ذكرى فتح بيت المقدس
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
تتزامن هذه الأيام (المباركة) مع ذكرى الإسراء والمعراج وفتح القائد الإسلامي الكبير السلطان الأيوبي صلاح الدين الأيوبي (27 رجب 583ه/ 2 أكتوبر 1187م) لبيت المقدس، واستعادته من أيدي الصليبيين.
وهذا رابط كتاب "صلاح الدين الأيوبي وجهوده في القضاء على الدولة الفاطمية وتحرير بيت المقدس" على الموقع الرسمي للدكتور علي محمد الصلابي:
- فكرة عامة عن محاور وأفكار الكتاب:
يتناول الكتاب صراع المشاريع، بين المشروع الصليبي، والفاطمي الشيعي، والمشروع الإسلامي السني. فقد لخَّص الفصل الأول الحملات الصليبية التي سبقت قيام الدولة الأيوبية، فتكلم عن الجذور التاريخية للحروب الصليبية. كالصراع البيزنطي الإسلامي في صدر الدولة الإسلامية، والإسباني الإسلامي بالأندلس، وطبيعة الحركة الصليبية التي قادها أوربان الثاني، وحركة الالتفاف على العالم الإسلامي التي تصدى لها العثمانيون، وحركة الاستعمار الحديث.
وأشرت إلى أهم أسباب ودوافع الغزو الصليبي، كالدافع الديني، والسياسي، والاجتماعي، والاقتصادي، وتبدل ميزان القوى في حوض البحر المتوسط في صقلية، والأندلس، وإفريقية، واستنجاد إمبراطور بيزنطة بالباب، وشخصية أوربان الثاني، ومشروعه الشامل للغزو الصليبي ، وحملته الدعائية ، وعقليته التنظيمية.
وشرحت بدء الحرب الصليبية الأولى، واستراتيجيتهم بعد الاحتلال ، وظهور حركة المقاومة في العهد السلجوقي، والمشاركة الفعلية للفقهاء ، والقضاة في ساحات الجهاد ، وتحريضهم على القتال في ساحات المعارك ، ودور الشعراء في حركة المقاومة ، وترجمت لقادة الجهاد من السلاجقة الذين سبقوا عماد الدين زنكي ، وجهودهم في التصدي للغزاة كقوام الدولة كربوقا صاحب الموصل ، وجكرمش أمير الموصل ، وسقمان بن أتق حاكم ماردين، وديار بكر ، وقلج أرسلان أمير سلاجقة الروم ، وشرف الدولة مودود بن التونتكين حاكم الموصل؛ والذي تعتبر حملاته الجهادية مقدمة لحملات عماد الدين زنكي.
وأشرت لمعوقات حركة الجهاد في عهد أمراء السلاجقة، والتي كان من أهمها الباطنية؛ التي أثبتت عداءها الكامل لقادة الجهاد الإسلامي في ذلك العصر، وكأنَّ خناجرهم المسمومة كانت تشق للصليبيين طريقاً نحو تثبيت أقدامهم في بلاد الشام، والجزيرة على حساب المسلمين.
وهكذا أثبتت وقائع التاريخ كيف التقى قادة الجهاد الإسلامي في ذلك العصر في بعض الأحيان في الشهادة ـ فمن قبل اغتيل شرف الدين مودود، والان نجد اق سنقر البرسقي يلقى نفس المصير، وقد عكس ذلك كله: أن مسلك الإسماعيلية الترارية في ذلك الحين كان من أخطر معوقات حركة الجهاد ضد الغزاة نظراً لوجود عدوين في وقت واحد أمام القيادات المسلمة السنية على نحو عكس المشاق البالغة التي واجهت أولئك القادة في الدفاع عن عقيدة الأمة، ودينها.
