نعمة العلم التي وهبها الله تعالى لسليمان (عليه السلام) ..
مختارات من كتاب الأنبياء الملوك (عليهم السلام)
بقلم: د. علي محمد الصلابي
الحلقة (52)
قال تعالى: ﴿وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ﴾:
أعلنها سليمان (عليه السلام) في الناس تحدثًا بنعمة الله، وإظهاراً لفضله ﴿إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ﴾: فضل الله الكاشف عن مصدره، الدال على صاحبه، فما يملك تعليم منطق الطير لبشر إلا الله، وكذلك لا يؤتى أحدٌ من كل شيء -بهذا التعميم- إلا من الله.
﴿وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ﴾ مما يحتاج إليه الملك. وللطيور والحيوانات والحشرات وسائل للتفاهم، -هي لغاتها ومنطقها- فيما بينها. والله سبحانه خالق هذه العوالم يقول: ﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ﴾ [الأنعام: 38]. ولا تكون أمما حتى تكون لها روابط معينة تحيا بها، ووسائل للتفاهم فيما بينها، وذلك ملحوظ في حياة أنواع كثيرة من الطيور والحيوانات والحشرات، وبجهد علماء هذه الأنواع في إدراك شيء من لغاتها ووسائل التفاهم بينها عن طريق الحدس والظن لا عن طريق الجزم واليقين، فأما ما وهبه الله لسليمان (عليه السلام)، فكان شأنا خاصاً به عن طريق الخارقة التي تخالف مألوف البشر، لا عن طريق المحاولة منه والاجتهاد لتفهم وسائل الطير وغيره في التفاهم على طريق الظن والحدس، كما هو حال علماء اليوم. أحب أن يتأكد هذا المعنى ويتضح؛ لأن بعض المفسرين المحدثين، ممن يبهرهم انتصارات العلم الحديث، يحاولون تفسير ما قصه القرآن عن سليمان (عليه السلام) في هذا الشأن بأنه نوع من إدراك لغات الطير والحيوان، والحشرات على طريقة المحاولات العلمية الحديثة، وهذا إخراج للخارقة عن طبيعتها وأثر من آثار الهزيمة والانبهار بالعلم البشري القليل، وإنه لأيسر شيء وأهون على الله أن يعلِّم عبداً من عباده لغاتِ الطير والحيوان والحشرات، هبة لدنية منه، بلا محاولة ولا اجتهاد، وإن هي إلا إزاحة لحواجز النوع التي أقامها الله بين الأنواع، وهو خالق هذه الأنواع.
على أن هذا كله لم يكن إلا شقاً واحدا للخارقة التي أتاحها لله لعبده سليمان... وحقيقة. إن سنة الله في الخلق جرت على أن يكون للطير إدراك خاص يتفاوت فيما بينه، ولكنه لا يصل إلى مستوى إدراك الإنسان. وإن خلقة الطير على هذا النحو حلقة في سلسلة التناسق الكوني العام، وإنها خاضعة -كحلقة مفردة- للناموس العام، الذي يقتضي وجودها على النحو الذي وجدت به.
وفي الحقيقة، فإن الهدهد الذي يولد اليوم هو نسخة من الهدهد الذي وجد منذ ألوف السنين، من أن وجدت الهداهد، وإن هناك عوامل وراثة خاصة تجعل منه نسخة تكاد تكون طبق الأصل من الهدهد الأول، ومهما بلغ التحوير فيه، فهو لا يخرج من نوعه، ليرتقي إلى نوع آخر وإن هذا -كما يبدو- طرف من سنة الله في الخلق، ومن الناموس العام المنسق للكون.
ولكن هاتين الحقيقتين الثابتتين لا تمنعان أن تقع الخارقة عندما يريدها الله خالق السنن والنواميس، وقد تكون الخارقة ذاتها جزءاً من الناموس العام، الذي لا نعرف أطرافه جزءاً يظهر في موعده الذي لا يعلمه إلا الله، يخرق المألوف المعهود للبشر، ويكمل ناموس الله في الخلق والتناسق العام، وهكذا وجد هدهد سليمان وربما كل الطائفة من الطير التي سخرت له في ذلك الزمان.
- ﴿إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ﴾؛ أي: الظاهر المبين لله علينا.فقد أعطانا فضلاً محيطاً بكل الفضائل.
علقت الدكتورة زهراء البرقاوي عن علم منطق الطير لسليمان (عليه السلام) فقالت: لقد أشار القرآن الكريم إلى هذه المعجزة الخارقة في معرض تعداد نعم الله على سليمان، ولذلك فإن المعجزة، ولكونها خارجة عن مألوف البشر وقدرتهم، تحقق إعلامية في النص القرآني لترسيخ البعد التواصلي في القرآن الكريم.
إن سليمان قال: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ﴾، ولم يقل يا أيها الذين آمنوا، وذلك دلالة على عظمة الشهادة. فأراد أن يشهد الناس جميعاً مؤمنهم وكافرهم بنعمة الله عليه، اعترافاً منه بفضلها وعظمتها ومكانتها؛ إذ قال هذه المقالة في جمع عظيم من الناس الحاضرين في مجلسه من الخاصة والسامعين من العامة.
قال ﴿عُلِّمْنَا﴾ بالجمع ولم يقل علمت بالمفرد؛ لأنه يتكلم عن نفسه وعن أبيه داوود، أي عن آل داوود، فناسب المقام بالجمع.
وقال: ﴿مَنطِقَ﴾ على اعتبار أن الكلام صفة لائقة بمنطق البشر من المخلوقات. والاقتصار على منطق الطير إيجاز؛ لأنه إذا علم منطق الطير وهي أبعد الحيوانات من الركون إلى الإنسان وأسرعها نفوراً منه، علم أن منطق ما هو أكثر اختلاطا بالإنسان حاصل بالأحرى.
وعلى كل حال فإدراك منطق الطير لم يكن إلا معجزة من الله تعالى لسليمان (عليه السلام) الذي يعطي الملك والعلم لمن يشاء. إنه على كل شيء قدير.
مراجع الحلقة:
- الأنبياء الملوك، علي محمد محمد الصلابي، الطبعة الأولى، دار ابن كثير، 2023، ص 233-237.
- في ظلال القرآن، سيد قطب (5/3634-3635).
- تفسير ابن كثير (6/193).
- تفسير الشعراوي (17/10756)
- خصائص ومعجزات سليمان، زينب محمد سوار، ص63.
لمزيد من الاطلاع ومراجعة المصادر للمقال انظر:
كتاب الأنبياء الملوك في الموقع الرسمي للشيخ الدكتور علي محمد الصلابي