أحمد الشريف السنوسي في قلب المقاومة الليبية ضد المستعمر الإيطالي:
بقلم: الدكتور علي محمّد الصلابي
الحلقة العاشرة
ربيع الأول 1441 ه/ نوفمبر 2019
أولا: نزول أحمد الشريف إلى ساحات الوغى
جمع أنور باشا بعد رجوعه إلى الجغبوب الضباط العثمانيين، وأبلغهم حقيقة الأمر، وسرهم بأن السيد أحمد سيحل بينهم في القريب العاجل، ثم غادر أنور درنة متوجهاً بسيارته إلى السلوم، ومنها إلى الإسكندرية متنكراً، ووصل إلى الأستانة للمشاركة في حرب البلقان.
توجه عزيز المصري الذي تم تعيينه قائداً للجيش أخيراً إلى الجغبوب لاستصدار ما يلزم من صاحب القيادة الشرعية، فأكرم أحمد الشريف وفادته، وأمره بالرجوع فوراً إلى الميدان الجهادي، وكتب إلى رؤساء الزوايا وشيوخ القبائل وضباط الجيش يأمرهم بامتثال أوامر وكيله القائد الجديد عزيز المصري، وترك أحمد الشريف الجغبوب متجهاً نحو مدينة درنة، ووصل إلى موضع يدعى (الظهر الأحمر) يقع جنوبها، فاستقبل استقبالاً عظيماً، وبعد استقباله للشيوخ والزعماء طلب منهم أن يعودوا إلى معسكراتهم، ثم أصبح بين المجاهدين، وبذل كل جهوده لتنظيم حركة الجهاد إثر الانسحاب العثماني، وكتب منشوراً إلى مشايخ الزوايا والقبائل يعلن فيه استمرارية ومواصلة الجهاد، وطلب من كل مسلم من سن الرابعة عشرة حتى الخامسة والستين أن يذهب إلى ميدان الجهاد مزوداً بمؤونته وسلاحه، وقام بتفقُّد المعسكرات، وأبدى نصائحه واراءه حول الاستعداد لمواصلة الجهاد بدون الأتراك، وأصدر أوامره التنظيمية للمعسكرات والمجاهدين.
عزم الإيطاليون على سحق قوات أحمد الشريف، فدبَّروا تنظيم حملة قوية قوامها خمسة الاف جندي مسلح تسليحاً حديثاً لضرب معسكري المجاهدين في سيدي عزيز، وسيدي القرباع على ضفتي وادي درنة، وفي اليوم السادس عشر من مايو سنة (1913 م)؛ أي: في نفس اليوم الذي وصل فيه أحمد الشريف إلى منطقة الظهر الأحمر جرت معركة مهولة عرفت باسم سيدي القرباع، واشتهرت باسم (يوم الجمعة)، وقد تمكَّن المجاهدون بفضل الله من تحقيق الانتصار الحاسم في تلك المعركة، وقد أصيب الكثير من ضباط القوات الإيطالية بالجنون، وجيء على تلك القوة بأجمعها، فكسي أديم الأرض بأشلاء الموتى والجرحى والعتاد المبعثر هنا وهناك، وكانت أول معركة يخوضها أحمد الشريف، وكان لهذا الانتصار العظيم أثره في جذب الناس إلى حركة الجهاد وانتسابهم للأدوار.
ثانيا: الجولة التفتيشية في الجبل الأخضر
وبعد أن اجتمع برؤساء الزوايا وشيوخ القبائل شرع أحمد الشريف في جولات تفتيشية ابتدأت من العزيات وانتهت بجدابية، فمر بجميع معسكرات الجبل الأخضر، وفتَّشها واطلع على سير الأمور فيها، ورتب أمور الضباط، ونظم المجالس الاستشارية بالمعسكرات، ووقعت معارك بين الطليان والمجاهدين أثناء مروره بدواخل البلاد، فاشترك في الكثير منها، وقد لقي في هذه الجولة من الأتعاب والمشاق والسهر، وقد أمضَّه الجوع، وأضناه العطش في كثير من الأيام، وكان لا يبالي بما يلاقيه ولا ينظر إلى التعب إلا بعين الازدراء ما دام ينظر إلى ما عند الله من الثواب والجزاء، وقد وصفه الكثير من رفاقه بأنه في تلك الحالة كان باسم الثغر، مبتهج الخاطر، مرتاح الضمير، ساطع المحيا، صبيح المنظر، لا يركن للراحة، ولا يفكر في رغد العيش.
