الثلاثاء

1446-11-15

|

2025-5-13

موقف محمد المهدي السنوسي والليبيين من الدولة العثمانية وفكرة الجامعة الإسلامية؛ مواقف ثابثة تجسد وحدة مصير العالم الإسلامي

بقلم: الدكتور علي محمّد الصلابي

الحلقة الخامسة
صفر 1441 ه/ أكتوبر 2019

في بداية عهد السلطان عبد الحميد الثاني طلب من السيد محمد المهدي السنوسي إرسال قوة من رجاله من الأقطار البرقاوية الطرابلسية لمساعدة الدولة العثمانية في حربها ضد روسية عام (1877 م)، إلا أنَّ السنوسي امتنع عن تنفيذ الطلب، لانشغاله بالبناء والتربية والتكوين، والانتشار بالدعوة، والاستعداد للجهاد، وهذا الامتناع جعل السلطان عبد الحميد يرسل الرسل إلى الإمام المهدي السنوسي للوقوف على حقيقة أمره، وبذل السلطان عبد الحميد الثاني جهداً كبيراً في سبيل التعرف على طبيعة الحركة السنوسية، وحقيقة نواياها، وأهدافها، ومدى استعداد زعيمها للعمل ضمن سياسته في الجامعة الإسلامية، وتمت الخطوة الأولى في هذا المجال بطلب من الداخلية العثمانية إلى واليها في طرابلس، لموافاتها بمعلومات عن الحركة ونشاطها.
أجاب الوالي كمال باشا (1893 1898 م) بما يُشعر بحسن علاقة الوالي بالحركة السنوسية، واطمئنانه إلى نواياها، وثقته برجالاتها، وأكَّد في رسالته التي بعثها للسلطات العثمانية في إستانبول على الفوائد العلمية والاجتماعية التي حققتها زوايا الحركة السنوسية المنتشرة في الصحراء الكبرى بين أعراب البادية، ورفع مستوياتهم الدينية والخلقية والثقافية، ومزاحمتها الفعالة للجمعيات التنصيرية المنبثة في القارة الإفريقية، ودخول الكثير من الزنوج في الإسلام بتأثير دعايتها له، وأكد الوالي في ختام رسالته، انقياد الحركة بزواياها وقادتها إلى دولة الخلافة العثمانية.
وأوفد السلطان عبد الحميد بعثة برئاسة رشيد باشا والي بنغازي ومعه الصادق المؤيد العظم أحد ياورات السلطان إلى واحة الجغبوب في ليبية، وذلك عام (1889 م)، ومما جاء في أخبار البعثة أن المهدي السنوسي قد أحسن استقبال البعثة وأتاح لأعضائها مشاهدة زاوية الجغبوب والاطلاع على أعمال أتباع السنوسية، وأن المهدي السنوسي لم يكن إلا داعياً مرشداً، وإنه يدعو بالتأييد للدولة العثمانية وتوفيق الحضرة السلطانية.
وبعد انتقال المهدي السنوسي من واحة الجغبوب إلى واحة الكَفْرة في أقصى الجنوب من ولاية طرابلس عام (1895 م)، أرسل أحد أتباعه وهو الشيخ عبد العزيز العيساوي إلى إستانبول، لتأكيد إخلاصه وولائه للسلطان العثماني، وليطلب منه تأكيد الفرمانات التي صدرت من قبل للسنوسيين.
أصدر الباب العالي أوامره في إجراء التأكيدات اللازمة لولاية طرابلس ومتصرفية بنغازي، في التزام الاهتمام والرعاية، والاحترام تجاه الحركة السنوسية وأتباعها، وتقديم فريد العناية بكافة الزوايا.
وقد أرسل السلطان مع الشيخ العيساوي هدايا للمهدي السنوسي؛ من بينها نسخة مطبوعة من (صحيح البخاري) له خاصة، خلاف عشر نسخ أخرى تعطى من قبله لمن يرى فيه الأهلية، كما أرسل له ساعة «لتكون في الأوقات الخمسة مذكرة بصالح دعواته لجنابه العالي».