وأبرزت جهود عماد الدين؛ التي استطاع من خلالها أن يحقق قسطاً كبيراً من برنامجه ، وأن يكوِّن لنفسه مكانة خاصة في التاريخ الإسلامي كسياسي بارع ، وعسكري متمكن ، ومسلم واعٍ؛ أدرك الخطر الذي أحاط بالعالم الإسلامي من قبل الصليبين ، فقد استطاع أو يوجه الظروف التاريخية لصالح المسلمين ، وذلك بتجميعه القوى الإسلامية بعد القضاء على عوامل التجزئة ، والانقسام ، وتوحيد المدن ، والإمارات المنفصلة في نطاق دولة واحدة، واستطاع بمقدرته أن يستغلَّ أقصى ما يمكن أن تقدمه من إمكانات في سبيل تحقيق برنامجه المزدوج من تشكيل الجبهة الإسلامية ، وضرب الصليبيين.
ويعتبر فتح الرَّها عام 539هـ من أهم إنجازات عماد الدين ، وكان لسقوطها في أيدي المسلمين ردة فعل عنيفة في الغرب الأوروبي ، وباعثاً على السرعة في إرسال حملة صليبية جديدة بعد أن أثار سقوطها الرعب في النفوس، فقد جاء سقوطها إيذاناً بتزعزع البناء في الشرق الأدنى.
وقد تصدى نور الدين، وسيف الدين غازي ـ أبناء عماد الدين ـ للحملة الصليبية الثانية على دمشق، وحققوا انتصاراً مع أهالي دمشق كبيراً على الحملة الصليبية الثانية.
ولقد نجح نور الدين في استغلال الظروف التي أعقبت فشل الحملة الصليبية الثانية في توحيد الشام تحت قيادته هذه المرة على حساب حاكم دمشق ، ثم استأنف جهاد الصليبين بنجاح؛ مما شجع القوى الإسلامية الأخرى مثل سلاجقة الروم ، والاراتقة ، والتركمان على التقدم لمواجهة الصليبيين خاصة في الرَّها ، وأنطاكية ، بل وتحالفوا أيضاً في جهودهم؛ حتى استطاع نور الدين زنكي أن يوحد بلاد الشام كلَّها تحت قياداته من الرَّها شمالاً حتى حوران جنوباً ، فقامت دولة إسلامية موحدة مركزها دمشق ، وكانت هذه هي الخطوة الأولى نحو تكوين الجبهة التي امتدت من الفرات إلى النيل ، والتي تصدت بحق لهذا الخطر الصليبي.
وقد تحدثت عن فقه نور الدين في التعامل مع الدولة الفاطمية ، وعن جذور الشيعة الإسماعيلية ، والدولة الفاطمية، وعن جرائمهم البشعة في الشمال الإفريقي ، كغلو بعض دعاتهم في عبيد الله المهدي ، والتسلط ، والجور ، وتحريم الإفتاء على مذهب الإمام مالك ، وإبطال بعض السنن المتواترة ، والمشهورة ، ومنع التجمعات ، وإتلاف مصنفات أهل السنة ، ومنع علماء أهل السنة من التدريس ، وعطلوا الشرائع ، وأسقطوا الفرائض ، وإجبار الناس على الفطر قبل رؤية الهلال ، وإزالة اثار خلفاء السنة ، ودخول خيولهم المساجد.
وتكلمت عن أساليب المغاربة في مواجهة الدولة الفاطمية، كالمقامة السلبية، والجدلية، والمقاومة عبر التأليف، ودور شعراء أهل السنة، وبينت كيف زالت الدولة الفاطمية من شمال إفريقيا، وكيف انتقلت إلى مصر، وذكرت جهود المدارس النظامية في حركة الإحياء السني، والتصدِّي للفكر الشيعي، وجهود الإمام الغزالي في دحر الشيعة، والحملات النورية العسكرية على مصر، كالحملة الأولى، والحملة النورية الثانية، والحملة النورية الثالثة على مصر.
