عاصمة الدولة الأموية وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم في فضائل الشام
الحلقة: السادسة والعشرون
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
صفر 1442 ه/ سبتمبر 2020
كانت الشام إحدى الولايات الهامة في الإمبراطورية الرومانية الشرقية البيزنطية ، بل كانت لقربها من بيت المقدس، وتاريخها القديم ، إحدى المراكز الحضارية في هذه الإمبراطورية ، وكان العرب قبل الإسلام ينظرون إليها نظرة كبيرة ، لما تحتويه من حضارة ، فضلاً عما بها من خيرات وخضرة وأسواق ، وتعتبر مدينة دمشق المدينة الأولى في بلاد الشام ، فهي قاعدتها ومدينتها العظمى ، ولعبت دوراً كبيراً في تاريخ المنطقة ، لذلك اتخذها الحاكم الروماني قاعدة حكمه.
ولما دخل الإسلام الشام ودمشق خاصة ، حافظ عليها ، واحتفظ الولاة لها بميزاتها ، وظل معاوية الوالي يعتني بها طوال فترة ولايته عليها ، وأقام علاقات وطيدة مع سكانها ، وعرف أهمية القبائل اليمنية في دمشق والشام، فتزوج من إحداها وهي بني كلب؛ وأنجب من زوجته الكلبية ابنه يزيد ، فضمن ولاءهم له ولأبنائه من بعده ، لأن الخؤولة من أبرز ما تتحزب له القبائل العربية، هذا فضلاً عن أن التصاهر عند العرب بمثابة التحالف السياسي، وقد كان معاوية ذكياً في اعتماده على القبائل اليمنية بدمشق والشام.
ولما قامت الدولة الأموية ، رأى معاوية أن الدولة الإسلامية توسعت وامتدت شرقاً وغرباً؛ فلم يجد أفضل من دمشق عاصمة للخلافة الأموية ، وذلك لأنها تقع بين جزأي العالم الإسلامي؛ الجزء الشرقي الذي يشمل العراق وفارس ، والجزء الغربي الذي يشمل مصر والمغرب ، فضلاً عن أن القبائل التي ارتبطت به أيدته ودعمت موقفه وصارت يده الطولى في تدعيم حكمه ، أي أنها كانت القوة العسكرية والسياسية التي استند عليها الحكم والدولة الأموية ، كما قدم له سكان البلد ما يمكن أن يقدموه من خبرة وعمل إداري ، فقد وجد معاوية في دمشق تقاليد عريقة في الحكم والإدارة ، كما وجد جهازاً إدارياً متمرساً ساعده على تأسيس مهمته في فترة التأسيس هذه التي لا تحتاج الإرادة الطيبة فحسب ، بل الخبرة والمران اللذين وفرهما له جهاز الموظفين الذين كانوا يعملون في ظل الإدارة البيزنطية في الميدانين الإداري والمالي.
كما أنه لا بد لنا أن نلاحظ أن حظ الشام من الحضارة كان أوفر من حظ الأمصار الأخرى ، فالقبائل العربية التي هاجرت إليها واستقرت فيها قبل الفتح كانت قد اعتادت فكرة الحكم المركزي وفكرة الدولة عموماً ، على عكس عرب العراق مثلاً الذين لم يتقبلوا هذه الفكرة بسهولة ، وينطبق هذا على من سكن العراق منهم قبل الفتح وبعده ، فالذين سكنوا العراق قبل الفتح كانوا في خصومة وصراع دائمين مع الحكم الفارسي ، وسكان بلاد الشام كانوا قد اعتادوا الخضوع والتعايش مع البيزنطيين ، كما أن العرب الذين هاجروا إلى الشام بعد الفتح لم يعيشوا في معسكرات مستقلة ، كما كانت الحال في العراق (البصرة والكوفة) ، بل عاشوا جنباً إلى جنب مع السكان المحليين والقبائل التي كانت تقطن الشام قبلاً ، وقد ساعد هذا الاختلاط على كسر حدة التمرد القبلي.
وقد ساعد على تحقيق انتصارات معاوية في الخارج الجيش الشامي الذي جمعه ونظمه ودربه منذ أن كان والياً، والذي أغدق عليه العطاء ، ولم يبخل عليه بكل ما يوفر له سبل الرضا والإخلاص بعد أن غدا خليفة ، وتعددت لقاءاته في البر والبحر مع الإمبراطورية البيزنطية ، وقد ساعدت هذه اللقاءات المستمرة على إعطاء جيش الشام فرصاً كثيرة للتدريب العملي ، وقدمت له الخبرة اللازمة. كما كان لأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أثرها في هجرة الناس للشام ، واعتزاز أهلها بالإسلام وحرصهم على زعامة العالم الإسلامي ، فالنبي صلى الله عليه وسلم ميز أهل الشام بالقيام بأمر الله دائماً إلى اخر الدهر ، وبأن الطائفة المنصورة فيهم إلى اخر الدهر ، فهو إخبار عن أمر دائم مستمر فيهم مع الكثرة والقوة.