يقول شكيب أرسلان عن أحمد الشريف: «... اشتهر أثناء الحرب الطرابلسية، وقام فيها المقام المحمود الذي لم يقمه أحد، ولولاه لم يكن أنور، ولا غيره من أبطال الدفاع عن بر طرابلس أن يعملوا شيئاً...».
«... وقد لحظت منه صبراً قلَّ أن يوجد في غيره من الرجال، وعزماً شديداً تلوح سيماؤه على وجهه، وقد بلغني أنه كان في حرب طرابلس يشهد كثيراً من الوقائع بنفسه، ولا يقتدي بالأمراء، وقواد الجيوش الذين يتأخَّرون عن ميدان الحرب مسافة كافية، أن لا تصل إليهم يد العدو فيما لو وقعت هزيمة، وفي إحدى المرات أوشك أن يقع في أيدي الطليان، وشاع أنهم أخذوه أسيراً، وقد سألته عن تلك الواقعة فحكى لي خبرها بتفاصيله، وهو أنه كان ببرقة، فبلغ الطليان بواسطة الجواسيس أن السيد في قلة من المجاهدين، وغير بعيد عن جيوش الطليان، فسرحوا إليه قوة عدة الاف ومعها سيارة كهربائية، إذ كان اعتقادهم أنه لا يفلت من أيديهم تلك المرة، فبلغه خبر زحفهم، وكان يمكنه أن يحيد عن اللقاء، أو أن يتحرف بنفسه إلى جهة يكون فيها بمنجاة من الخطر، أو يترك الحرب للمجاهدين؛ فلم يفعل، وقال لي: «خفت أنني إن طلبت النجاة بنفسي، أصاب المجاهدين الوهن، فدارت عليهم الدائرة، فثبتُّ للطليان وهم بضعة الاف بثلاثمئة مقاتل، واستمات العرب، وصدموا العدو، فلما رأى هؤلاء وفرة من وقع من القتلى والجرحى، ارتدوا على أعقابهم، وخلصنا نحن إلى جهة وافتنا فيها جموع المجاهدين»، وقال لي: «وفي هذه الوقعة جرح الضابط نجيب الحوراني، الذي كان من أشجع أبطال الحرب الطرابلسية، كان قائداً شجاعاً، ولكنه كان يغامر بنفسه في كل وقعة، فجرح مرتين، واستشهد في الثالثة رحمه الله».
