تهيئة الأسباب لوقوع مراد الله تعالى ..
مختارات من كتاب "الإيمان بالقدر"
لمؤلفه الشيخ الدكتور علي محمد الصلّابي
الحلقة الثالثة والثلاثون
إذا أراد الله وقوع شئ في هذا الوجود هيأ له أسبابه التي يقع بها، وذلك لأنه جعل نظام هذا الكون مبنياً على سنن لا تنخرم وقوانين لا تنخرم إلا بمشيئة الله عز وجل، كما هو الشأن في المعجزات وخوارق العادات، وهو استثناء من القاعدة التي قام عليها الكون من اعتبار الأسباب ـ حقيقة ـ في الوصول إلى مسبباتها، وقد قيل إذا أراد الله أمراً يسّر أسبابه.
ومن التطبيقات الواضحة لهذا العنوان في القرآن الكريم ما جاء في حيثيات غزوة بدر وملابساتها، حيث هيأ الله تعالى أسباب النصر للمسلمين في هذا اليوم،، ولم يجعل نصرهم ـ في ظاهر الأمر ـ من قبيل الخوارق المحضة التي ليس للسبب فيها نصيب، خاصة في مثل هذا الموقف الشديد الذي عانى فيه المسلمون من قلة العدد والعتاد، كل ذلك ليتبين للمسلمين قبل غيرهم أن السنن الإلهية والقوانين الربانية التي قام عليها نظام الكون لا تتخلف عادة، وقد تجلت هذه الأسباب، وظهرت فيما جاء في قوله تعالى عن غزوة بدر: "إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السَّمَاء مَاء لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ" (الأنفال : 11) . فإن اغشاءهم النعاس كان من أسباب النصر، لأنهم لما ناموا زال أثر الخوف من نفوسهم في مدة النوم ولما استيقظوا وجدوا نشاطاً، ونشاط الأعصاب يكسب صاحبه شجاعة، ويزيل شعور الخوف الذي هو فتور الأعصاب (1).
وإذا كان الأصل في السنن الجارية هو تعلق المسببات بأسبابها، وارتباط النتائج بمقدامتها، فإن الأصل لا يتغير في السنن الخارقة المبنية على خرق العادة والأسباب، وعدم التغيير فيها يتمثل في مراعاة صورة الأسباب في تلك الخوارق ليظل قانون السببية عالقاً بذهن المكلف، ومرتبطاً بإقامة الكون وحركة الحياة، والقرآن الكريم زاخرٌ بالآيات التي يمكن الاستدلال بها في هذا الصدر (2)، ومنها قوله تعالى: " فَقُلْنَا اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً" (البقرة : 60). وفي الكلام حذف تقديره: فضرب فانفجرت (3).
قال القرطبي: وقد كان الله تعالى قادراً على تفجير الماء وفلق الحجر من غير ضرب، ولكن أراد أن يربط المسببات بالأسباب حكمة منه للعباد في وصولهم إلى المراد، وليرتب على ذلك ثوابهم وعقابهم في الميعاد (4).
---------------------------------------------
مراجع الحلقة الثالثة والثلاثون:
(1) تفسير التحرير والتنوير (9/ 278) .
(2) السنن الإلهية د. مجدي عاشور ص 147.
(3) المصدر نفسه ص 148.
(4) الجامع لأحكام القرآن ، القرطبي (1 / 419).
لمزيد من الاطلاع ومراجعة المصادر للمقال انظر:
كتاب الإيمان بالقدر في الموقع الرسمي للشيخ الدكتور علي محمد الصلابي: