إن لكل مواطن في الدولة المسلمة حق الحماية اللازمة على نفسه، وماله، وعرضه، وشرفه، وأهله، سواء من الاعتداء الخارجي، أو من الظلم الداخلي بين المواطنين بعضهم البعض بالنسبة للمواطن المسلم، لأن "المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه"، "وهم يد على من سواهم، ويسعى بذمتهم أدناهم" (البخاري، كتاب الفرائض).
وبالنسبة للمواطن غير المسلم، فإن عهد الذمة يوجب تلك الحماية، يقول الماوردي: ويلزم لهم ببذلها (أي: الجزية) حقان:
- أحدهما: الكف عنهم.
- والثاني: الحماية لهم، ليكونوا بالكف آمنين، وبالحماية محروسين. (الأحكام السلطانية، ص 162).
ويقول القرافي: إن عقد الجزية موجب لعصمة الدماء، وصيانة الأموال والأعراض، إلى غير ذلك مما يترتب عليه. وحقيقة عقد الذمة هو التزامنا لهم بذلك، والحماية من الاعتداء الخارجي، مما توجبه مسؤولية الحاكم عن رعيته، وهذا الواجب معلق على أكتاف المسلمين فقط، ومع ذلك من المقبول ما إذا تطوع مواطن غير مسلم لذلك، وإذا كان من واجب المسلمين متضامنين تحت قيادة الإمام الذود عن كل شبر من الوطن الإسلامي، فإنه من باب أولى الدفاع عن سلامة مواطن مواطنيه؛ لأن النفس أعظم ثمنا من الأرض.
وعن التزام المسلمين حماية إخوانهم من المواطنين غير المسلمين، نقل عن ابن حزم قوله (في "مراتب الإجماع"): إن من كان في الذمة وجاء أهل الحرب إلى بلادنا يقصدونه وجب علينا أن نخرج لقتالهم بالكراع والسلاح، ونموت دون ذلك، صونا لمن هو في ذمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن تسليمه دون ذلك إهمال لعقد الذمة، وحكي في ذلك إجماع الأمة. (الفروق، القرافي، 3/14).
أما الحماية من الظلم الداخلي: فيجب على الدولة أن تمنع أي مواطن من أن ينال من مواطن آخر، وبالتالي يجب على المسلمين -بحق الأخوة الدينية- منع أي مسلم من أخيه المسلم، وبحق الوفاء بالعهد منع أي مسلم وأي مواطن غير مسلم، وعلى المواطنين غير المسلمين المشاركة في منع الظلم منهم على أي مسلم، أو على بعضهم بموجب ولائهم للدولة، ووفائهم بما تتطلبه الحياة المشتركة. (الفروق، القرافي، 3/14).
والآيات القرآنية متوافرة في النهي عن الظلم الذي يوجب سخط الله في الدنيا والأخرة، فيؤدي إلى الخسران في الدنيا، وعذاب بئيس في دار القرار، كما تتوارد الأحاديث النبوية على تشنيع الظلم والظالمين، منها:
- قوله صلى الله عليه وسلم: "ألا من ظلم معاهدا، أو انتقصه حقا، أو كلفه فوق طاقته، أو أخذ منه شيئا بغير طيب نفس، فأنا حجيجه يوم القيامة" (التعايش السلمي، سُورحمن هدايات، ص 331).
- وقوله صلى الله عليه وسلم: "من آذى ذميا فأنا خصمه، ومن كنت خصمه خصمته يوم القيامة".
- وقوله صلى الله عليه وسلم: "انصر أخاك ظالما أو مظلوما"، فقال رجل: يا رسول الله أنصره إذا كان مظلوما، أرأيت إن كان ظالما كيف أنصره؟ قال: "تحجزه -أو تمنعه- من الظلم، فإن ذلك نصره".