لقد كان في جولاته يشارك الناس في شرابهم وأكلهم، ويصلي معهم، ويجاهد بنفسه بينهم، فقد كان قمة في الصبر والحلم والتواضع والبساطة، والشجاعة والإقدام، ولا يعرف الخوف إلا من الله وحده سبحانه وتعالى، فقد قوى الله به عزم المجاهدين، وشحذ به هممهم، ووحَّد به صفهم وكلمتهم في برقة كلها، ومن الأشعار التي قيلت بمناسبة نزوله إلى ساحات النزال ما قاله حمزة الفقي الجهيني من قصيدة طويلة:
يا ليث «جغبوب» أتيت برقة والأم ثكلى والدموع هوامي
والأُسْدُ في كَنَف الهلال يظلها يا بن البواسل والجروح دوامي
قد عودت أن لا تضام فخاطرت والعرب لا ترضى سوى الإقدام
والخيل تصهل والوجوه عوابس والطير غرثى والسيوف ضوامي
قل للصوص تشتتوا فأنا الذي أحمي الذمار بهمتي وحسامي
– وقد قال أيضاً في قصيدة أخرى:
ولي نفس إذا ما رمت أمراً تحمَّل جسمها يا قوم مالا
فقالوا: ما وهبت؟ فقلت: روحي وقالوا: ما بذلت؟ فقلت: مالا
ولي قلبه «ببرقة» مشتهاه يميل مع «السنوسي» حيث مالا
وليُّ اللهِ مقدامٌ تقيٌّ إذا ما جئته شمت الجلالا
– وقد وصف الشاعر الليبي الأستاذ حسين بن محمد الحلافي أعمال أحمد الشريف في الجهاد في قصيدة عصماء، قال فيها:
فتاريخ السنوسي الدهر باقٍ على رغم الخطوب المبليات
غداة احتل جيش الظلم «ليبية» بنسَّافاته ومدمرات
فصير بحرها الأسطول ناراً وأحرق برها بمفرقعات
وزلزل أرضها بِدَوِيِّ تَنَكٍ وأزعج جوها بالطائرات
فعاف العيش في ترف وعز بعيد عن ضروب المهلكات
ببيت أبدع الصناع فيه تحوط به الحدائق باسقات
ينعم فيه بين أخ وابن وبين أفاضل كالنيرات
وغادر «تاجه» وسعى إليها ونادى معلناً بين الكُماة
أجيبوا داعي الله استعدوا بني قومي إلى حرب الطغاة
دعا فأجابه جَمٌّ غفير وهل حرب تكون بلا دعاة
فَظَلَّ حياته يسعى ويدعو لتوحيد الشعوب على العداة
فكم ليل تطاول لم ينمه ولم يعمل به غير الصلاة
وكم يوم طواه بغير زاد قضاه على ظهور الصافنات
بمعمعة يشيب الطفل منها يضيق لهولها صدر الفلاة
فلم تنظر إذا حققت إلا «مدافع» كالصواعق داويات
قنابلها تدك الأرض دكَّاً وتقتلع الجبال الشاهقات
فاخض الأرض أموات وجرحى ووارى الشمس صنع العاديات
وكم يوم «ببرقة» مثل هذا تسطره تواريخ الثقات
– لقد طاف أحمد الشريف بين المدن والقبائل يحضُّ الناس على الجهاد وحمل السلاح ضد الغزاة، وحضر بنفسه في المعارك، ونبه المجاهدين إلى ضرورة اعتماد حرب العصابات القائمة على الكرِّ والفر، وأكد لهم صعوبة اعتماد الخطط السابقة التي كان الأتراك يعتمدونها خلال المراحل الأولى.
ثالثا: مجلس شورى أحمد الشريف
انتخب أحمد الشريف رحمه الله تعالى بعض أعيان الحركة السنوسية ممن اشتهروا بنفاذ الرأي، وجودة العقل، وحسن الخلق، وقوة التدين، والمكانة العالية بين الناس، لرفقته، وليكونوا معه في رحلاته لاستشارتهم في الأمور الهامة ، وكان منهم كل من الشيوخ الاتية أسماؤهم: محمد علي بن عبد المولى، ومحمد الدرقي، ومحمد بن عمور، وأحمد بن إدريس الأشهب، ومرتضى فركاش.
مساعي إيطالية لإغراء أحمد الشريف:
أراد عزيز المصري أن يضعف الصف الجهادي ضد إيطالية، فسولت له نفسه أن يذهب إلى أحمد الشريف ويصور له استحالة المقاومة وضررها، ونفاد الميرة والذخيرة والأموال، واقترح عليه الصلح مع إيطالية، وسوف تدفع له لندن، وروما، وباريس مبلغاً يليق بمقامه، وشرفه، وكرامته، وأن تكف فرنسة عن محاربته في الصحراء والسودان، وكان عزيز المصري طلب من أحمد الشريف أن يتنازل عن قطعة الأرض الواقعة بين «بومبا» والجغبوب وبين الحدود المصرية، وترك برقة للطليان، فقال له أحمد الشريف: اسمع يا ولدي! إني كنت أقبل عن طيب خاطر التنازل عن القطعة المذكورة وضمها إلى مصر لو كانت حكومة إسلامية حرة، أتركها وأنتقل أنا ورجالي إلى الغرب لمحاربة الطليان على بقية برقة حتى أزيل ظلهم الثقيل عنها دفاعاً عن بقية الإسلام، أما ومصر في قبضة إنكلترة فلا معنى لهذا العمل، وإني سأقاوم حتى النهاية.
