السبت

1446-11-05

|

2025-5-3

تاريخ الدولة الأموية: خلافة معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه

(أهل الحل والعقد في عهد معاوية رضي الله عنه)

الحلقة: السابعة والعشرون

بقلم الدكتور علي محمد الصلابي

صفر 1442 ه/ سبتمبر 2020

كان المجتمع الإسلامي في عصر الراشدين يتطور تطوراً سريعاً وخطيراً بشكل يهدد المحافظة على السمات الأساسية لحكمهم ، والتي تظهر في ذلك الحب والانسجام والحرص المتبادل بين الخليفة والرعية ، وخوف الله في معاملة بعضهم لبعض ، وقد تمثل ذلك التطور في تقلص دور أهل الحل والعقد المقيمين في المدينة بوفاة معظمهم أو بتفرقهم في الأمصار ، وباكتساب تلك الأمصار مكانة ضخمة تفوق مكانة الحجاز مقر الخلافة نتيجة نمو دور القبائل العربية التي أسلمت متأخراً ، ولكنها حملت على أكتافها عبء الفتوحات الإسلامية الكبرى ، التي أدت إلى إثراء المجتمع الإسلامي بصورة لم يعرفها من قبل ، تغيرت معها بعض النفوس والأخلاق، وبدأت تدريجياً تتغير بعض المفاهيم ، كمفهوم أهل الحل والعقد ، فلم يعودوا هم أهل بدر ، أو جماعة السابقين إلى الإسلام في المدينة، التي تقلصت أعدادها بمضي الزمن ، وبرز إلى ساحة التأثير والفاعلية زعماء الأمصار ، وزعماء الشام من بينهم.
فحين نحتكم إلى أحداث التاريخ نجدها تؤكد قدرة أهل الأمصار آنذاك على الحسم السياسي ، وعجز أهل المدينة عن ذلك ، ثم تؤكد بعد ذلك تميز أهل الشام بقدر هائل من الطاعة والتوحد الاجتماعي والتعود على الخضوع لنظم الدولة ، وأساليب الإدارة وأنماط الحضارة ، وقد مكنتها هذه المؤهلات من فرض اختيارها على العراق وسائر الأمصار الإسلامية حتى بايعت معاوية ، ثم استطاعت الاحتفاظ بهذه القدرات أكثر من تسعين عاماً هي عمر الدولة الأموية.. مما يؤكد أن قادتها أصبحوا هم بحكم الواقع السياسي جل أهل الحل والعقد في المجتمع الإسلامي ، والقادرين على اختيار الخليفة ، وإقناع بقية الأمصار بذلك الاختيار ـ إن سلماً أو عنفاً ـ في ذلك المجتمع الذي أصبحت تحكمه عصبيات مختلفة الرغبات والأهواء والمطامع.
1 ـ رأي الفقهاء في معنى أهل الحل والعقد:
وحين نحتكم إلى أقوال علمائنا في معنى أهل الحل والعقد؛ نجدهم يختلفون إلى عدة أقوال، ويذكرون مصطلحات متعددة؛ منها:
أ ـ أولو الأمر: وهو مصطلح شرعي جاء بنص القرآن الكريم ، وذلك في قوله تعالى: {يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ وَأُوْلِي ٱلۡأَمۡرِ مِنكُمۡۖ } [النساء: 59]، وقد اختلف في المراد بهم على أقوال؛ من أشهرها:
ـ أنهم الأمراء: ورجحه الإمام الطبري، وقال النووي: هو قول جمهور السلف والخلف.
ـ أنهم العلماء: وبه قال بعض السلف؛ منهم: جابر بن عبد الله ، والحسن البصري ، والنخعي وغيرهم.
ـ أنهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم.
ـ أنهم أبو بكر وعمر.
ـ أنها عامة في كل أولي الأمر والعلماء: ومال إليه الإمام ابن كثير ، وابن القيم، والشوكاني وغيرهم.
ـ أنهم العلماء والأمراء والزعماء وكل من كان متبوعاً: وهو رأي ابن تيمية، ومحمد عبده، وقال: إنهم هم أهل الحل والعقد، ولعل القولين الخامس والسادس هما الأقرب إلى الصواب، وليس بينهما فرق كبير.