وتحدثت عن إلغاء الخلافة الفاطمية ، والتدرج في إلغاء الخطبة للخليفة الفاطمي ، والاعتبار ، والاتعاظ من زوال الفاطميين من مصر ، والوسائل التي اتخذها صلا الدين للقضاء على المذهب ، والتراث الفاطمي ، كإذلال الخليفة الفاطمي العاضد ، ووضعه من مكانة قصر الخلافة الفاطمي ، وقطع الخطبة الجامعة من الجامع الأزهر ، وإبطال تدريس الفكر الفاطمي ، وإتلاف ، وحرق الكتب الشيعية ، وإلغاء جميع الأعياد المذهبية الفاطمية ، ومحو رسوم الفاطمية ، وعملاتهم ، والحفاظ على أفراد البيت الفاطمي ، وإضعاف العاصمة الفاطمية ، وإحياء الأيوبيين لقضية انتحال النسب الفاطمي إلى البيت النبوي ، والاستمرار في ملاحقة بقايا التشيع في الشام ، واليمن.
وذكرت فتوحات صلاح الدين في عهد نور الدين زنكي، وجهاد الصليبيين، وإخراجهم من بلاد المسلمين، وحقيقة الوحشة بين صلاح الدين، ونور الدين.
وفي الفصل الثاني كان حديثي عن قيام الدولة الأيوبية ، فذكرت أصول أسرته ، ونشأته ، وولادته ، ومتى بدأت الدولة الأيوبية ، والرصيد الخلقي لصلاح الدين ، كتقواه ، وعبادته ، وعدله ، وشجاعته ، وكرمه ، واهتمامه ، وحلمه ، ومحافظته على أسباب المروءة ، وصبره ، واحتسابه ، ووفائه ، وعقيدة الدولة ، وتوسع الأيوبيين في إنشاء المدارس السنية ، كالمدرسة الصلاحية ، ومدرسة المشهد الحسيني ، والمدرسة الفاضلية ، ودار الحديث الكمالية ، والمدرسشة الصالحية ، وجهودهم العلمية في الشام ، والجزيرة ، وعناصر الثقافة السنية في العهد الأيوبي ، كالقرآن الكريم ، والحديث الشريف ، وأصول العقيدة السنية ، والدراسات الفقهية ، واهتمام الأيوبيين بحماية طريق الحج ، والحرمين الشريفين ، ومحاربة الأيوبيين للتشيع في مصر ، والشام ، واليمن.
وتكلمت عن مكانة العلماء ، والفقهاء عند صلاح الدين ، كالقاضي الفاضل ، الذي كانت له مساهمات في ديوان الإنشاء ، وتطوير جيش صلاح الدين ، والقضاء على المعارضة الفاطمية ، وإعادة التنظيم الإداري في مصر، وجهوده في الإحياء السني في مصر ، وجهاده ضد الصليبين ، وعن توظيفه الأدب في خدمة الإسلام ، وحرصه على وحدة العالم الإسلامي ، فقد كان القاضي الفاضل المتحدث الرسمي بلسان السلطان صلاح الدين في الداخل، والخارج ، وكان على قول ابن كثير أعز عليه من أهله ، وولده ، وكان السلطان يشيد بفضله ، فيقول: لا تظنوا أني ملكت البلاد بسيوفكم؛ بل بقلم القاضي الفاضل.
وقد بلغ القاضي مكانة سامية في الدولة، فكان الساعد الأيمن لصلاح الدين، إذ جعله وزيره، ومشيره؛ بحيث كان لا يصدر أمراً إلا عن مشورته، ولا ينفذ شيئاً إلا عن رأيه، ولا يحكم في قضية إلا بتدبيره.
وهذا العالم من فقهاء النهوض، والأمة في أشد الحاجة لمثل سيرته، فتعلمنا سيرته أهمية عدم الانعزال في الشأن العام، والعمل الاجتماعي، والحكومي، والحرص على كسب الخبرات، وأهمية التميز في أداء العمل والتمسك بمنهج أهل السنة، والتعاون مع إخوانه في العقيدة الصحيحة، وتوظيف القدرات، والإمكانات لخدمة المشروع السني، فقد قدَّم لصلاح الدين النماذج السنية القيادية، والخطط العملية ، ولم يبخل على صلاح الدين برأي ، ولا مشورة ولا تجربة.