ولقد اطلع المؤرخ محمد الطيب الأشهب على وثيقة تاريخية موقعة من أحمد الشريف بعث بها إلى أنور باشا الذي أصبح وزير الحربية التركية بتاريخ (29 صفر 1335 هـ) عند إبراهيم بن أحمد الشريف، وكان فيها: «أتى الطليان للوطن، وراسلني وأرسل إليَّ الأموال الهائلة، فرجعتها كلها تعففاً وطلباً لرضاء الله ورسوله، وقمت بمعاضدة الدولة العليا ولله الحمد، وأمرت كافة أهل الوطن، وقمت بجهدي ثم بعد ذلك قدِمْتُ بنفسي للجهاد».
حاولت إيطالية أن تضغط على أحمد الشريف بواسطة الخديوي عباس باشا بعد أن فشلت جميع وفودها التي كانت تتوافد على المجاهد أحمد الشريف، وتعرض عليه أن تضمن له إمارة هو أميرها، تحت حمايتها أو انتدابها، وتكون له منطقة نفوذ تحت سلطانه، وتحتفظ هي بالموانأى والثغور الساحلية، فضرب بقولها عرض الحائط، وقال: «إنني أقسم أمام جميع المجاهدين على هذا المصحف والبخاري إني لن أنفك أذود عن حياض الإسلام ومجاهدة أعدائه إلى النَّفَس الأخير ما دام معي نفر واحد من المجاهدين، وإذا خانني الجميع وسلموا للعدو أهاجر إلى المدينة لأعيش بجوار جدي الأعلى شاكياً إلى الله من خيانة الخونة، مستنزلاً لعنته عليهم إلى يوم الدين».
وقال: «إنني لا أتفاوض مع إيطالية في بلادي، ولا أتفق معها على تنازلي عن شبر واحد من البلاد، ولا أحيد عن أحد أمرين: إما تحرير الوطن، وإما الموت في سبيل ذلك».
وقال: «إنني أعاهد الله على أن لا أتساهل مع إيطالية في حق من حقوق أهل البلاد، ولا أتنازل عن مقدار حافر حصاني»
وكان جوابه للوفد الذي أرسله الخديوي عباس وكان يتكون من أنجال محمد عبد المتعال الإدريسي، كل من السنوسي ومصطفى، وعبد الحميد بك شديد، بأن شروطه للاتفاق مع إيطالية هي: أن تجلو عن البلاد وليس هناك من سبيل غير هذا السبيل للتفاهم
رابعا: خيانة عزيز المصري للمجاهدين
عزيز المصري رجل عصبي المزاج، حاد الطبع، كثير المطامع، حقود، جاء إلى برقة من اليمن، وكان أول عمله في درنة أن خطب العرب، فقال: «أيها الناس إن كنتم مسلمين حقيقة ولديكم ذرة من الشهامة والشرف، فحاربوا العدو إلى اخر قطرة من دمائكم»، فتكدر العرب منه وقالوا: «ما له يشك في ديننا وشهامتنا؟! ألم يرنا نهزأ بالموت ونذود عن بيضة الإسلام من قبله؟! وها نحن نبلي في الطليان خير بلاء رغم نيران مدافعهم المتهاطلة كوابل المطر».
وأراد أنور باشا أن يترك درنة ويذهب إلى بنغازي، فرفض الشيوخ والزعماء ذلك، وطلبوا منه أن يبقى ويرسل عزيز المصري أين شاء، وأبوا الخضوع لعزيز المصري، فأرسل أنور عزيزاً إلى بنغازي، وبدأ عزيز منذ وصوله إلى بنغازي بالهجوم على أنور خصوصاً، والأتراك عموماً، وكان المجاهدون بادأى الأمر لا يحصون عليه خطواته، ولا يتعقبونه في حركاته لظنهم به خيراً، وعندما وصلت أخبار مطاعنه إلى أنور قال: إننا في مصلحة عامة تذيب الأضغان الشخصية فليستمر في دفاعه عن البلاد، ولو أصبح رئيسها لكنت عن طيب خاطر من أتباعه ما دام ذلك في مصلحة الإسلام وأهله.