وحرص العلماء على ذكر هذا الحق في كتبهم، ولا يقتصر هذا الالتزام بطبيعة الحال على الإمام فحسب، بل يقع كذلك على جميع المسلمين. وأكد القرافي هذه النقطة قائلا: إن عقد الذمة يوجب حقوقا علينا لهم؛ لأنهم في جوارنا، وفي خفارتنا، وذمة الله تعالى، وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم، ودين الإسلام، فمن اعتدى عليهم ولو بكلمة سوء، أو غيبة في عرض أحدهم، أو نوع من أنواع الأذية، أو أعان على ذلك؛ فقد ضيع ذمة الله تعالى، وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم، وذمة دين الإسلام. ويجب توفير الحماية لجميع المواطنين على السواء، وعلى نحو يكفل لكل مواطن في الدولة الحديثة المسلمة حياة كريمة، وتشمل الحماية جميع مقومات الحياة. (التعايش السلمي بين المسلمين وغيرهم، ص 332).
حماية النفس
الحماية على النفس بمثابة حق الحياة، وحياة الإنسان مقدسة لا يجوز لأحد أن يعتدي عليها، قال تعالى: "أنهُ من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا" (المائدة: 32).
ومما يفهم من الآية الكريمة أنه: لا يمكن أن يكون هناك تقدير أسمى من هذا التقدير لحياة البشر وكرامتهم؛ إذ لا يجري التقليل من شأن الموت نتيجة للجهل بقيمة الحياة، ولا يبالغ في قيمة الحياة في حد ذاتها بحيث يقلل من قيمة الحياة الكريمة؛ لأن القتل وحده هو الذي يجعل الإنسان مطرودا من الإنسانية، والتكريم هو حياة الإنسان وكرامته في حد ذاته، دون اعتبار للعرق أو الطبقة، بل من حيث إنه إنسان. (التعايش السلمي بين المسلمين وغيرهم، ص 332).
حماية المال
وتكون الحماية على جميع أنواع الاعتداءات على المال من سرقة، أو غصب، أو هلاك، أو ما إليها، ذلك لأنه لا يحل أخذ مال امرئ إلا بطيب نفس، فلا يجوز انتزاع ملكية نشأت عن كسب حلال إلا للمصلحة العامة، قال تعالى: "ولا تأكُلُوا أموالكُم بينكُم بالباطل" (البقرة: 188)، ومع تعويض عادل لصاحبها "من أخذ من الأرض شيئا بغير حقه خُسف به يوم القيامة إلى سبع أرضين".
حماية الأعراض
جاء في البيان الإسلامي العالمي لحقوق الإنسان: عرض الفرد وسمعته حرمة لا يجوز انتهاكها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا".
ويحرم تتبع عورته، ومحاولة النيل من شخصيته وكيانه الأدبي، "ولا تجسسُوا ولا يغتب بعضُكُم بعضا" (الحجرات: 12).
وقال تعالى: "ولا تلمزُوا أنفُسكُم ولا تنابزُوا بالألقاب" (الحجرات: 11).
ويلحق بحرمة الأعراض حرمة البيوت، فلا يجوز هتكها، وكان التشريع الاستئذان والاستئناس قبل دخولها.
قال تعالى: "يا أيها الذين آمنُوا لا تدخُلُوا بُيُوتا غير بُيُوتكُم حتى تستأنسُوا وتُسلمُوا على أهلها، ذلكُم خير لكُم لعلكُم تذكرُون" (النور: 27).
وأن يدخلها المرء من الناحية المخصصة للدخول، قال تعالى: "وأتُوا البُيُوت من أبوابها" (البقرة: 189).
كذلك حرمة الظن اجتنابا من الوقوع في الظن المحرم، قال تعالى: "يا أيها الذين آمنُوا اجتنبُوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم" (الحجرات: 12).
وترتيبا على ذلك، كان حسن الظن بالآخرين من مكارم الأخلاق حيا وميتا، فلا يجوز سبّ إنسان في حياته وبعد موته، يقول صلى الله عليه وسلم: "سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر".
وقال صلى الله عليه وسلم: "لا تسبوا الأموات، فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا".
ومن كل ما سبق ذكره، يتضح أن الشريعة الإسلامية لا تقصر الحق في الحماية على المسلمين من مواطنيها فقط، بل تشمل بحمايتها غيرهم من المواطنين المخالفين في العقيدة، فإذا رفض الذمي اعتناق الإسلام، فإنه يستطيع أن يعيش في ظل النظام القانوني للدولة الإسلامية، ويكون من رعاياها، وحملة جنسيتها، ويبقى على عقيدته دون مضايقة من الدولة. (الفرد والدولة في الشريعة الإسلامية، د. عبد الكريم زيدان، ص 335).