كما أنَّ حياة هذا الرجل مدرسة في فهم مقاصد الشريعة، وفقه المصالح، والمفاسد، وبناء الدول، وزوالها، وترك لنا منهجاً في التعامل مع الشيعة وأهمية معاملة عامتهم بقوانين العدل، ومحبة الخير لهم ، وعدم سفك دمائهم ، والحرص على تعليمهم ، وإنما يكون استخدام القوة ضد المؤامرات ، والتكتلات العسكرية ، ومع من لا يجدي معهم إلا استخدام القوة ، كالدولة الفاطمية في مصر ، فقد ساهم في وضع الخطط ، والأساليب ، والوسائل للقضاء عليهم سياسياً ، وعسكرياً ، وفكرياً.
وبينت جهود أبي الطاهر السِّلفي ، وأبي الطاهر بن عوف المالكي في خدمة الإسلام في الإسكندرية ، وحرص صلاح الدين على زيارتهم ، والأخذ من علومهم ، وتحدثت عن الفقيه عيسى الهكاري ، وإسناده لصلاح الدين في وزارته ، وإصلاحه بين نور الدين ، وصلاح الدين ، ومساهمته في الصلح مع أهل الموصل ، ونجاحه في تنفيذ المهمات الخاصة الموكلة إليه ، وشجاعته في الحروب ، وقيادته الميدانية في المعارك ، وترجمت للعماد الأصفهاني ، القاضي ، الإمام ، العلاّمة ، المفتي ، الوزير ، وبينت جهوده في خدمة المشروع الإسلامي السني.
وخلاصة القول: إنَّ العلماء ، والفقهاء كانوا يحتلون مكانةً عظيمة ، وحظوةً كبيرة عند صلاح الدين ، ونالوا منه كل عطف ، ورعاية ، واحترام ، وتقدير من الناحيتين: المادية ، والمعنوية.
وبينت الإصلاح الاقتصادي ، واهتمامه بالزراعة ، والتجارة ، والصناعات ، وإلغاء المكوس ، والاكتفاء بالموارد الشرعية ، وبناؤه للمستشفيات ، والخوانق «بيوت الصوفية» والخانات في الأماكن المنقطعة البعيدة عن العمران ، وفي الطرق الموصلة بين المدن ، وذلك لخدمة أبناء السبيل ، والمسافرين ، واهتمامه بالإصلاح الاجتماعي ، ومحاربته للعوائد والتقاليد المنحرفة، والأخلاق الرديئة، وأشرت للإصلاحات العمرانية، والإدارية، ورجال الإدارة في عهده.
وشرحت النظم العسكرية في عهده ، كتطور الإقطاع الحربي ، وديوان الجيش ، وزي الأجناد ، والتموين ، والتعبئة العسكرية ، والفرق الملحقة بالجيش ، كالهندسة ، والطبية ، وتنظيم البريد ، والاستخبارات ، وإدارة شؤون القتال ، والسلم ، والأسرى ، ومجلس الحرب ، وخطط ، وأساليب القتال ، كأسلوب الحرب الخاطفة ، وخطة القتال بالتناوب ، وتخريب المدن ، وتأمين الطريق ، وتحصين الثغور ، والقلاع ، والحصون ، والاستفادة من مواسم القتال ، ومعاملة الأسرى ، والمعاهدات بين صلاح الدين والصليبيين ، وأسلحة الجيش الأيوبي ، والبحرية الإسلامية ، ودور المغاربة في الأسطول الصلاحي.
وبينت جهوده في توحيد الجبهة الإسلامية، ومحاولات الشيعة الإسماعيلية للقضاء عليه عن طريق الاغتيالات ـ ولكنّها فشلت بحمد الله وتوفيقه ـ وأسلوب صلاح الدين لتأديبهم، وعلاقته مع الخلافة العباسية، والدولة البيزنطية، والصليبيين قبل حطين، وترتيبه للأمور الإدارية، والعسكرية قبل المعركة الفاصلة.
