صور "التمكين" في قصة أصحاب الأخدود
من كتاب (فقه النصر والتمكين)
الحلقة: السادسة
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
إن المتأمل في قصة الغلام وأصحاب الأخدود يجد أن الغلام انتصر بعقيدته ومنهجه، وكذلك الراهب الذي ثبت من أجل أن تبقي عقيدته في مقابل أن تزهق روحه، أما الأعمى فقد انتصر مرتين، انتصر عندما تخلى عن مكانته عند الملك مع ما في ذلك من جاه ومكانة، وانتصر عندما تخلى عن حياته في مقابل عقيدته.
إن الراهب والأعمى قد خلّدا لنا معاني عظيمة من معاني الانتصار الحقيقي، بعيدًا عن التأويل والتبرير الذي يغطي فيه كثير من الناس ضعفهم وخورهم بستار يوهمون فيه الآخرين أنهم فعلوا ذلك من أجل الدين.
لقد كان الغلام ذكيًا ألمعيًا، وحين سنحت له فرصة عظيمة في تبليغ رسالة ربه، اغتنمها وحقق معاني عظيمة في مفهوم النصر والتمكين.
لقد انتصر الغلام بقوة فهمه وإدراكه لأقصر وأسلم الطرق لنصرة دينه وعقيدته، وإخراج أمته من الضلال إلى الهدى، ومن الكفر إلى الإيمان، وانتصر عندما وفق لاتخاذ القرار الحاسم في الوقت المناسب، متخطيًا جميع العقبات، ومستعليًا على الشهوات وحظوظ النفس ومتاع الحياة الدنيا، وانتصر على هذا الملك المتجبر المتغطرس، الذي أعمى الله قلبه، فخرّب ملكه بيده، فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور.
إن الغلام كان عبقريًا عندما خطط لإهلاك الملك الكافر وعندما رسم طريقه لنيل الشهادة في سبيل الله.
لقد كان الانتصار العظيم في المعركة بين الكفر والإيمان لصالح موكب التوحيد، لقد استشهد فرد واهتدت بسببه أمة فآمنت برب الغلام.
إن دقة التخطيط وبراعة التنفيذ، وسلامة التقدير، نجاح باهر، وفوز ظاهر.
لقد انتصر الغلام عندما جعله الله قدوة لمن بعده، وأبقى له ذكرًا حسنًا على لسان المؤمنين، حيث جعل الله له لسان صدق في الآخرين، لقد كانت انتصارات متلاحقة ووصلت إلى ذروتها عندما آمن الناس برب الغلام، آمنوا بالله وحده وكفروا بالطاغوت، وهنالك جن جنون الملك، فقد صوابه، فاستخدم كل ما يملك من وسائل الإرهاب والتخويف، في محاولة يائسة، للإبقاء على هيبته وسلطانه وتعبيد الناس له.
ثم يحفر أخاديده، ويوقد نيرانه، ويأمر زبانيته وجنوده بإلقاء المؤمنين في النار، وتأتي المفاجأة المذهلة، بدل أن يضعف من يضعف، ويهرب من يهرب، إذ نجد الإقدام والشجاعة، وذلك بالتدافع إلى النار ولا غريب، لأن الإيمان بث في نفوسهم الشجاعة، والثبات، وها هم يجدّون في اللحاق بالغلام، وكأنهم يتلذذون في تقديم أرواحهم فداءً لعقيدتهم ودينهم.
إن الإيمان الحقيقي يصنع بالأمم الغرائب، ويبدد الظلام الطويل الذي عاشوه، والسنوات المديدة التي استعبدهم فيها الطغاة، ومع قصر المدة التي قد يأتي فيها الإيمان إلى النفوس إلا أنه كفيل بتعريف الناس بحقيقة المنهج الرباني كما نرى في هذه الأمة السعيدة التي آمنت برب الغلام، وكأنهم عرفوا المنهج وعاشوا فيه كما عاش الراهب طوال عمره، أو تربوا عليه كما تربي الغلام في صباه.
إن حقيقة الإيمان عندما تخالط بشاشة القلوب، وتلامس الأرواح تفعل العجب.
لقد كان انتصار الناس الذين آمنوا برب الغلام انتصارًا جماعيًا مباركًا يدل على صفاء العقيدة، ووضوح المنهج، وسلامة الطريق، وفهم لحقيقة الانتصار.
إننا لا نجد في القرآن ولا في السُّنَّة أي ذكر لهؤلاء الظلمة، وماذا كان مصيرهم في الدنيا، ولله في ذلك حكمة قد تخفى علينا (1) .. نعم وردت آية في آخر قصتهم فيها دعوة لهم وتحذير: (إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ) [البروج: 10].
قال الحسن البصري: «انظروا إلى هذا الكرم والجود، قتلوا أولياءه، وهو يدعوهم إلى التوبة والمغفرة» (2).
أن هذه النهاية تحقق معنى من معاني الانتصار، مَنْ المنتصر؟ الذي نصر عقيدته ودين ربه، وحُرّق بضع دقائق، ثم انتقل إلى جنات النعيم، أو ذلك الذي تمتع بأيام في الحياة الدنيا ثم مآله - إن لم يتب - إلى عذاب جهنم وعذاب الحريق؟
هل هناك مقارنة بين الحريق الأول، والحريق الثاني.. حريق الدنيا وحريق الآخرة؟ إنها نقلة بعيدة، وبون شاسع، أما المؤمنون الذين حُرّقوا في الدنيا، فـ (لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ) [البروج: 11]، وتعلن النتيجة التي لا مراء فيها ولا جدال: (ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) أليس هذا هو الانتصار؟ (3) هذا في الآخرة، وفي الدنيا تمكن المنهج من قلوب الناس وتم ظهوره.
مراجع الحلقة السادسة
(1) انظر: حقيقة الانتصار ص (13، 14)
(2) تفسير ابن كثير (4/496).
(3) انظر: حقيقة الانتصار ص(55).