بعد سفر أنور باشا تولى القيادة العامة عزيز المصري، واستطاع العميل الإيطالي حسن حمادة أن يقنع عزيزاً المصري بالتفاوض والتعامل مع إيطالية سرَّاً مقابل حطام من الدنيا زائل، وعمل عزيز المصري على خدمة المصالح الإيطالية، وقبل جميع شروطهم، وانكشف أمره للمجاهدين، فأحرق الأوراق الخاصة بالمجاهدين والأدوات الطبية وجعلها طعمة للنار، ومنع تسليم الأسلحة للمجاهدين، وقرر ترك ليبية وقطع الأسلاك البرقية، والتلفون، حتى لا يجد المجاهدون وسيلة للمخابرة، وجرَّدهم من وسائل الدفاع، وأخذ سلاح المجاهدين وجعله في أماكن مطمورة، وأوعز إلى الإيطاليين إلى محلها، فدمروها بقنابلهم، وغادر درنة، ولما وصل طبرق اشتبك مع المجاهدين، وقتل منهم خمسة، وجرح أكثر من ثمانية عشر، وأخذ أسلاب الموتى وحرق ستة من الأسرى المجاهدين، وذبح اثنين منهم كالأغنام، وفي طريقه إلى السلوم التقى بألماظ أفندي يحمل مساعدات للمجاهدين، وكان المبلغ الذي معه تسعة الاف جنيه، فأخذها منه، وباح بجميع الأسرار الحربية لأعداء الإسلام.
وكان عزيز المصري قد واعد أحمد الشريف بتسليم السلاح والذخائر للمجاهدين قبل رحيله، إلا أنه رفض وتذرع بأنه لا يركن إلى القبائل البدوية، ويخشى أن تهاجمه وقواته عزلاء عن سلاحها، لقد أثبتت الوثائق البريطانية التي نشرت مؤخراً صلات عزيز المصري بالمخابرات الإنكليزية والإيطالية، ولقد قام بحرق الأسلحة
التي معه عندما صعد ظهر الباخرة الألمانية التي كانت في انتظاره هناك، ولم يكتف بذلك، فقد أشاع لدى وصوله إستانبول بأن السيد أحمد الشريف قد خان وتنكر للسلطان العثماني ومساعداته، مما جعل أحمد الشريف يوفد سفيره عبد العزيز العيساوي إلى إستانبول ليوضح الحقيقة للمسؤولين العثمانيين الذين يعرفون صدق أحمد الشريف.
خامسا: استمرار العمليات الجهادية
ورغم كل الظروف الصعبة التي مرت بها البلاد عام (1913 م)، إلا أنها شهدت عدداً من المعارك ضد الإيطاليين في معظم جهات برقة، ومن أشهر تلك المعارك: معركة شتوان ببنغازي (10 مارس)، معركة قاريونس يوم (26 مارس)، معركة بنينة يوم (14 أبريل)، معركة الرجمة يوم (22 أبريل)، معركة الأبيار يوم (26 أبريل)، معركة البويرات يوم (18 يوليو) بالجبل الأخضر، معركة زاوية ترث يوم (24 مايو) غرب القبة بالجبل الأخضر، معركة الصفصاف أول يونيه قرب سيدي حميدة، معركة (15 يوليه) شمال الأبيار، معركة تاكنسي يوم (16 سبتمبر) بالجبل الأخضر، معركة سيدي رافع يوم (27 سبتمبر) بالبيضاء، معركة المرج يوم (19 أغسطس).
