التي بذلها لاستئناف الحياة الإسلامية، وإعادتها إلى نقائها وصفائها زمن الرسول ﷺ وخلفائه الراشدين تجعله على رأس المجددين الذين جاد بهم الزمان حتى يومنا هذا، وقد ساعده على ذلك موقعه الذي تبوأه على رأس خلافة قوية، منيعة الجانب، مترامية الأطراف.

ولكي ندرك حجم الأعمال التجديدية التي اضطلع بها هذا الخليفة، وقدر الإصلاح الذي أحدثه، ينبغي أن نقف على حجم الانحرافات التي طرأت على الحياة الإسلامية والتغيّر والانقلاب الذي حدث للخلافة الإسلامية، ولعلنا لا نجانب الحقيقة إذا حصرنا الانحراف في ذلك الوقت بنظام الحكم، وما نتج عن ذلك من مظالم وفساد، وأما الحياة العامة فكانت أنوار النبوة لا زالت ذات أثر بالغ فيها، وكان الدين صاحب السلطان الأول في قلوب الناس .

1 ـ من إصلاحات عمر وأعماله التجديدية:

أ ـ الشورى:

قد مرّ معنا أن عمر بن عبد العزيز في أول لقاء له مع الناس حمد الله وأثنى عليه وقال: يا أيها الناس ! إني قد ابتليت بهذا الأمر من غير رأي كان مني فيه، ولا طلبة له، ولا مشورة من المسلمين، وإني قد خلعت ما في أعناقكم من بيعتي، فاختاروا لأنفسكم، فصاح الناس صيحة واحدة: قد اخترناك يا أمير المؤمنين، ورضينا بك: فَلِ أمرنا باليُمن والبركة . وبهذا يكون عمر قد قام بأول عمل تجديدي، حيث أعفى الناس من الملك العضوض، ولم يجبرهم على القبول بمن لم يختاروه، بل رد الأمر إليهم وجعله شورى بينهم .

ب ـ الأمانة في الحكم وتوكيل الأمناء:

فقد تواترت النقول المفيدة أنه بلغ من حرصه على ذلك أقصى المراتب، فقد استشعر عظم المسؤولية وضخامة الحمل منذ اللحظة الأولى لاستلامه الخلافة، فقال لمن سأله: ما لي أراك مغتماً؟ قال: لمثل ما أنا فيه فليُغتم، ليس أحد من الأمة إلا وأنا أريد أن أوصل إليه حقه غير كاتب إليّ فيه، ولا طالبه مني . وقال: لست بخير من أحد منكم، ولكن أثقلكم حملاً .

وكان يطالب عمّاله باختيار أصحاب الكفاءة والدين فيمن يولونه شأناً من شؤون المسلمين، فقد كتب إلى أحد عمّاله: لا تولين شيئاً من أمر المسلمين إلا المعروف بالنصيحة لهم، والتوفير عليهم، وأداء الأمانة فيما استرعى .

ولم تكن سياسته في التورع عن أموال المسلمين سياسة طبقها على خاصة نفسه فقط، بل ألزم بها عمّاله وولاته، فقد كتب إلى عامله أبي بكر بن حزم: أن أدق قلمك، وقارب بين أسطرك، فإني أكره أن أخرج من أموال المسلمين مالاً ينتفعون به .

وقد ساس رعيته سياسة رحيمة، وأمَّن لهم عيشاً رغيداً، وكفاهم مذلة السؤال، فقسم فضول العطاء في أهل الحاجات ، وقسم في فقراء أهل البصرة ثلاثة دراهم لكل إنسان، وأعطى الزمنى خمسين خمسين ، وطلب من عماله أن يجهزوا من أراد أداء فريضة الحج، وكتب إلى عماله: أن اعملوا خانات في بلادكم؛ فمن مر بكم من المسلمين، فاقروهم يوماً وليلة، وتعهدوا دوابهم؛ فمن كانت به علّة فاقروهم يومين وليلتين، فإن كان منقطعاً به فقوّوه بما يصل به إلى بلده .

