الصراع الحضاري من الحملات الصليبية إلى الاستعمار:
امتحان للأمة وصناعة للتمكين
بقلم: د. علي محمد الصلابي
ما لبثت أوروبا بعد سحق الوجود الإسلامي في إسبانيا أن بدأت بقيادة إسبانيا والبرتغال، ومن بعدهما بريطانيا وهولندا وفرنسا عملية الالتفاف التاريخية المعروفة على عالم الإسلام عبر خطوطه الخلفية في إفريقيا وآسيا، والتي كانت بمثابة حركة الاستعمار القديم؛ التي ابتلى بها العالم الإسلامي فيما بعد، والتي استمرت حتى العقود التي أعقبت سقوط الخلافة العثمانية ، كان المماليك في مصر ، والشام قد بلغوا مرحلة الإعياء ، وكان اكتشاف الطريق البحري الجديد حول رأس الرجاء الصالح قد وجَّه لتجارتهم ـ التي هي بمثابة العمود الفقري لمقدرتهم المادية ـ ضربةً قاصمةً.
أما العثمانيون فكان جهدهم منصباً على اختراق أوروبا من الشرق ، ولم تكن لديهم الجسور الجغرافية التي تمكنهم من وقف محاولة الالتفاف تلك في بداياتها الأولى ، ولكنهم ما لبثوا بعد عدَّة عقود أن تحركوا لمجابهة الموقف ، ومع ذلك فقد دافعت الشعوب ، والقيادات الإسلامية المحلِّية في المناطق التي ابتليت بالغزو دفاعاً مستميتاً ، وضربت مثلاً صلباً في مقاومتها المتطاولة للعدوان ، وألحقت بالغزاة خسائر فادحة على طول الجبهات ، والمواقع الساحلية التي سعى هؤلاء إلى أن يجدوا فيها موطئ قدم (عماد الدين خليل، ص 37). وقد استطاع العثمانيون إنقاذ العالم الإسلامي من الغزو البرتغالي الإسباني؛ الذي استهدف خنق التجارة الإسلامية ، وحين حاولوا السيطرة على ساحل المغرب الإسلامي للإغارة عليه وضربه؛ سارع العثمانيون بالسيطرة على المغرب كلِّه ما عدا مراكش ، واستطاعوا مواجهة الإسبان في حوض المتوسط ، وجزائره ، وسواحله ، وأدالوا منهم ، وبذلك استطاعت القوة البحرية العثمانية أن تحفظ شاطئ البحر المتوسط للإسلام ، والمسلمين ، واستطاع العثمانيون أن يسيطروا على ساحل شرق إفريقيا ، وشمال المحيط الهندي في مطلع القرن الثامن عشر ، فأرهب ذلك الأوربيين ، واستطاع أحمد بن سعيد 1740م أن يقف في وجههم في عُمَان؛ حيث فقد البرتغاليون الأمل في استرداد هذه المنطقة ، وقد كانت عُمَان بعد سقوط الأندلس أكبر قوة عربية ، ودامت نهضتها من عام 1000 إلى 1250هـ وقد استولت على ثغور البحر الأحمر ، والمحيط الهندي ، والخليج ، فإفريقيا الشرقية إلى رأس الرجاء الصالح ، وفي بضعة أجيال صار أهل عمان سادة هذه البحار العظمى الثلاثة ، وصار لهم أسطول ضخم ، هاجم الأسطول البرتغالي ، وأجلاه عن جميع الثغور الهندية ، والفارسية ، والإفريقية.. ولم يصبر الإنجليز على هذه الدولة البحرية التي كانت تهددهم في أملاكهم في اسيا ، وإفريقيا ، فعملوا على مدى ثمانين عاماً على إضعافها ، والقضاء عليها ، وضرب الأسطول البريطاني مدنها بالقنابل (أنور الجندي، ص 393-394).
وجاءت الموجه الأوروبية المضادة التالية على يد القوات الاستعمارية؛ التي دفعتها الثورة الصناعية إلى البحث عن مجالاتها الحيوية في القارات القديمة لتصريف بضائعها ، والحصول على الخامات الضرورية ، وتسخير الطاقات البشرية (الرخيصة) المستعبدة في إفريقيا عن طريق نقلها بالقوة فيما يعرف بحركة تهجير العبيد؛ التي كانت بمثابة إحدى العلامات السوداء في تاريخ الصراع بين أوروبا ، والشرق ، والتي ذهب ضحيتها عددٌ كبير من أبناء الشعوب الإسلامية في إفريقيا ، واستمرَّت هذه الموجة التي قادتها بريطانيا ، وفرنسا ، وهولندا ، وبلجيكا، وإيطاليا، وألمانيا إلى حدٍّ ما حتى العقود الأولى من القرن العشرين ، وكان العالم الإسلامي فريستها الأولى ، بل إنه كان فريستها الوحيدة ، إذا استثنينا مساحات محدودة قطنتها أكثرية غير إسلامية ، وكانت أهدافها الاقتصادية تتحرك على خلفية صليبية ، عبَّرت عن نفسها في أكثر من واقعة ، وقدمت عبر التاريخ أكثر من دليل ، إن «غلاد ستون» رئيس الوزراء البريطاني يقولها بصراحة أمام مجلس العموم البريطاني؛ وهو يمسك بالمصحف الشريف: ما دام هذا في عقول المصريين ، وقلوبهم؛ فلن نقدر عليهم أبداً (عماد الدين خليل، ص40).