وردَّ السلطان على هذه البعثة بإرسال الصادق المؤيد العظم بزيارة المهدي السنوسي في واحة الكفرة، وهناك اطَّلع الصادق بنفسه على أحوال الزاوية، واجتمع بالمهدي الذي استقبله استقبالاً طيباً، واطمأنَّ لحسن توجهه نحو السلطنة العثمانية ،
ومما ذكره الصادق المؤيد العظم في رحلته عن المهدي «أنه شيخ صادق لمقام الخلافة، وحسب وصية والده، فهو في كل صباح عقب الصلاة يجري الدعاء بالصحة والعافية لخليفة المسلمين، ثم تقرأ الفاتحة، وذلك في جميع الزوايا، وهو دائماً يوصي أتباعه بطاعة أمير المؤمنين، ومحبة الدولة العثمانية؛ لأن طاعته واجبة شرعاً وعقلاً».ومما زاد السلطان عبد الحميد ثقة بالحركة السنوسية كثرة شكايات الدول الأوروبية من الحركة، وتبرم قناصل الدول من نشاطها، لعرقلتها الكثير من مشاريعهم التبشيرية التي كانوا ينوون تنفيذها.
وحين اطمأن السلطان عبد الحميد الثاني إلى صدق توجه الحركة السنوية لدولة الخلافة العثمانية وإخلاصها في العمل لسياسة الجامعة الإسلامية، بعث السلطان عبد الحميد إلى محمد المهدي السنوسي رسالة تتضمن أسس حركة الجامعة الإسلامية، وحقيقة أبعادها وأهدافها، والدور الذي يمكن أن تقوم به الحركة السنوسية ضمن هذه السياسة.
وأكَّد السلطان في رسالته على أهمية الخلافة والإمارة الإسلامية المقدسة التي أثبتها الله في البيت العثماني منذ مئات السنين، وما افترضه الله على المسلمين من نصرة هذه الخلافة وتأييدها، وطاعة ولاة الأمر القائمين على أمرها، ولا سيما في مثل هذه الظروف التي تحيط بالعالم الإسلامي، والتي جمع فيها من سماهم السلطان: «الأغيار من الكفار والملاحدة والمارقين والمفسدين في جميع الأقطار يتحزبون ويتوالون في السر والعلن خصومة للسنة والسنية، وعزماً على هدم منار الخلافة العثمانية الإسلامية، ويأبى الله إلا أن يتم نوره». وحذَّر السلطان عبد الحميد محمداً المهدي السنوسي من عمليات التسلل الأوروبي إلى داخل القارة الإفريقية تحت شعار الكشف الجغرافي، والبحث العلمي من جانب الإنكليز والإيطاليين وغيرهم، مبيناً المقاصد المضرة بالدين والمسلمين من قبل هؤلاء.
وأكد السلطان عبد الحميد الثاني على أهمية تبصرة كل من له علاقة بالسنوسية والمتبين طرقها وزواياها المنتشرة في الصحراء الإفريقية بضرورة الالتفاف حول الخلافة العثمانية المقدسة، والإمامة الكبرى الإسلامية، التي هي ضمان قوة المسلمين، وشعار وحدتهم وتضامنهم.
كما بيَّن لمحمد المهدي السنوسي الوسائل العلمية الواجبة الاتباع لمواجهة أعمال المبشرين، وأعداء الإسلام والمسلمين في القارة الإفريقية، لكشف وسائلهم وأهدافهم الكبرى، وذلك بتكثير أعداد الدعاة والعلماء، وإعدادهم الإعداد المناسب، وبثّهم في كافة الأنحاء الإفريقية لنشر الإسلام بينهم، وتبصيرهم بأمور دينهم، والتأكيد على أهمية الخلافة في حياة المسلمين، ودور الوحدة والتضامن في دفع غائلة المعتدين، وأعداء الملة والدين(1).