وقد عزّ في زمن عمر وجود من يقبل الزكاة؛ يقول عمر بن أسيد: والله ما مات عمر بن عبد العزيز حتى جعل الرجل يأتينا بالمال العظيم فيقول: اجعلوا هذا حيث ترون، فما يبرح يرجع بماله كله؛ قد أغنى عمر الناس .

وكانت حرمة المسلمين فوق كل الأموال فقد كتب إلى عماله: أن فادوا بأسارى المسلمين، وإن أحاط ذلك بجميع مالهم .

ولاتزال خلافة عمر بن عبد العزيز حجة تاريخية، على كل أولئك الذين يشككون في إمكانية إقامة نظام اقتصادي إسلامي، وبرهاناً ساطعاً على أن الاحتكام للشريعة الربانية هو وحده الذي يكفل للناس السعادة في الدنيا والآخرة .

جـ مبدأ العدل:

فقد كان فيه لعمر القدح المعلَّى، وكان بحق وارثاً فيه لجدّه لأمه عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقد ضرب فيه على النقود عبارة: أمر الله بالوفاء والعدل، وطلب أن لا يقام على أحد حد إلا بعد علمه ، وكتب لعامله الجراح بن عبد الله الحكمي أمير خراسان: يابن أم جراح ! لا تضربن مؤمناً ولا معاهداً سوطاً إلا في حق، واحذر

القصاص، فإنك صائر إلى من يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وتقرأ كتاباً لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا إحصاها .

وأنصف أهل الذمة، وأمر أن لا يعتدى عليهم أو على معابدهم، وكتب إلى عماله: لا تهدموا كنيسة ولا بيعة، ولا بيت نار صولحتم عليه ، وقد رفع المكس وحطّ العشور والضرائب التي فرضتها الحكومات السابقة، وأطلق للناس حرية التجارة في البر والبحر، وقد تبرَّأ من المظالم التي كان يرتكبها بنو أمية، وتبرَّأ من الحجّاج وأفعاله، و أنكر على عمّاله الاستنان بسنته .

د ـ إحياؤه مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:

أخذت الخلافة تتراجع عن الغاية التي قامت من أجلها؛ وهي حراسة الدين، فنهض عمر بهذا المبدأ ورفع لواءه وأعلى شأنه وجعله المهيمن والمقدّم على ما سواه، وما حقق عمر مما حققه من أعمال وإنجازات إلا انطلاقاً من خوفه الشديد من الله، وطلبه فيما فعله مرضاته، وقد ساعده على ذلك أنه كان من أجلة العلماء التابعين وأئمة الاجتهاد؛حتى قال عنه عمر بن ميمون: كان العلماء مع عمر بن عبد العزيز تلامذة ، وقد كان لسلامة دينه وصدق عقيدته الأثر البالغ في تجديده وإصلاحاته، فقد حارب الأهواء والبدع، وشدد النكير على أهلها ـ وسيأتي بيان ذلك بالتفصيل بإذن الله تعالى.

وقد نقل عنه الإمام الأوزاعي قوله: إذا رأيت قوماً يتناجون في دينهم بشيء دون العامة، فاعلم أنهم على تأسيس ضلالة.

وكان يرى أنه لا قيمة لحياته لولا سنة يحييها، أو بدعة يميتها، وقد اهتم اهتماماً شديداً بديانة الناس وأخلاقهم، فكتب إلى عمّاله: اجتنبوا الأشغال عند حضور الصلوات؛ فمن أضاعها فهو لما سواها من شرائع الإسلام أشدّ تضييعاً .

والناظر في رسائل عمر وخطبه ومواعظه وهي أكثر من أن تحصى ؛ يرى إيماناً قوياً، ومراقبة جلية، وخوفاً من يوم يقف فيه الناس بين يدي رب العالمين.

