الأربعاء

1446-11-02

|

2025-4-30

(الشعور بالمسؤولية من أهم صفات نور الدين زنكي)

من كتاب عصر الدولة الزنكية ونجاح المشروع الإسلامي بقيادة نور الدين الشهيد في مقاومة التغلغل الباطني والغزو الصليبي

الحلقة: 88

بقلم: د. علي محمد الصلابي

جمادى الأولى 1444ه/ ديسمبر 2022م

 

تولَّد عن ورع نور الدين وتقواه إحساس شديد بالمسؤولية، وظهر في جميع أعماله وحالاته، فالخشية من الله تعالى تجعله دائماً في موقع المحاسب لنفسه، المراقب لها، حتى لا تتجاوز إلى ما يغضب الله، فهو يعتبر نفسه مسؤولاً أمام الله عن كل ما يتعلق برعيته، وكل ما يتعلق ببلاد المسلمين، ودمائهم، وحقوقهم، حتى لو كانوا من غير رعيته، فإذا كان باستطاعته مساعدتهم فهو؛ مسؤول إذا قصَّر في تقديم هذه المساعدة.

يظهر هذا الفهم الشامل للمسؤولية(1) في رسالة نور الدين محمود إلى إيلدكز أمير أذربيجان، وأرمينية، وهمذان، والري جواباً على رسالته التي يطلب فيها من نور الدين عدم احتلال الموصل، ويتهدده بأن لا سبيل له إليها. قال نور الدين للرسول: «قل لصاحبك: أنا أرحم ببني أخي (يعني: سيف الدين غازي) منك، فلمَ تدخل نفسك بيننا؟ وعند الفراغ من إصلاحهم يكون الحديث معك عند باب همذان، فإنك قد ملكت نصف بلاد الإسلام، وأهملت الثغور حتى غلب الحرج عليها، وقد بليت أنا وحدي، بأشجع الناس الفرنج، فأخذت بلادهم، وأسرت ملوكهم، فلا يجوز لي أن أتركك على ما أنت عليه، فإنه يجب علينا القيام بحفظ ما أهملت من بلاد الإسلام، وإزالة الظلم عن المسلمين»(2).

كان نور الدين يشعر بالمسؤولية الملقاة على عاتقه تجاه الوقت أن يضيع هباءً، والدم المسلم من أن يُهدر، والكرامة الإسلامية من أن تهان، والأرض الإسلامية من أن تُغزى، وتُقتطع(3). فحينما علم في عام 544هـ/1149م بتحالف الصليبيين قال: «لا أنحرف عن جهادهم».

إلا أنه مع ذلك كان يكفُّ أيدي أصحابه عن العبث والإفساد في الضياع، ويحسن الرأي في الفلاحين، ويعمل على التخفيف عنهم، الأمر الذي أكسبه عطف وتأييد جماهير دمشق وسائر البلاد التابعة لها، فراحت تدعو له بالنصر. وكتب إلى زعماء دمشق: «إنني ما قصدت بنزولي هذا المنزل طالباً لمحاربتكم، وإنما دعاني إلى هذا الأمر كثرة شكاية المسلمين...بأن الفلاحين أُخِذَتْ أموالهم وسُبِيَتْ نساؤهم وأطفالهم بيد الفرنج وانعدام الناصر لهم، فلا يسعني مع ما أعطاني الله ـ وله الحمد ـ من الاقتدار على نصرة المسلمين، وجهاد المشركين، وكثرة المال والرجال، ولا يحلّ لي القعود عنهم والانتصار لهم؛ مع معرفتي بعجزكم عن حفظ أعمالكم، والذبِّ عنها، والتقصير الذي دعاكم إلى الاستصراخ بالفرنج على محاربتي، وبَذْلُكُمْ لهم أموال الضعفاء، والمساكين من الرعبة ظلماً لهم، وتعدياً عليهم، وهذا ما لا يرضي الله تعالى، ولا أحداً من المسلمين»(4).

وفي العام التالي خرج إليه أهل دمشق، وكثير من أجنادها بعد أن قرر عدم مهاجمتها عنوة كراهية لسفك دماء المسلمين، والتقى بعدد من الطلاب، والفقراء والضعفاء فلم يخيب أحداً من قاصديه(5). وقد أصر نور الدين طيلة الفترة التالية على عدم القيام بهجوم على البلد تحرُّجاً من قتل المسلمين، وقال: «لا حاجة إلى قتل المسلمين بأيدي بعضهم بعضاً، وأنا أُرفِّههم ليكون بذل نفوسهم في مجاهدة المشركين»(6). فهو يعلم جيداً: أن الأمة إذا قتلت نفسها سهلت على العدو، وإذا قدرت على حماية دمها؛ بذلته رخيصاً في مجاهدة هذا العدو.

معادلة واضحة يمكن أن تفسر لنا الكثير من هزائم الأمم، وانتصاراتها على السواء(7).

ومن ثم كانت عادة نور الدين كما يقول أبو شامة: «إنه لا يقصد ولاية أحد من المسلمين إلا ضرورة، إما ليستعين على قتال الفرنج، أو للخوف عليها منهم، كما فعل بدمشق، ومصر، وغيرها»(8). لقد كان الدم عنده عظيماً، لما كان قد جبل عليه من الرأفة والرحمة والعدل(9).

 

مراجع الحلقة الثامنة والثمانون:

(1) دور نور الدين محمود في نهضة الأمة ومقاومة غزو الفرنجة ص 132.

(2) زبدة حلب (2/332 ـ 333) نور الدين محمود ص 17.

(3) تاريخ الزنكيين في الموصل وبلاد الشام ص 407.

(4) دمشق ص 308 ـ 309 لابن القلانسي نور الدين محمود ص 16.

(5) ذيل تاريخ دمشق ص 310 نقلاً عن نور الدين محمود الرجل والتجربة ص 17.

(6) نور الدين محمود الرجل والتجربة ص 17.

(7) المصدر نفسه ص 17.

(8) كتاب الروضتين نقلاً عن نور الدين محمود ص 17.

(9) الباهر ص 107 نور الدين محمود ص 17.

 

يمكنكم تحميل كتاب عصر الدولة الزنكية ونجاح المشروع الإسلامي بقيادة نور الدين الشهيد في مقاومة التغلغل الباطني والغزو الصليبي

من الموقع الرسمي للدكتور علي الصَّلابي


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022