ومع بداية عام (1914 م) أحاطت بالمجاهدين صعوبات شديدة؛ منها: انقطاع الموارد عنهم من أسلحة وذخائر ومؤن، واستدعاء تركية لبقية قواتها العاملة في برقة بكامل معداتها، وبقيت البلاد خالية من وسائل الدفاع ومعرضة للهجوم، واستجاب الخديوي عباس لضغوط وترغيب إيطالية، وحاول شكيب أرسلان أن يقنع الخديوي عباس بدعم المجاهدين، وكان الخديوي قد غير موقفه من المجاهدين وخصوصاً بعد الصلح الذي تم بين تركية وإيطالية، يقول شكيب أرسلان في رسالة بعثها إلى فضيلة الشيخ محمد الأخضر العيساوي من جنيف في (18 سبتمبر 1916 م) يشرح فيها ما وقع له عندما قابل الخديوي في أثناء سفره من طرابلس ومروره بمصر في طريقه إلى الآستانة للبحث في مصير طرابلس الغرب مع الوزارة العثمانية الجديدة: «وعندما جئت من طرابلس إلى مصر في شهر أغسطس (1912 م) وذهبت من مصر إلى الآستانة مسرعاً؛ كان السبب في ذلك أني علمت بأن الدولة قررت الصلح مع إيطالية، فخفت أن تهمل طرابلس تماماً، فأحببت أن أجعل الدولة تساعد الطرابلسيين بطرق خفية عن يد الأمير عمر طوسون وغيره حتى يستمر الجهاد، ولا تذهب طرابلس، ولما وصلت إلى السلوم قال رجال الحكومة المصرية هناك: إن سمو الخديوي أرسل يسأل عني...».
ويتحدث الأمير شكيب كيف كانت مقابلة الخديوي له، وكيف سأله عن كل شيء ما عدا الجهاد في ليبية، وينقل لنا الحوار الذي تم على مائدة الإفطار، وكان بجانب الخديوي حسين باشا رشدي، ثم قاضي مصر وكان تركيّاً والشيخ علي يوسف، فقال الشيخ علي يوسف: إن الدول قررت عدم إقراض مال لتركية إذا كانت لا تزال ترفض الصلح مع إيطالية، فقال شكيب أرسلان: إن تركية مضطرة أن تتابع الحرب حفظاً لشرفها، فقال الشيخ علي: ومن أين تأتي بالمال؟ فقال شكيب: كل ما تنفقه تركية على حرب طرابلس هو (70) ألف جنيه كل شهر، والحال أن إيطالية تنفق في الشهر مليون جنيه، فقال الشيخ علي: إلا أن السبعين ألف جنيه بالنسبة إلى تركية، كالمليون جنيه بالنسبة إلى إيطالية، فالدولة لا تقدر على متابعة الحرب، فقلت له: إذا عجزت الدولة؛ فالعالم الإسلامي يقدر على مساعدة طرابلس، فقال: أما نحن أهالي مصر فلا نقدر إذا صالحت الدولة على طرابلس أن نستمر في مساعدة الطرابلسيين؛ إذ يكونون حينئذٍ رعية ثائرة على إيطالية، قال شكيب: هذا كله يقوله الشيخ علي يوسف لا الخديوي، بل الخديوي كان ساكتاً، وقد علت وجهه الحمرة، .. فلما سمعت جدال الشيخ علي هذا غضبت، وقلت له بحدة: لا تساعدون أهل طرابلس فالله يغنيهم عنكم، فانقطع الكلام على أثر هذه الحدة ووجم الخديوي، وصار قاضي مصر يبتسم، وقمنا عن السفرة إلى الصلاة، فأخذني الخديوي بيدي؛ لأنه شعر بكوني تأثرت جداً، وما زال، حتى وصلنا إلى السجادة الخاصة به فتنحَّى قليلاً إلى اليمين حتى إن السجادة تسعه وتسعني، وكل هذا يقصد به تلطيف خاطري، وأنا لا أعي من التأثر، فلما بدأ الإمام بالصلاة ولم يكن الإمام حاضراً مجلسنا ولا سمع شيئاً مما دار بيني وبين الشيخ علي، ألهمه الله أن يقرأ بعد الفاتحة قوله تعالى: [يونس: {وَلاَ يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا} [يُونس: 65]
وبالرغم من كل الظروف وبقاء المجاهدين وحدهم في القتال، وأمام تعدد احتياجاتهم ونواقصهم الحربية، وضغط الإيطاليين عليهم بالتركيز في شن حملات قوية وكبيرة، إلا أن المجاهدين استمروا بنفس الروح الجهادية الأولى، وكان المجاهدون التزموا الدفاع والتربص بالعدو، حتى إذا خرج الطليان من مراكزهم انقضوا عليهم، فأوقعوا بهم شر مقتلة، وغنموا منهم أسلاباً كثيرة أمدتهم في الحقيقة بأكثر الأسلحة والعتاد ودواب التنقل؛ مما كانوا في حاجة ملحة إليه جميعه، وظل الحال على هذا المنوال.