وقد أثرت شخصية عمر وسياسته العادلة تأثيراً بالغاً في حياة العامة وميولهم وأذواقهم ورغباتهم؛ يدل على ذلك ما ذكره الطبري في تاريخه مقارناً عهد عمر بعهود من سبقه من الحكام السابقين: كان الوليد صاحب بناء واتخذ المصانع والضياع، وكان الناس يلتقون في زمانه، فكان يسأل بعضهم بعضاً عن البناء والمصانع، فولي سليمان فكان صاحب نكاح وطعام، فكان الناس يسأل بعضهم عن التزويج والجواري، فلمّا ولي عمر بن عبد العزيز كانوا يلتقون فيقول الرجل للرجل: ما وراءك الليلة؟ وكم تحفظ من القران؟ ومتى تختم ؟ ومتى ختمت ؟ وما تصوم من الشهر؟

ولم يكتف عمر بإقامة الدين داخل دولتـه، بل وجّه عنايته إلى غير المسلمين، ودعاهم إلى الدخول في الإسلام، وراسل ملوك الهند وملوك ما وراء النهر، ووعدهم أن لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين، فأسلم الكثير منهم وتسموا بأسماء العرب.

ولعل من أجل الأعمال التي خدم بها هذا الدين أمره بتدوين العلوم الإسلامية، وخاصة علم الحديث، وسيأتي بيان ذلك بالتفصيل بإذن الله تعالى.

كل هذه الأعمال العظيمـة والإصلاحات الجليلة حققها عمر في مدة خلافته الوجيزة، فغدا درة للأمة، ومنارة يستهدي بنورها الملتمسون دروب التجديد والإصلاح .

2 ـ من شروط المجدد وصفاته:

نستطيع أن نحدِّد أهم شروط المجدد والصفات التي ينبغي أن تتوافر فيه حتى يعد من المجددين من خلال سيرة عمر بن عبد العزيز رحمه الله.

أ ـ أن يكون المجدد معروفاً بصفاء العقيدة وسلامة المنهج:

وذلك لأن من أخصِّ مهمات التجديد إعادة الإسلام صافياً نقياً من كل العناصر الدخيلة، وهذا لا يحصل إلا إذا كان المجدد من السائرين على منهج الرسول ﷺ وصحابته الكرام، ومن الطائفة الناجية المنصورة التي جاء وصفها بأنها فرقة من ثلاث وسبعين فرقة، وأنها تلزم ما كان عليه الرسول ﷺ وأصحابه في عقيدته، ومنهجه وتصوراته وهذا الشرط قد توفَّر في عمر بن عبد العزيز، وسوف نوضحها في اثاره العقدية عند دراستها بإذن الله تعالى.

ب ـ أن يكون عالماً مجتهداً:

وهذا الشرط تحقق في عمر بن عبد العزيز؛ فقد واجه المشكلات التي تولدت في عصره، واجتهد في وضع الحلول الشرعية لها، وفي الحقيقة: إن رتبة الاجتهاد ليست عسيرة إلى الحد الذي تصوره بعض كتب أصول الفقه، وممن ذهب إلى وضع شروط يكاد يكون من المحال الإحاطة بها، حيث أوجبوا أن يحيط المجتهد بعلوم الالة كلها من نحو ولغة وبلاغة، وبعلوم الشريعة من تفسير وحديث وأصول فقه وعلوم قران ومصطلح حديث وسيرة، وبعلمي المنطق وعلم الكلام، وغير ذلك مما يصعب الإحاطة به ، والصواب أن الاجتهاد سهل ميسور، لمن كانت عنده أهلية النظر، والمهم أن نعلم أن المجدد يشترط فيه أن يكون محيطاً بمدارك الشرع، قادراً على الفهم والاستنباط، مطَّلعاً على أحوال عصره، فقيهاً بواقعه .

