أساس "لا إله إلا الله" الولاء والبراء
بقلم: د. علي الصلابي
23 ربيع الأول 1441 هـ
20 نوفمبر 2019
ولما كان أصلُ الموالاة: الحبُّ، وأصلُ المعاداةِ: البغضَ، وينشأُ عنهما من أعمالِ القلوبِ والجوارحِ ما يدخلُ في حقيقةِ الموالاةِ والمعاداةِ كالنُّفْرَةِ، والأُنْسِ، والمعاونة، وكالجهادِ، والهجرة، ونحو ذلك ، فإنَّ الولاءَ والبراءَ مِنْ لوازِم لا إله إلا الله، قال الله تعالى: ﴿لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ﴾ [آل عمران: 28]. وقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ [المائدة: 51].
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أوثقُ عُرى الإيمانِ الحبُّ في اللَّهِ والبغضُ في اللَّهِ". ولقد ضرب نبيُّ الله إبراهيم عليه السلام نموذجَ الأسوة الحسنة في ولائه لربِّ العالمين، حيثُ كان عليه السلام أسوةً حسنةً، وقدوةً طيبةً في ولائه لربه ودينه وعباد الله المؤمنين، وبرائه ومعاداته لأعداء الله، ومنهم أبوه. لقد كانت سيرةُ نبيِّ الله إبراهيم عليه السلام مع قومه، كأيِّ نبيٍّ رسول، حيث دعاهم بالتي هي أحسن إلى عبادة الله وتوحيده، وإفرادِه بالعبادة، والكفرِ بكلّ طاغوتِ يُعْبْدُ من دون الله . قال تعالى: ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا﴾ [مريم: 41-49]. تلك هي نقطةُ البَدْءِ في دعوة خليل الرحمن، دعوةٍ بالحسنى، مبتدئاً بأقرب الناسِ إليه، فإنْ لم يكن هناك تجاوبٌ مع هذه الدعوة فالاعتزالُ لهذا الباطل وأصحابه، لعلّ في ذلك ردعاً وزجراً وتفكّراً في هذا الأمر الجديد، ونجاة للداعي من مشاركة أهل الباطل في باطلهم، إذا كان لا بدّ له من مخالطتهم ومعاشرتهم، وعدم تمكّنه من الهجرة في أرضهم.
ثم يمضي القرآن في بيان دعوة إبراهيم عليه السلام، مبيّناً أنّه استخدمَ مع قومه كلَّ حجة ودليل، قال تعالى: ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ﴾ [الشعراء: 69-77].
ولما لم يجدوا حجّةً، وإنّما هو التقليدُ الأعمى لفعل الآباء والأجداد، قال لهم إبراهيم عليه السلام: أنا عدو آلهتكم هذه، قال تعالى: ﴿قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ﴾ [الممتحنة: 4].
وعقيدة إبراهيم عليه السلام هذه هي التي عبّر عنها علماؤنا الأجلاء بقولهم: "لا موالاة إلا بالمعاداة، ولا تصح الموالاةُ إلا بالمعاداة" . كما قال تعالى عن إمام الحنفاء المحبين، أنه قال لقومه: ﴿فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ﴾ [الشعراء: 77]، فلم تصحَّ لخليل الله هذه الموالاةُ والخُلّةُ إلا بتحقيق هذه المعادلة، فإنّه لا ولاءَ إلا الله، ولا ولاءَ إلا بالبراءِ مِنْ كلَّ معبودٍ سواه، قال تعالى: ﴿إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ [الزخرف: 26-28].، أي جعلَ هذه الموالاة للهِ، والبراءةَ من كلِّ معبودٍ سواه ،كلمةً باقيةً في عقبه، يتوارثها الأنبياءُ بعضُهم عن بعضٍ، وهي كلمة لا إله إلا الله، وهي التي ورَّثها إمام الحنفاء لأتباعه إلى يوم القيامة. وقد كان من نتيجة هذه المعاداةِ وهذا البراء القويِ أن أجمعَ الطغاةُ على قتل إبراهيم، كما هو حال كل طاغية على مرّ عصور التاريخ في إبادة الدعاة إلى الله، لا لشيء إلا لأنهم يدعوهم إلى عبادة الله وحده، وجمعوا له ناراً عظيمة، فكانت رعايةُ اللهِ وحفظُهُ تحوطان خليله الصادق عليه الصلاة والسلام، فصارت النارُ برداّ وسلاماً عليه، قال تعالى: ﴿قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ﴾ [الصافات: 97-98]. لقد عدلوا عن الجدال والمناظرة لما انقطعوا وغُلِبوا، ولم تبقَ لهم حجةٌ ولا شبهةٌ إلى استعمال قوتهم وسلطانهم لينصروا ما هم عليه من سفههم وطغيانهم، فكادهم الربُّ جلَ جلاله، وأعلى كلمته.
مراجع:
1. علي الصلابي، قصة الخلق وآدم عليه السلام، وجذور الحضارة الإنسانية الأولى.
2. محمد بن سعيد القحطاني، الولاء والبراء في الإسلام، دار طيبة، الرياض، ط 1، ص 145- 150.