وقد كان معاوية يحتج لأهل الشام بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ حيث قال: «لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله ، لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم ، حتى تقوم الساعة» ، فقام ملك بن يخامر يذكر أنه سمع معاذاً يقول: «وهم بالشام»، فقال معاوية: وهذا مالك بن يخامر يذكر أنه سمع معاذاً يقول: وهم بالشام. وما رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا يزال أهل الغرب ظاهرين»، قال الإمام أحمد: وأهل الغرب هم أهل الشام. وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مقيماً بالمدينة فما يغرب عنها فهو غربه ، وما يشرق عنها فهو شرقه... فقد أخبر أن الطائفة المنصورة القائمة على الحق من أمته بالمغرب؛ وهو الشام وما يغرب عنها... وكان أهل المدينة يُسمُّون أهل الشام ، أهل المغرب ، ويقولون عن الأوزاعي: إنه إمام أهل المغرب ، فإذا دلت النصوص على أن الطائفة القائمة بالحق من أمته التي لا يضرها خلاف المخالف ، ولا خذلان الخاذل هي بالشام ، فهذا لا يعارض قوله صلى الله عليه وسلم: «تقتل عماراً الفئة الباغية»، وقوله صلى الله عليه وسلم في الخوارج: «تقتلهم أولى الطائفتين بالحق».
ولا ريب أن هذه النصوص لابد من الجمع بينها ، فيقال: أما قوله صلى الله عليه وسلم: «لا يزال أهل الغرب ظاهرين»، ونحو ذلك مما يدل على ظهور أهل الشام وانتصارهم ، فهذا وقع وهذا هو الأمر؛ فإنهم ما زالوا ظاهرين منتصرين، وأما قوله عليه السلام: «لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله» ، والذي هو ظاهر ، فلا يقتضي ألا يكون فيهم من فيه بغي ومن غيره أولى بالحق منهم ، بل فيهم هذا وهذا. وأما قوله: «تقتلهم أولى الطائفتين بالحق» فهذا دليل على أن علياً ومن معه كان أولى بالحق إذ ذاك من الطائفة الأخرى ، وإذا كان الشخص أو الطائفة مرجوحاً في بعض الأحوال لم يمنع أن يكون قائماً بأمر الله ، وأن يكون ظاهراً بالقيام بأمر الله عن طاعة الله ورسوله ، وقد يكون الفعل طاعة وغيره أطوع منه ، وأما كون بعضهم باغياً في بعض الأوقات ، مع كون بغيه خطأ مغفوراً له ، أو ذنباً مغفوراً ، فهذا أيضاً لا يمنع ما شهدت به النصوص؛ وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر عن جملة أهل الشام وعظمتهم ، ولا ريب أن جملتهم كانوا أرجح في عموم الأحوال.
وقد كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يفضلهم في مدة خلافته على أهل العراق ، حتى قدم الشام غير مرة وامتنع من الذهاب إلى العراق ، واستشار فأشار عليه أنه لا يذهب إليها ، وكذلك حين وفاته أدخل عليه أهل المدينة أولاً وهم كانوا إذ ذاك أفضل الأمة ، ثم أدخل عليه أهل الشام ، ثم أدخل عليه أهل العراق ، وكانوا آخر من دخل عليه.
وكذلك الصديق كانت عنايته بفتح الشام أكثر من عنايته بفتح العراق حتى قال: لَكَفْر الشام أحب إلى من فتح مدينة العراق.
والنصوص التي في كتاب الله وسنة رسوله وأصحابه في فضل الشام وأهل الغرب على نجد والعراق وسائر أهل المشرق ، أكثر من أن تذكر هنا ، بل عن النبي صلى الله عليه وسلم من النصوص الصحيحة في ذم المشرق وإخباره بأن الفتنة ورأس الكفر منه ما ليس هذا موضعه ، وإنما كان فضل المشرق عليهم بوجود أمير المؤمنين علي ، وذلك كان أمراً عارضاً، ولهذا لما مات علي رضي الله عنه ظهر منهم من الفتن ، والنفاق ، والردة ، والبدع ، ما يعلم به أن أولئك كانوا أرجح. وكذلك ـ أيضاً ـ لا ريب أن في أعيانهم من العلماء والصالحين من هو أفضل من كثير من أهل الشام ، كما كان علي وابن مسعود ، وعمار وحذيفة ونحوهم ، أفضل من أكثر من بالشام من الصحابة ، لكن مقابلة الجملة وترجيحها لا يمنع اختصاص الطائفة الأخرى بأمر راجح ، وهذا يبين رجحان الطائفة الشامية من بعض الوجوه ، مع أن علياً رضي الله عنه كان أولى بالحق ممن فارقه ، ومع أن عماراً قتلته الفئة الباغية كما جاءت به النصوص ، فعلينا أن نؤمن بكل ما جاء من عند الله ، ونقر بالحق كله ، ولا يكون لنا هوى ، ولا نتكلم بغير علم ، بل نسلك سبل العلم والعدل ، وذلك هو اتباع الكتاب والسنة، فأما من تمسك ببعض الحق دون بعض، فهذا منشأ الفرقة والاختلاف.
يمكنكم تحميل كتاب الدولة الأموية عوامل الإزدهار وتداعيات الإنهيار
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي:
http://alsallabi.com/uploads/file/doc/BookC9(1).pdf