يقول المناوي: إن على المجدد أن يكون: قائماً بالحجة، ناصراً للسنة، له ملكة رد المتشابهات إلى المحكمات، وقوة استنباط الحقائق والنظريات، من نصوص الفرقان وإرشاداته ودلالاته واقتضاءاته، من قلب حاضر وفؤاد يقظان. ويقول العظيم ابادي: إن المجدد للدين لابد أن يكون عالماً بالعلوم الدينية الظاهرة والباطنة، ناصراً للسنة، قامعاً للبدعة، ويقول المودودي: من الخصائص التي لابد أن يتصف بها المجدد؛ هي: الذهن الصافي، والبصر النفاذ، والفكر المستقيم بلا عوج، والقدرة النادرة على تبيين سبيل القصد بين الإفراط والتفريط، ومراعاة الاعتدال بينهما، والقوة على التفكير المجرد عن تأثير الأوضاع الراهنة، والعصبيات الراسخة على طول القرون، والشجاعة والجرأة على مزاحمة سير الزمان المنحرف ، ويقول في تعداده لعمل المجدد: الاجتهاد في الدين، والمراد به أن يفهم المجدد كليات الدين، ويتبين اتجاه الأوضاع المدنية والرقي العمراني في عصره، ويرسم طريقاً لإدخال التعبير والتعديل على صورة التمدن القديمة المتوارثة، يضمن للشريعة سلامة روحها وتحقيق مقاصدها، ويمكّن الإسلام من الإمامة العالمية في رقي المدنية الصحيح.

جـ أن يشمل تجديده ميداني الفكر والسلوك في المجتمع:

وذلك لأن تصحيح الانحراف من أخص المهمات التي ينبغي أن يقوم بها المجدد، ومعلوم أن الانحراف يطرأ على السلوك كما يطرأ على الفكر، بل إن غالب الانحرافات السلوكية منشؤها الخرافات الفكرية، فيقوم المجدد بتصويب الأفهام والأفكار، وتخليصها مما داخلها من شكوك وشبهات، ويحيي العلم النافع، والفهم الصحيح للإسلام، ويبثـه بين الناس، وينشره بالتدريس، وتأليف الكتب، وغير ذلك من الوسائل المتاحة، ثم يعمد إلى إصلاح سـلوك الناس وتقويـم أخلاقهم، وتزكية نفوسهم، وإبطال التقاليد المخالفة للشريعـة، وإعلان الحرب على البـدع والخرافات، والمنكرات المتفشية في حياة الناس، ومواجهـة الفساد بمختلف أشكالـه وصوره، وخاصة الفاسد في الحكم والإمارة، بهذا يكون المجدد قد جمع بين القول والفعل، والعلم والعمل، وقد أشار السلف إلى هذا الشرط بقولهم عن المجدد: إنه ينصر السنة ويقمع البدعة.

د ـ أن يعم نفعه أهل زمانه:

وذلك لأن المجدِّد رجل مرحلة زمنية، تمتد قرناً من الزمن، فلابد إذن من أن يكون منارة يستضيء بها الناس ويسترشدون بهداها، حتى مبعث المجدد الجديد على الأقل، وهذا يقتضي أن يعم علم المجدد ونفعه أهل عصره، وأن تترك جهوده الإصلاحية أثراً بيناً في فكر الناس وسلوكهم، وغالباً ما يتم تحقيق ذلك عبر من يربيهم من تلامذة،

وأصحاب أوفياء، يقومون بمواصلة مسيرته الإصلاحية وينشرون كتبه وأفكاره ويؤسسون مدارس فكرية تترسم خطاه في الإصلاح والتجديد .

3 ـ قول رسول الله ﷺ: «إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مئة سنة من يجدد لها دينها». والدروس والعبر والفوائد المستنبطة منه:

يعد هذا الحديث إحدى البشائر بحفظ الله لهذا الدين مهما تقادم الزمان، وبكفالته سبحانه إعزاز هذه الأمة ببعثة المجددين الربانيين الذين يحيونها بعد موات، ويوقظونها من سبات، بما يحملونه من الهدى والنور، وأن هذا الحديث يمنح المسلم طاقة من الأمل الأكيد، بأن المستقبل للإسلام مهما تكاثرت قوى الشر، وتعاظم طغيان أهل الباطل، وبأن النور سيسطع مهما احلولك الليل، واشتد الظلام.

