الثلاثاء

1446-11-08

|

2025-5-6

من الكلمات التي تروج في المحيط العلماني والمحيط الليبرالي كلمة "الدين لله والوطن للجميع"، وهي تقال في مقابل الذين يتمسكون بالدين، ويرجعون إليه في حياتهم من مسلمين ومسيحيين وغيرهم، فيقولون لهم: "الدين لله"، وكأن هؤلاء المتدينين يجحدون هذه الحقيقة: أن الدين لله، والواقع أن كل المؤمنين أو كل المتدينين يؤمنون بأن الدين لله.

بل رأينا الإسلام يأمر بالقتال حتى يقرّ هذه الحقيقة في الواقع؛ أن يكون الدين لله.

قال تعالى: {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله} [البقرة: 193].

وقال في مقام آخر: {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله} [الأنفال: 39].

فهو يريد أن يستخلص الدين من أيدي الذين يتلاعبون به، ويريدون أن يكون في خدمة فئة أو شعب أو فرد من الناس، بل يجب أن يخلص الدين من كل تبعية لغير الله، ويكون لله وحده، كما قال تعالى: {ألا لله الدين الخالص} [الزمر: 3].

يمكنك أن تقول: الدين لله والوطن لله،

على معنى أن الأرض كلها لله، والكون كله لله.

فما يريده هؤلاء من عبارتهم: "الدين لله" ليس من الدين في شيء؛ إذ يراد بها عزل الدين عن الحياة، وعن توعية الناس، وردّهم إلى الله، وإلى الصراط المستقيم.

والحقيقة أن العبارة المذكورة "الدين لله والوطن للجميع" نستطيع أن نقلبها على كل الوجوه التي تقتضيها القسمة العقلية هنا.

فيمكنك أن تقول "الدين لله والوطن لله"، على معنى أن الأرض كلها لله، والكون كله لله، كما قال تعالى: {إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده} [الأعراف: 128].

قال تعالى: {ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله} [البقرة: 115].

ويمكن أن نقول "الدين للجميع والوطن للجميع"، فكما لا يحرم أحد من الوطن، لا يحرم أحد من الدين، ويمكنك أن تقول "الدين للجميع والوطن لله"، كما يمكنك أن تقول ما قالوا "الدين لله والوطن للجميع"، وفي الحقيقة إن الأوطان السعيدة تلك التي تحكم شرع الله بين مواطنيها.

العلماء الربانيون كلهم يفصح عما يجده في مكنونه وداخله من حب الوطن والشوق والحنين إليه إذا فارقه، وهذا شيء لا ينكره ولا يجحده إلا متبلد الإحساس.

وبمناسبة الكلام على مبدأ المواطنة وتصحيح بعض المفاهيم حوله، فليس صحيحا ما يدّعيه بعض الناس من أن الإسلاميين بعيدون عن حب وطنهم واحترامه، أو أن انتماءهم لوطنهم ضعيف بل معدوم، فحب الوطن مركوز في النفوس، وهو فطرة وجبلّة، ويزداد هذا الحب مع ترعرع الإنسان فيه طوال السنين، ففيه بيته، وأهله، وذووه.. فيه أمنه واستقراره.. فيه مسجده وآثار عبادته وطاعاته، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يعزز هذا الانتماء للبيت الذي هو الوطن الصغير، ليتعزز الانتماء أكثر للوطن الأكبر، لذلك لما أراد بنو سلمة الانتقال من بيوتهم لأنها بعيدة عن المسجد، وأرادوا مجاورة المسجد، قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: "دياركم تكتب آثاركم" [الوطن والمواطن ص،20].

والعلماء الربانيون كلهم يفصح عما يجده في مكنونه وداخله من حب الوطن والشوق والحنين إليه إذا فارقه، وهذا شيء لا ينكره ولا يجحده إلا متبلد الإحساس، والعياذ بالله.

قال ابن تيمية: "النفس تحن إلى الوطن إذا لم تعتقد أن المقام به محرم، أو به مضرة وضياع دنيا" [مجموع الفتاوى، ابن تيمية، 27/463].

وقال أسلم بن عبد العزيز: "سمعت ابن عبد الحكم يقول: لم يقدم علينا من الأندلس أحد أعلم من قاسم بن محمد، ولقد عاتبته حين رجوعه إلى الأندلس، قلت: أقم عندنا، فإنك تعتقد هنا رئاسة، ويحتاج الناس إليك، فقال: لا بد من الوطن" [الوسطية، حمد بن إبراهيم ص، 228].

 

المراجع

  • الوطن والمواطنة، د. يوسف القرضاوي، دار الشروق، بغير طبعة.
  • مجموع الفتاوى، عبد الحليم ابن تيمية، مجمع الملك فهد، الطبعة الأولى، 2004م.
  • الوسطية، حمد بن إبراهيم.
  • المواطنة والوطن في الدولة الحديثة المسلمة، د. علي محمد الصلابي، دار ابن كثير، الطبعة الأولى، 2014م.


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022