وعندما دخل القائد البريطاني الصليبي القدس بعد الحرب العالمية منتشياً؛ وحلفاء بريطانيا يستقبلونه بحفاوةٍ ، وتكريم إلا أنَّه لم يخف حقده الصليبي على الإسلام ، والمسلمين ، وأظهر سروره ، وحبوره كقائد صليبي منتصر فتح القدس ، وفلسطين ، وجعلها تحت الانتداب البريطاني الصليبي ، فقال: الان انتهت الحروب الصليبية (أبو فارس، ص 35) يزعم بهذه العبارة: أنَّ هدف الحروب الصليبية باحتلال القدس ، وفرض السيادة الصليبية عليها ، وعلى فلسطين قد تحقَّق ، وهو بهذا يشير إلى أنَّ الحروب الصليبية التي استمرت قرنين من الزمان ، واحتلت القدس ، وفلسطين سنة 492هـ وحرَّرها المسلمون في عام 583هـ لم تحقق هدفها ، أما الحرب العالمية الأولى فقد حقَّقت فيها الصليبية هدفها ، واستولت على فلسطين ، والقدس ، وكانت السيادة لها. وأما القائد الصليبي الفرنسي؛ فقد ذهب إلى قبر صلاح الدين في دمشق ، وقال عند القبر: ها نحن عدنا يا صلاح الدين! (أبو فارس، ص 434)
واستمرَّت الحرب الصليبية فلم تتوقف، فقامت بريطانيا بإعطاء وطن لليهود على أرض فلسطين ، وإقامة دولة يهودية ، واتَّخذت من القرارات ، والإجراءات الإدارية ، والعسكرية ما تقيم به هذه الدولة بتدريب اليهود على السِّلاح ، وفنون القتال ، وتوفير السلاح لهم ، بل إعطاء بعض أسلحة الجيش البريطاني لهم ، وبخاصةٍ عندما أعلنت بريطانيا انتهاء الانتداب البريطاني على فلسطين في 15/5/1948م ، بل سلمت كثيراً من المدن ، والقرى الفلسطينية إلى اليهود؛ ليعلنوا إقامة دولة يهودية عليها ، وفي الوقت ذاته قد حرَّمت على الفلسطينيين المسلمين التدريب على السلاح ، واقتناء السلاح ، وشنَّت عقوبات ظالمة على كل فلسطيني يقتني السلاح ، أو العتاد ، فكانت عقوبة الإعدام هي الشائعة ، ولقد عُلِّقَ من المجاهدين المسلمين على أعواد مشانق الصليبيين الإنجليز في تلك الفترة الاف الشهداء ، وَزُجَّ في غياهب السجون عشرات الألوف.
هذا؛ وقد تزامنت الحركة الاستعمارية ، وارتبطت عضوياً بحركة التبشير النَّصرانية بجانبيها الكاثوليكي، والبروتستانتي ، والتي انتشرت مراكزها في طول بلاد الإسلام ، وعرضها تمهد للاستعمار بأنشطتها المختلفة، وتفتح أمامه الطريق ، وتحظى تحت سلطانه بالكثير من المساعدات ، والميزات، إلا أنَّ هذا الهجوم الاستعماري الصليبي المضاد لم يَمْضِ بسلام ، ولم تركع الشعوب الإسلامية أمام إرادة القوة؛ التي اعتمدها الغزاة، بل شمَّروا عن ساعد الجد ، واستجاشوا قدرات الإيمان الدافقة ، ووازنوا بتضحياتهم ، وعشقهم الموت ، وركضهم إلى الشهادة، رغم نقص إمكانياتهم العسكرية ، والمادية ، وصنعوا بذلك الأعاجيب؛ التي أذهلت الغربيين ، وعرقلت استمرارية حركتهم ، وألحقت بهم الهزائم ، والويلات، ووضعت في طريقهم الأسلاك الشائكة ، والألغام. ليس هذا فحسب، بل إن الاستجابة للتحدِّي الاستعماري النصراني بعث حركات إسلامية أصيلة تخلَّقت في مناخ جهادي قاس، واستهدفت مقارعة العدوان ، وتحرير الأرض ، والعقيدة ، والإنسان ، وقدَّمت نماذج من أعمال المقاومة، تحدَّث بها الغربيون قبل الشرقيين ، وملأت صفحاتٍ ناصعة بيضاء في معطيات التاريخ، ونحن نذكر على سبيل المثال لا الحصر مقاومة كلٍّ من: محمد عبد الكريم الخطابي بالمغرب ، وعبد القادر الجزائري ، وجمعية علماء المسلمين بالجزائر؛ التي قادها عبد الحميد بن باديس ، ومحمد البشير الإبراهيمي، وعمر المختار بليبيا، وغير ذلك من حركات التحرُّر؛ التي تحتاج إلا أقلام صادقة لبحثها ، وكتابتها. والأمة في أشدِّ الحاجة إلى مثل هذه الدراسات الجادة (عماد الدين خليل، ص 41).
إن الحرب الصليبية لم تنته ، ولن تنتهي ، وما يحدث في أفغانستان ، والعراق ، وفلسطين دليلٌ على ما نقول.
المصادر والمراجع:
(1) هجمات مضادة في التاريخ الإسلامي، د.عماد الدين خليل، ص37.
(2) الإسلام وحركة التاريخ - الموسوعة الإسلامية العربية -، أنور الجندي، ص393 ـ 394.
(3) هجمات مضادة في التاريخ الإسلامي، د.عماد الدين خليل، ص40.
(4) دروس وتأملات في الحروب الصليبية، أبو فارس، ص35.
(5) المصدر نفسه، ص 434.
(6) هجمات مضادة في التاريخ الإسلامي، د.عماد الدين خليل، ص41.
(7) المصدر نفسه، ص 41.
(8) المصدر نفسه، ص 41.
(9) صلاح الدين الأيوبي، علي محمد الصلابي، ط1، دار المعرفة، بيروت، 2008، ص 17-23.