ونحن في الوقت الحاضر بحاجة ماسّة لتأكيد هذا المعنى، ونشره بين الناس، حتى نقاوم موجات اليأس والقنوط التي عمَّت النفوس، فجعلتها تستسلم للذل والخضوع والخنوع، بحجة أننا في اخر الزمان، وأنه لا فائدة ولا رجاء من كل جهود الإصلاح التي تبذل؛ لأن الإسلام في إدبار والكفر في إقبال، وها قد ظهرت علامات الساعة الصغرى، ونحن في انتظار العلامات الكبرى التي سيعقبها قيام الساعة، وقد يستدل أصحاب هذا الاتجاه ببعض الأحاديث، ويفهمونها على غير الوجه المراد منها ، من ذلك استدلالهم بحديث أنس رضي الله عنه عند البخاري: «لا يأتي عليكم زمان إلا والذي بعده شرٌّ منه، حتى تلقوا ربكم»، وحديث: «بدأ الإسلام غريباً، وسيعود قريباً كما بدأ، فطوبى للغرباء» . وينسون أنه لا يجوز أن نفهم هذه الأحاديث بمعزل عن الأحاديث الأخرى التي تحمل البشرى والأمل للأمة، مثل حديث: «مثل أمتي مثل المطر لا يُدرى أوله خير أو اخره» ، وفي قوم دون غيرهم، وفي زمن دون زمن، كما ذكر ابن القيم ،ولذلك شهد التاريخ الإسلامي حقباً من الظهور والإشراق كعهد عمر بن عبد العزيز، ونور الدين، وصلاح الدين، ويوسف بن تاشفين، ومحمد الفاتح، وغيرهم.

وتجب الإشارة هنا إلى أن حديث التجديد الذي نحن بصدد شرحه، وكذا الأحاديث التي تحمل البشرى بعودة الإسلام إلى واجهة الحياة، وإن كانت أخباراً يقينية صدرت عن الصادق المعصوم، ولا بد أن تتحقق كما أخبر، إلا أنها تحمل في مضمونها تكليفاً واستنهاضاً لعزمات المسلمين بوجوب السعي الدؤوب لتحقيق نصر الله لهذا الدين وإعزاز أهله كما هي سنة الله في ترتيب المسببات على الأسباب .

أ ـ في قوله ﷺ: «إن الله يبعث لهذه الأمة»:

إن هذا المبعوث لم يعد همه نفسه فقط، بل تجاوز ذلك ليعيش لهذه الأمة، فهو صاحب عزيمة وهمة، يعيش هموم أمته ويبذل قصارى جهده مواصلاً عمل النهار بالليل، لينقذ هذه الأمة من وهدتها، ويعيد لها ثقتها بدينها، ويردها إلى المنهج الصحيح، مصابراً على ما يعترض سبيله من عقبات، ومغالباً كل المشقات والتحديات، ليصل إلى رفعة هذه الأمة وعودة مجدها .

ب ـ قوله: «على رأس كل مئة سنة» :

الرأس في اللغة يمكن أن يراد به أول الشيء، كما يمكن أن يراد به اخره ، وقد اختلف العلماء في المراد من الرأس في هذا الحديث، فقال بعضهم: المراد: أول المئة وقال اخرون: المراد اخرها ، وهذا ما اختاره ابن حجر ، والطيبي ، والعظيم ابادي ، وقد احتج العظيم ابادي لاختياره بكون الإمامين الزهري وأحمد بن حنبل وغيرهما من الأئمة المتقدمين والمتأخرين، اتفقوا على أن من المجددين على رأس المئة الأولى عمر بن عبد العزيز رحمه الله، وعلى رأس المئة الثانية الإمام الشافعي رحمه الله، وقد توفي عمر بن عبد العزيز سنة إحدى ومئة، وله أربعون سنة، ومدة خلافته سنتان ونصف، وتوفي الشافعي سنة أربع ومئتين، ولا يمكن عد عمر بن عبد العزيز مجدد المئة الأولى باعتباره أولها؛ لأنه لم يكن مولوداً أولها فضلاً عن أن يكون مجددها، وكذا الإمام الشافعي لم تكن ولادته بداية المئة الثانية فضلاً عن أن يكون مجددها .

