تمكين الله تعالى لنبيه (صلى الله عليه وسلم) في غزوة بدر ..
من كتاب (فقه النصر والتمكين)
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
الحلقة: العشرون
إن انتصار أهل الإيمان على أهل الكفر في المعارك القتالية، يظهر جليًا في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وفي عهد الخلفاء الراشدين وفي تاريخ الأمة المجيدة.
إن النبي صلى الله عليه وسلم بعد استقراره في المدينة شرع يخطط للأعمال الجهادية، ويحث أصحابه على فنون القتال ويرسل السرايا والبعوث، ليضيق على حركة قريش التجارية، ويؤدب القبائل المشركة ويؤمن دولة الإسلام من أعدائها، ويخوّف المتربصين بالمسلمين، ويهيئ أصحابه للمهمات التي تنتظرهم بعد أن أذن الله لهم بالقتال، فبعث صلى الله عليه وسلم مجموعة من البعوث والسرايا حققت بعض الأهداف الاستراتيجية من أهمها:
1- الاستطلاع: حتى يتعرف المسلمون على الطرق المحيطة بالمدينة والمؤدية إلى مكة، خاصة الطرق الحيوية التجارية لقريش في الجزيرة واهتموا بالتعرف على قبائل المنطقة وموادعة بعضها.
2- الحصار الاقتصادي: على قريش ومنعها من مواصلة تجارتها مع الشام ما أمكن إلى ذلك سبيلاً ومنع الحصار الاقتصادي المتوقع على المدينة من قبل القبائل المحيطة بها، وذلك بعقد أحلاف مع بعضها وقتال البعض الآخر، ومفاجأة كل تجمع يخشى منه ضرر على الدولة المسلمة، فكان صلى الله عليه وسلم يقظًا سريع الحركة ما يكاد يسمع بتجمع للمشركين يهدده إلا فاجأهم وشتت شملهم وألقى الرعب في قلوبهم، فالهجوم عنده أقوى وسائل الدفاع.
3- لقد أثبتت حركة السرايا والبعوث أن المسلمين أصبحوا قوة يحسب لها حسابها من قبل المشركين من قريش والقبائل المجاورة, واضطرت بعض القبائل إلى مهادنة وموادعة المسلمين، هذه بعض الأهداف التي حققتها تلك السرايا والبعوث.
إن معارك النبي صلى الله عليه وسلم ضد المشركين وانتصاره عليهم نوع من أنواع التمكين، ومن أهم هذا المعارك: بدر، والخندق، ففي معركة بدر بيَّن تعالى أن حقيقة النصر من الله تعالى, قال تعالى: (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [آل عمران:123].
إن الله تعالى بين أن النصر لا يكون إلا من عند الله عَزَّ وَجَلَّ، والمعنى ليس النصر إلا من عند الله دون غيره، و(العزيز) أي ذو العزة التي لا ترام (1)، و(الحكيم) أي الحكيم فيما شرعه من قتال الكفار مع القدرة على دمارهم وإهلاكهم بحوله وقوته سبحانه وتعالى (2).
ويستفاد من هاتين الآيتين: تعليم المؤمنين الاعتماد على الله وحده، وتفويض أمورهم إليه من التأكيد على أن النصر إنما هو من عند الله وحده وليس من الملائكة أو غيرهم، فالأسباب يجب أن يأخذ بها المسلمون لكن يجب أن لا يغتروا بها، وأن يكون اعتمادهم على خالق الأسباب والوسائل حتى يمدهم الله بنصره وتوفيقه، ثم بين سبحانه مظاهر فضله على المؤمنين وأن النصر الذي كان في بدر وقتلهم المشركين، ورمي
النبي صلى الله عليه وسلم المشركين بالتراب يوم بدر إنما كان في الحقيقة بتوفيق الله أولاً وبفضله ومعونته، وبهذه الآية الكريمة يربي القرآن المسلمين ويعلمهم الاعتماد عليه، فقال تعالى:
(فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَنًا إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) [الأنفال:17].
ولما بين سبحانه وتعالى أن النصر كان من عنده وضح بعض الحكم من ذلك النصر:
فقال تعالى: (لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنقَلِبُوا خَائِبِينَ ` لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ) [آل عمران: 127، 128].
وأمر سبحانه المؤمنين أن يتذكروا دائمًا تلك النعمة العظيمة نعمة النصر في بدر، ولا ينسوا من أذهانهم كيف كانت حالتهم قبل النصر.
قال تعالى: (وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [الأنفال: 26].
لقد كانت نتائج غزوة بدر على المسلمين عظيمة، ومن أهم تلك النتائج:
1- ضعف موقف المشركين واهتزاز هيبتهم أمام قبائل الجزيرة العربية.
2- ظهور قوة جديدة في الجزيرة أصبح الجميع يحسب لها حسابها.
3- بدأ النفاق في المدينة يظهر جليًا بعد بدر، واستمر المنافقون في أذاهم للمسلمين.
4- شرع اليهود في إظهار عداوتهم للمسلمين بعد بدر حسدًا وبغيًا وأول من أظهر بغيه يهود بنى قينقاع.
5- أصبحت الحرب معلنة بين المسلمين وقريش لم تنته إلا بفتح مكة.
6- تشجع كثير من الناس لدخول الإسلام ودخلت المدينة في طور جديد من الجهاد المسلح.
7- خص الله أهل بدر من الصحابة الكرام بالمغفرة وشرّف من حضرها من الملائكة وأصبحت غزوة بدر شرفًا ومنقبة لمن حضرها من المسلمين والملائكة.
----------------------------------------
مراجع الحلقة العشرون:
(1) انظر: تفسير ابن كثير (1/411).
(2) المصدر نفسه (2/303).