وفي الفصل الثالث من الكتاب كان الحديث عن معركة حطين ، وفتح بيت المقدس والحملة الصليبية الثالثة ، وشرعت في بيان أحداث معركة حطين ، وبداية الهجوم الإسلامي ، والحرب الصليبية عند صلاح الدين ، وخسائر الصليبيين ، وأسباب الانتصار في معركة حطين من التعامل مع السنن ، كسنة الإعداد ، والأخذ بالأسباب ، وسنة التدرُّج ، وبعد نظر صلاح الدين ، وحنكته السياسية ، وإخلاصه العظيم لله عزَّ وجلَّ ، وتطبيق شرع الله في دولته ، وبركات ذلك ، كالاستخلاف ، والتمكين ، والأمن ، والاستقرار ، والعز ، والشرف ، والنصر ، والفتح ، وأثر العدل في تحقيق الانتصارات ، وإعداد جيل مقاتل ، فيه صفات جيل التمكين ، وحسن الصلة بالله ، واللجوء إليه بعد الإعداد ، ونجاح العمل الاستخباري ، وردود أفعال العالم الإسلامي ، والصليبي من معركة حطين ، وفتوحات الساحل قبل فتح القدس ، ونتائج معركة حطين ، ككونها معركة فاصلة ، وحاسمة ، وأهمية الوعي الجغرافي في فقه الصراع ، وإدارته ، والجهود التراكمية في تحقيق الانتصارات الكبرى للأمم.
وتحدثت عن خطة صلاح الدين العسكرية لتحرير بيت المقدس، كالبعد الإعلامي، وتحشيد الجنود، والتعبئة الشاملة، والحصار، والقتال، والهجوم الحاسم، والمفاوضات، ثم تسليم بيت المقدس، وتحرير القدس، ووفاء صلاح الدين بوعده، ورحمته بالأسرى ، والشيوخ ، والنساء ، وزوجات القتلى ، وبناتهم ، واحترامه مشاعر المسيحيين ، وتنفيذ الوعود ابتغاء مرضاة الله ، وبشعور إنساني فيَّاض ، وبروح فروسية عالية ، واقتداء رشيد بالخليفة الراشد عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ عندما فتح القدس في خلافته ، فقد ظهرت للغربيين روعة الإسلام في ممارسات صلاح الدين في السلم ، والحرب ، واحترام حرية الرأي والمعتقد ، والحفاظ على القيم الإنسانية الرفيعة ، والتعاليم الإسلامية السامية. قال الشاعر:
ملكنا فكان العفو منا سجيةً
وحَلَّلتُمُ قتل الأسارى وطالما
وحسبكم هذا التفاوت بيننا
فلمَّا ملكتم سال بالدَّم أَبْطَحُ
عدونا على الأسرى نَمُنُّ وَنَصْفَحُ
وكلُّ وعاءٍ بالذي فيه يَنْضَحُ
وذكرت إصلاحات صلاح الدين في بيت المقدس ، وإرساله البشائر ، والوفود إلى أنحاء العالم الإسلامي ، واختلاف صلاح الدين مع الخليفة العباسي ، وحضور العلماء في فتوحات القدس ، وغيرها ، ودوَّنت بعض القصائد في مدح صلاح الدين ، وفتح البيت المقدس ، كقول أبي علي الحسن بن علي الجويني في فتح القدس:
جُنْدُ السَّماء لهذا الملك أعوان
متى رأى الناس ما نحكيه في زمن
هذي الفتوحُ فتوحُ الأنبياء وما
أضحت ملوكُ الفرنج الصِّيْد في يده
مَنْ شَكَّ فيهم فهذا الفتحُ برهانُ
وقد مضت قبلُ أزمانٌ وأزمانُ
لها سوى الشُّكرِ بالأفعال أثمانُ
صَيْداً وما ضَعُفوا يوماً وما هانُوا
وقول أسامة بن منقذ في مدح صلاح الدين:
والناصر الملك المتوَّج ناصري
قد كنتُ أرهبُ صرفَ دهري قبله
أنا جاره ويدُ الخطوبِ قصيرةٌ
وعلاه قد خطت كتاب أماني
فأعاد صرف الدَّهر من أعواني