سادسا: تمركز قوات أحمد الشريف قرب السلوم
بعد أن سحبت تركية قواتها، وتركت البلاد تخوض جهاداً شعبيّاً، معتمدة على طاقاتها الكامنة، ومقوماتها الذاتية، عقد أحمد الشريف السنوسي اجتماعاً عامَّاً لشيوخ الزوايا، ورؤساء الجند، وزعماء القبائل، تدارسوا خلاله الأوضاع العامة في برقة، واحتمالات الحرب، ومدى استعدادهم لمحاربة القوات الإيطالية الصليبية، واستقر رأيهم على الانتقال بكافة القوات الجهادية التي كان يبلغ عددها قرابة السبعة الاف مقاتل، إلى منطقة إمساعد القرية الحدودية والمتاخمة للحدود الشرقية مع مصر؛ لأن مصر تشكل عمقاً استراتيجيّاً لقوات المجاهدين، وكانت تأتيها المساعدات من قبل المسلمين بالتهريب عبر الحدود، وكانت بريطانية مضطرة لغضِّ البصر على المساعدات التي كانت تصل المجاهدين خوفاً من إثارة الرأي العام الإسلامي ضدها، وخاصة مستعمراتها، إذا ما ظهرت متامرة على جهاد الليبيين، ومع اقتراب الحرب العالمية الأولى ذهبت بريطانية للتقرب من أحمد الشريف وحاولت أن تمد جسورها معه، كي تستعمله ورقة ضغط على إيطالية، لاسيما وأن ملامح الحرب العالمية الأولى كانت قد بدأت تلوح في الافاق، وكان أحمد الشريف يقظاً لما يجري حوله، فأقام معسكرات التدريب، ورسم خطة للدفاع، وحماية الشعب، والاستعداد للجهاد، وشرع أحمد الشريف في تشكيل جيش نظامي مدرَّب، ليخوض به غمار حرب طويلة المدى ضد العدو الصليبي الإيطالي، ومع اندلاع الحرب العالمية الأولى بدأت الدول تتسارع وتتسابق لكسب ود أحمد الشريف وقواته المجاهدة، كانت القوى المهتمة بكسب أحمد الشريف إلى جانبها هي تركية وألمانية بالدرجة الأولى، وبريطانية ومصر بعد ذلك.
مراجع:
1.علي محمد الصلابي، مِنْ أَعْلَامِ التَّصَوُّفِ السُّنِّيِّ: 7سيرة الزعيم أحمد الشريف السنوسي، دار الروضة، اسطنبول،1438ه،2017م ص(94:107).
2. محمد فؤاد شكري، السنوسية دين ودولة، دار الفكر، 1948، ص (153).
3.أحمد الطيب الاشهب، برقة العربية بين الأمس واليوم، دار الهواري: القاهرة،1364ه،1945م، ص (273).
4. مصطفى علي هويدي، الحركة الوطنية في شرق ليبيا خلال الحرب العالمية الأولى، مركز دراسة جهاد الليبيين ضد الغزو الإيطالي، 1988، ص (47).
5.محمود عامر تاريخ ليبيا المعاصر، جامعة دمشق،1992، ص (91).