جـ هل يشترط لعد المجدد أن تقع وفاته على رأس المئة؟:

يشترط بعض العلماء لاستحقاق المجدد هذا الوصف أن تقع وفاته على رأس القرن، إلا أن هذا الرأي مرجوح؛ لأن كلمة (البعث) في الحديث تدلُّ على الإرسال والإظهار، والموت قبض وزوال، فالمقصود من الحديث: أن المجدد من تأتي عليه نهاية القرن وقد ظهرت أعماله التجديدية، واشتهر بالصلاح وعمّ نفعه، ولا يشترط أن تقع وفاته قبيل نهاية القرن، أو أن يبقى حياً حتى يدخل عليه القرن التالي .

د ـ هل مجدد القرن واحد أو متعدد؟:

أثار قوله ﷺ: «من يجدد لها دينها» سؤالاً في الماضي والحاضر، هو: هل المقصود بلفظة (من) الواردة في الحديث فرداً واحداً من أفراد الأمة وأفذاذها يحيي الله بها دينها، أم المراد بها ما هو أوسع من ذلك فيشمل الأفراد والجماعات، وذهب كثير من العلماء إلى أن المجدد فرد واحد، ونسب السيوطي هذا الرأي إلى الجمهور، فقال في أرجوزته عن المجددين:

وكونُه فرداً هُوَ المشهورُ

قد نطقَ الحديثُ والجمهورُ

وذهب فريق اخر من العلماء إلى أن كلمة (من) في الحديث للعموم في أصل وضعها اللغوي ، فتشمل الواحد والجماعة على حد سواء، ومن هؤلاء العلماء ابن حجر وابن الأثير والذهبي وابن كثير والمناوي والعظيم ابادي، ويتبين من خلال البحث أن حمل لفظة (من) في الحديث عن العموم أولى، لأن التاريخ والواقع يثبت وجود أكثر من مجدد رأس كل قرن من القرون الخوالي، ولأن مهمة التجديد مهمة ضخمة واسعة؛ لكونها لا تقتصر على جانب من جوانب الدين، ولأن رقعة الأمة الإسلامية تمتد على مساحة شاسعة يصعب معها على فرد بل مجموعة أفراد أن يقوموا بعملية التجديد الشامل المطلق .

هـ المجدد هو دين الأمة وليس الدين نفسه:

يلاحظ المتأمل في قوله ﷺ: «من يجدد لها دينها» أنه أضاف الدين إلى الأمة، ولم يقل يجدد لها الدين، وذلك لأن الدين بمعنى المنهج الإلهي الذي بعث الله به رسوله ﷺ، وما اشتمل عليه من عقائد وعبادات وأخلاق وشرائع تنظم علاقة العبد بربه وعلاقته بغيره من بني جنسه، ثابت كما أنزله الله لا يقبل التغيير ولا التجديد، وأما دين الأمة بمعنى علاقة الأمة بالدين ومدى تمسكها وتخلقها به وترجمتها له واقعاً ملموساً على الأرض، فهو المعنى القابل للتجديد ليعيد الناس إلى المستوى الذي ينبغي أن يكونوا عليه بعلاقتهم مع الدين .

يمكنكم تحميل كتاب الدولة الأموية عوامل الازدهار وتداعيات الانهيار

من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي:

الجزء الأول:

http://alsallabi.com/uploads/file/doc/BookC9(1).pdf

الجزء الثاني:

http://alsallabi.com/uploads/file/doc/BookC139.pdf

كما يمكنكم الاطلاع على كتب ومقالات الدكتور علي محمد الصلابي من خلال الموقع التالي:

http://alsallabi.com


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022