ب ـ العلماء: والمراد بهم علماء الشريعة: وهو لفظ قرآني: قال سبحانه: {إِنَّمَا يَخۡشَى ٱللَّهَ مِنۡ عِبَادِهِ ٱلۡعُلَمَٰٓؤُاْۗ} [فاطر: 28]، وربما جاء بلفظ: {وَأُوْلُواْ ٱلۡعِلۡمِ} كما في قوله تعالى: { شَهِدَ ٱللَّهُ أَنَّهُۥ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ وَٱلۡمَلَٰٓئِكَةُ وَأُوْلُواْ ٱلۡعِلۡمِ قَآئِمَۢا بِٱلۡقِسۡطِۚ} [آل عمران: 18]. وفي السنة النبوية جاء هذا المصطلح في أحاديث لا تكاد تحصر ، ومن ذلك الحديث المشهور: «إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من الناس ، ولكن بموت العلماء».
جـ أهل الاختيار: وهم الذين يوكل إليهم اختيار الإمام ومبايعته ، وهم أهل الحل والعقد ، وهو مصطلح اجتهادي اصطلح عليه بعض أهل العلم.
د ـ أهل الاجتهاد؛ وهم: العلماء الذين بلغوا درجة الاجتهاد في الشريعة الإسلامية ، ويكونون مؤهلين للأعمال المهمة: كالإمامة الكبرى ، والقضاء ، والفتوى ونحو ذلك ، وممن أطلق هذا المصطلح: البغدادي، والقرطبي.
هـ أهل الشورى؛ وهم: الذين يستشارون في أمر المسلمين وفق الآية الكريمة ، {وَشَاوِرۡهُمۡ فِي ٱلۡأَمۡرِۖ } [آل عمران: 159]، وقوله: {وَأَمۡرُهُمۡ شُورَىٰ بَيۡنَهُمۡ} [الشورى: 38]
و ـ أهل الشوكة؛ وهم: أصحاب القدرة والسلطان ، لتوافر القدرة والبأس لديهم ، وممن استعمل هذا المصطلح ابن تيمية.
ز ـ أهل الرأي والتدبير؛ وهم: من يتسمون بالعقل والفكر الناضج مع القدرة على تصريف الأمور وتسييرها، وممن استعمل هذا المصطلح ابن عابدين.
فأهل الحل والعقد هم الذين لهم القدرة على عقد نظام جماعة المسلمين في شؤونهم العامة، والسياسية، والإدارية، والتشريعية، والقضائية، ونحوها، ثم حل هذا النظام لأسباب معينة ليعاد ترتيب هذا النظام وعقده من جديد.
والذي تحقق في عهد معاوية رضي الله عنه: أن أهل الحل والعقد في دولته كانوا هم الولاة ، وزعماء القبائل، وقادة الجيوش ونحوهم ، وتركزت الشوكة والقوة الفعلية في أهل الشام ، حيث كانوا قادرين على الاختيار وتحقيق إرادتهم ، وإمضاء رغبتهم على مخالفيهم ، وهذا ما تحقق في ذلك الظرف التاريخي في أهل الشام ، وإذا أردنا أن نكون أكثر إنصافاً ، قلنا: إنه كان يجب أن تتسع دائرة أهل الحل والعقد هذه لتشمل بجانب زعماء الشام بقية زعماء الأمصار الإسلامية في العراق والحجاز ، ومصر وغيرهم ، وأن تضم بجوار أصحاب العصبيات القوية ، أصحاب الرأي من علماء الأمة وأهل الديانة فيهم ، وأن يوكل إلى هذه الطائفة منهم اختيار الخليفة أو عزله ، علاوة على الفصل في المسائل المهمة في حياة الأمة.. ولو حدث ذلك في مسيرة الدولة الأموية لتجنبت الأمة كثيراً من الاختلاف وإراقة الدماء.. ولكن الذي حدث فعلاً هو انفراد أهل الشام باختيار الخلفاء في العصر الأموي من الأسرة الأموية ذاتها ، وكانت بداية ذلك هي البيعة ليزيد بن معاوية بولاية العهد من أبيه ، وبعد خطوب شتى أصبح تسلسل الخلفاء من البيت الأموي أمراً واقعاً، رضيت بذلك بقية الأمصار أم عارضت. وسيأتي الحديث عن ولاية العهد في حينه بإذن الله تعالى.
يمكنكم تحميل كتاب الدولة الأموية عوامل الإزدهار وتداعيات الإنهيار
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي:
http://alsallabi.com/uploads/file/doc/BookC9(1).pdf 


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022