عن أن تنال مجاورَ السُّلطان
إلى أن قال:
فلأهدينِّ إلى علاه مدائحاً
مدحاً أفوق به زهيراً مثلما
يا ناصر الإسلام حين تخاذلت
بك قد أعزَّ الله حزب جنوده
لمَّا رأيتَ الناسَ قد أغواهُم
جَرَّدتَ سيفَك في العداء لا رغبة
فضرْبتَهُم ضرب الغرائب واضعاً
وغضبت لله الذي أعطاك
تبقى على الأحقاب والأزمان
فاق المليك الناصر ابنَ سنان
عنه الملوك ومظهر الإيمان
وأذلَّ حزب الكفرِ والطُّغيانِ
الشَّيطان بالإلحادِ والعِصيان
في الملك بل في طاعة الرَّحمن
بالسَّيف ما دفعوا من الصُّلبان
فصل الحكم غضبة ثائرٍ حَرَّان
وذكرتُ أهمَّ الدروس، والعبرة، والفوائد في تحرير بيت المقدس، كأهمية العلماء الربانيين في إيقاظ الأمة، وتربية الجيل على عقيدة الإسلام الصَّحيحة، وتحرير الولاء لله، ورسوله، والمؤمنين، ووحدة الأمَّة، ووضوح الراية الإسلامية للمعركة، ووجود استراتيجية بعيدة المدى، وكوادر علمية تحيط بالواقع علماً ، وأهمية توبة الأمة، وعودتها إلى الله ، عزَّ وجلَّ ، وبعدها عن المعاصي ، ولا طريق لتحرير فلسطين ، وأراضي المسلمين المحتلة إلا بالجهاد في سبيل الله بمعناه الواسع الشامل: الجهاد السياسي ، والإعلامي ، والروحي ، والعلمي ، والتخطيطي، والقتالي....الخ.
وتعرضت للحملة الصليبية الثالثة، وردة فعل الغرب الأوروبي من تحرير بيت المقدس، والتعبئة الشاملة؛ التي حدثت، وما ترتب عليها من حملة صليبية ثالثة ، كان فيها الملوك ، والأمراء ، ورجال الدين المسيحي ، وقد شارك في تلك الحملة إمبراطور ألمانيا ، وملك إنجلترا ، وملك فرنسا؛ إلا أنها لم تحقق هدفها بفضل الله ، ثم جهود صلاح الدين، والأمة المسلمة الملتفة حوله من بلاد الشام ، ومصر ، والعراق ، والمغاربة، وغيرهم.
وتكلمت عن طبيعة المفاوضات بين الملك العادل أخي صلاح الدين ، وريتشارد قلب الأسد ملك بريطانيا؛ التي استمرت خمسة عشر شهراً ، واقتضت 42 وفداً ، توجت بصلح الرمّلة ، وقد تميزت هذه الحملة الصليبية بحدوث تفاهم كبير مع المسلمين ، فكان الطرفان شديدي الصلة ببعضهما ، وتعدَّى ذلك إلى طرح مشروع المعاهدة، وإرسال الفواكه ، والثلج لريتشارد قلب الأسد أثناء مرضه ، وحضور طبيب صلاح الدين لمعالجته ، وكان من اثار هذا الاختلاط في حياة الفرنج ما يأتي:
ـ نقلوا عن المسلمين كثيراً من العلوم ، والمعارف التي كانت سائدة بينهم في تلك الفترة ، وقد ألفوا فيها كتباً احتوت كثيراً من التجديد ، والابتكار ، ووضع القوانين في هذه العلوم.
ـ نقلوا عن المسلمين كثيراً من الصناعات ، والفنون ، مثل صناعة النسيج ، والصباغة ، والمعادن ، والزجاج ، كما نقلوا عنهم فنَّ العمارة ، وكان لهذا النقل تأثير عميق في حياة أوروبا الصناعية ، والتجارية ، والفنية.
ـ تأثرت الحضارة الغربية بالحضارة الإسلامية تأثراً أدَّى إلى نمو الحضارة الغربية ، وازدهارها ، وساعدته الحضارة الإسلامية على الخروج من بحر الهمجيَّة الظلامية في تلك العصور ، وهذا باعتراف المستشرقين قبل مؤرخي المسلمين.