إن الليبيين عموماً ارتبطوا بفكرة الجامعة الإسلامية، وسياسة الدولة العثمانية وسلطانها عبد الحميد الثاني؛ الذي تبنَّى الدعوة إليها، وأكدوا في كل مناسبة ارتباطهم بهذه الدعوة، وخاصة في أزمات الدولة، ففي حرب الدولة مع اليونان سارع أهل طرابلس بتشكيل اللجان لجمع التبرعات، وقد كتب على الاستمارات المعدة للجمعة عبارة (إعانة جهادية)، وبلغ مجموع التبرعات قرابة (مئة ألف فرنك).
وامتدح الشيخ سليمان الباروني (1870 1940 م) أحد الزعماء الليبيين الدولة العثمانية وسلطانها، وأشاد بجيشها بمناسبة حربها مع اليونان وانتصارها عليهم.
وأنشد الشاعر مصطفى بن زكرى بهذه المناسبة قصيدة قال فيها:
يا سعد سر مترنماً ببشائر السعد المبين
واعطف على دار الـ ـخلافة باليسار وباليمين
وإذا مررت «بيلدز» وسعدت بالملك المكين
تاج الخلافة بهجة الدنيا وعز المسلمين
عبد الحميد وناصر الدين الحنيفي المبين
وعن اليونانيين أعداء الخلافة، قال:
مهلاً بني اليونان لستم في الحروب بمعجزين
وجنودكم أمست «بترناوة» حصيداً خامدين(1)
وساهمت صحافة ليبية في المدن رغم نشأتها المتأخرة بدعم حركة الجامعة الإسلامية، ففي أول ديسمبر (1908 م) ظهرت جريدة (الكشاف)، وكان صاحب امتيازها ومديرها المسؤول محمد النائب الأنصاري، ووصف الجريدة بأنها ملتزمة بخط الجامعة الإسلامية.
وفي أوائل مارس (1908 م) صدر العدد الأول من جريدة (العصر الجديد) التي وصفت نفسها بأنها سياسة علمية، وجعلت شعارها (من الشعب إلى الشعب)، وتعاطفت مع (اللواء) المصرية، كما سارت في تيارها بتبني فكرة الجامعة الإسلامية.
وفي إستانبول أصدر الزعيم الليبي عبد الوهاب عبد الصمد صحيفة (دار الخلافة)، وجعلت محور سياستها الدفاع عن الخلافة والجامعة الإسلامية.
وأسس الشيخ سليمان الباروني في القاهرة مطبعة عام (1325 هـ/1908 م) سمَّاها (الأزهار البارونية)؛ التي حدد هدفها قائلاً: «أن تكون خادمة للدين، سائرة في ركاب الجامعة الإسلامية، ناثرة للاداب ولكل ما فيه نفع وإرشاد الأمة والهيئة الاجتماعية مترقية في مدارج التقدم». وأصدرت المطبعة جريدتها باسم (الأسد الإسلامي) في عام (1908 م).
اهتم سليمان الباروني بفكرة الجامعة الإسلامية، واتخذ من جريدته منبراً لإعلاء فكرتها، ومجالاً لبحث مشاكل المسلمين وتقصِّي أخبارهم، ومما جاء في افتتاحية العدد الأول منها:.. فقد كان الرشاد في الأمة في زمن انقياد أفرادها بطبيعتهم لقوانين الشرع الشريف، ووقوفهم عند مناهيه، ثم لما دارت الأيام بدوران الدهر، وتغيرت الطبائع باختلاف أصناف البشر، وقع التساهل في أمر الدين، وانحلت عرا الاتحاد، وساد الشقاق، وتؤكد الجريدة أنه سيكون على رأس اهتماماتها بذل النصح للأمة الإسلامية، وإرشادها إلى ما يعود عليها بالنفع العاجل والاجل، والتقدم في مباراة الأمم الحية، ومزاحمتها في معترك الحياة الهنيئة.
وتساءل الباروني عن الأسباب الكائنة وراء فرقة المسلمين وتفككهم، وما إذا كان ممكناً لمُّ شعثها، وتوحيد كلمتها في هذا الزمن الذي هم فيه أحوج إلى الاتحاد من أي شيء اخر، وهو يؤكد أن هذا ممكن، مدللاً عليه بشدة اهتمام أوروبة وساستها وكتابها بملاحظة الحالة التي بدأت تظهر بين المسلمين، بفعل ما يبديه سلطانهم عبد الحميد وإلى جانبه المخلصون للعمل في سبيل تحقيق ما بينهم من جامعة تضم كلمتهم وتوحِّد رأيهم وتجمع شتاتهم أينما كانوا في أطراف المعمورة، حتى إذا ما كانوا يداً واحدة، وعلى قلب رجل واحد، ناقشوا أوروبة الحساب وناصبوها الحرب.