وذكرت مرض صلاح الدين ، وأيامه الأخيرة ، وملازمة أحد الشيوخ له ، وقراءة القران عليه ، ولما بلغ القارئ قول الله تعالى: {عَلَيۡهِ تَوَكَّلۡتُۖ وَهُوَ رَبُّ ٱلۡعَرۡشِ ٱلۡعَظِيمِ ١٢٩} [التوبة: 129] ، تبسَّم ، وتهلَّلَّ وجهه ، وسلَّم روحه إلى خالقها سبحانه ، ولم يترك في خزانته من الذهب سوى دينار واحد ، وستة وثلاثين درهماً ، وقيل سبع وأربعين درهماً ، ولم يترك داراً ، ولا عقاراً ، ولا مزرعة ، ولا بستاناً ، ولا شيئاً من أنواع الأملاك.
وختمت الكتاب بقصيدة العماد الأصفهاني في رثاء صلاح الدين ، والتي قال فيها:
شَمْلُ الهُدى والمُلكِ عَمَّ شَتاتُهُ
أين الذي مُذْ لم يزل مخشية
أين الذي كانت له طاعاتُنا
بالله أين النّاصرُ الملك الذي
أين الذي ما زال سُلطانا لنا
والدَّهرُ ساء وأقلعت حسناتُه
مرجوَّةً هبَّاتُهُ وَهِبَاتُه
مبذولةً ولربِّهِ طاعاتُه
لله خالصةً صفَتْ نيّاتُهُ
يُرجى نَدَاه وتتقى سَطَواتُه
إلى أن قال:
في نصرة الإسلام يسهر دائماً
لا تحسبوه مات شخصٌ واحدٌ
ليطولَ في روضِ الجِنان سُبَاتُهُ
فمَاتَ كلِّ العالمين مماتُه
لقد تأثر الناس بوفاة صلاح الدين؛ حتى المؤرخون الأوروبيون ترحموا عليه، وأشادوا بعدله، وبقوَّته ، وتسامحه ، واعتبروه أعظم شخصية شهدها عصر الحروب الصليبية قاطبةً ، وستظلُّ بإذن الله تعالى سيرة صلاح الدين تمدُّ أبناء المسلمين بالعزائم الصلاحية؛ التي تعيد إلى الحياة روعة الأيام الجميلة الماضية ، وبهجتها ، وبهائها ، وترشد الأجيال إلى أهمية استيعاب المشروع الإسلامي الحضاري الكبير تحت راية أهل السنة والجماعة.
وقد طويت بوفاة صلاح الدين صفحةٌ من أنصع صفحات التاريخ، وأنقاها، فقد عرف فيه التاريخ رجلاً فذاً من طراز نور الدين محمود الشَّهيد، لم يكن همُّه جمع المال ، ولم تستهوه زخرفةُ السلطان ، ولم تمل به عن جادة الحقِّ سطوة الحكم ، فقد كان همُّه انتصار الإسلام ، وأعظم أمانيه سيادة الشريعة ، وأقصى غايته تطهير بلاد المسلمين من الصليبيين ، وإرغامهم على الهزيمة ، والرجوع من حيث ما أتوا.
إنَّ من الدورس المهمَّة من هذا الكتاب معرفة المشاريع المتصارعة في عهد صلاح الدين ، فقد كانت ثلاثةٌ تتطاحن على قدمٍ وساق ، وهي: المشروع الصليبي ، والذي تتزعمه الكنيسة من عهد أوربان الثاني ، والمشروع الشيعي الرافضي بقيادة الدولة الفاطمية بمصر ، والمشروع الإسلامي الصحيح ، وحامل لوائه بعد نور الدين صلاح الدين ، فكانت المحاور التي سار عليها أهل السنة دولةً ، وشعباً تعميق الهوية العقائدية السنية ، والإحياء الإسلامي الصحيح في نفوس الأمة ، والتصدِّي لشبهات المذهب الشيعي ، وإعداد الأمة لمقاومة الصليبيين ، وكانت المحاور متداخلةً من حيث السير؛ إلا أنَّ تحرير بيت المقدس ، والقضاء على الصليبيين في معركة حطين لم يتم إلا بعد القضاء على الدَّولة الفاطمية سياسياً ، وعسكرياً ، وقد سبقها الانتصاراتُ العقائدية ، والفكرية ، والثقافية ، والتاريخية ، والحضارية للمذهب السُّنِّي.
إنَّ الذين استطاعوا تحرير بيت المقدس ، وانتزاع المدن ، والقلاع ، والحصون من الصليبيين هم الذين تميَّزوا بمشروعهم الإسلامي الصحيح، وعرفوا خطر المشاريع الباطنية الدخيلة ، فتصدوا لها بكل حزم وعزم ، إنَّ أية أمة تريد أن تنهض من كبوتها لا بدَّ أن تحرك ذاكرتها التاريخية لتستخلص منها الدروس ، والعبر ، والسنن في حاضرها، وتستشرف مستقبلها.
إن قراءة التاريخ تضيف للباحث، والقائد، والزعيم ، والملك ، والرئيس أعمار السابقين ، وأما الوعي بالتاريخ؛ فإنه يوظف ثمرات هذه القراءة في تغيير الواقع ، واستشراف المستقبل ، ولذلك يستحيل التقدم ، وينعدم النهوض عند الذين لا يفقهون ، ولا يتعرَّفون على سنن الله ، وقوانينه ، وعبره ، وعظاته من خلال التاريخ.
إنَّ النهوض بوجه عام يحتاج إلى سلاح القلم ، واللسان ، ولم ينجح مشروع نهوضي عبر التاريخ من غير أقلام قوية ، أو ألسنة تُعبِّر عن قلوبٍ صادقة تدعو إليه ، وتنشر مبادئه بين الناس ، وإيجاد الكتب النافعة في هذا المجال من الضرورات في عالم الصِّراع ، والحوار ، والجدال ، وهذا يدخل ضمن سنة التدافع في الأفكار والعقائد ، والثقافات، والمناهج ، وهي تسبق التدافع السياسي ، والعسكري ، فأيُّ برنامج سياسيٍّ توسعيٍّ طموحٍ يحتاج لعقائد ، وأفكار ، وثقافة تدفعه ، فالحرف هو الذي يلد السيف ، واللسان هو الذي يلد السِّنان ، والكتب هي التي تلد الكتائب.
إنَّ موسوعة الحروب الصليبية، والتي صدر منها كتاب السلاجقة، وعصر الدولة الزنكية، وهذا الكتاب قد أجابت عن الكثير من الأسئلة المطروحة على الساحة القطرية ، والإقليمية، والعالمية، وهذه الحقبة من تاريخ الأمة تأتي شاهداً تاريخياً مقنعاً على أنَّ الإسلام قادر في أية لحظة تتوافر فيها النيَّة المخلصة، والإيمان الصادق، والالتزام المسؤول، والذكاء الواعي، واستيعاب فقه السنن، والنهوض، وقوانين الحضارات وبناء الدول على إعادة دوره الحضاري، والقيادي، وإخراج الناس من ضيق الدنيا إلى عدل الإسلام.
هذا وقد انتهيت من هذه المقدمة في 15 شعبان 1428هـ 28أغسطس/2007م الساعة الرابعة بعد صلاة العصر. والفضل لله من قبلُ، ومن بعد، وأسأله سبحانه وتعالى أن يتقبَّل هذا العمل، ويشرح صدور العباد للانتفاع به، ويبارك فيه بمنِّه ، وكرمه ، وجوده! قال تعالى: {مَّا يَفۡتَحِ ٱللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحۡمَةٖ فَلَا مُمۡسِكَ لَهَاۖ
وَمَا يُمۡسِكۡ فَلَا مُرۡسِلَ لَهُۥ مِنۢ بَعۡدِهِۦۚ وَهُوَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡحَكِيمُ ٢} [فاطر: 2] .