وقد ظل عموم الليبيين على ولائهم للدولة العثمانية وسلطانها عبد الحميد؛ فهو بالنسبة لهم خليفة المسلمين، وملجأ الدنيا والدين، ودولته ملاذ المسلمين جميعاً ودرعهم الواقي ضد محاولات أوروبة للنيل من استقلالهم.
واستمر هذا الشعور قائماً لدى أهل المدن في ليبية، وزعماء الحركة السنوسية وأتباعها، حتى قام حزب الاتحاد والترقي في تركية بإبعاد السلطان عبد الحميد الثاني (1908 م) فلم يشعر أهل الولاية إزاء هذه الحركة بالاطمئنان، ولم يستبشروا بها خيراً، بل قابلوها بالمعاداة والاستهجان، لما عرفوه عن الاتحاديين من «بعد عن الحكمة ومناهضة الدين»، واستهجن الليبيون إعلان الدستور، ولم يروا مبرراً لصدوره؛ خاصة والشريعة الإسلامية كفيلة بسد حاجتهم، ووقع إثر ذلك حوادث كبيرة في طرابلس ضد الحركة والقائمين بها، وطالب غالبية الناس بإبعاد من قدم إلى الولاية من الاتحاديين.
ويذكر كاكيا: «إن الأهالي في ليبية نظروا إلى الجمعية بغير عين الرضا، وكرهوا رجالها، لتدخُّلهم في مسائل العادات والدين، وعدّوا إعلان الدستور انتهاكاً للشريعة الإسلامية».
إن زعماء الحركة السنوسية كانوا شديدي الولاء للدولة العثمانية، وكذلك زعماء المدن الليبية، وهذا يدلُّ على الوعي العميق وشعورهم بضرورة مساندة دولة الخلافة، والمحافظة عليها من منطلق شرعي يدينون به للمولى عز وجل، وكان هذا الفهم منبثقاً من فهمهم لقول الله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا} [آل عِمرَان: 103]، وقال تعالى: [ال عمران: {وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ۝} [آل عِمرَان: 105].
وإن كانت الخلافة الإسلامية العثمانية خرجت في اخر أيامها عن خطها الصحيح لأسباب وعوامل داخلية وخارجية، إلا أنها لا زالت في دائرة الإسلام، ولم تمرق منه مروق السهم، وخصوصاً قبل عزل السلطان عبد الحميد الثاني؛ ولذلك رأى زعماء الحركة السنوسية والليبيون عموماً عدم الخروج على الدولة العثمانية: «ولا نرى الخروج على أئمتنا وولاة أمورنا وإن جاروا، ولا ندعو عليهم ولا ننزع يداً من طاعتهم، ونرى طاعتهم طاعة لله عز وجل فريضة، ما لم يأمروا بمعصية، وندعو لهم بالصلاح والمعافاة»، هكذا كان موقف الحركات السنوسية وزعماء ليبية من الدولة العثمانية.


مراجع البحث:
1. -علي محمد محمد الصلابي، مِنْ أَعْلَامِ التَّصَوُّفِ السُّنِّيِّ: 6سيرة الزعيم محمد المهدي السنوسي،دار الروضة،اسطنبول،1438ه،2017م ص (57:49)
2. أحمد فهد بركات الشوابكة، حركة الجامعة الإسلامية،دار المنار، 1404ه،1984م، ص (237).
3. محمود الشنيطي، قضية ليبيا،مكتبة النهضة المصرية، القاهرة،1370ه،1951م، ص (27).
4. علي المراتي، الصلات بين ليبيا وتركيا التاريخية والإجتماعية، مطابع وزارة الثقافة والإعلام، طرابلس،1388ه،1968م،، ص (182 196).


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022