(موقف الشيعة في حلب من حركة الإحياء السنية )
من كتاب عصر الدولة الزنكية ونجاح المشروع الإسلامي بقيادة نور الدين الشهيد في مقاومة التغلغل الباطني والغزو الصليبي
الحلقة: 106
بقلم: د.علي محمد الصلابي
شعبان 1444ه/ فبراير 2023م
لم يتقبل الشيعة الجهود التي نهض بها نور الدين في حلب لدعم المذهب السني بها، وظلوا ينتهزون الفرصة المواتية ليعودوا بحلب مرة أخرى إلى ما كانت عليه كبيئة شيعية يمارسون فيها شعائرهم بحرية تامة.
وكانت محاولتهم الأولى في هذا السبيل عام 552 هـ / 1157 م، عندما مرض نور الدين بحلب؛ حتى أرجف بموته، ووصل أخوه نصرة الدين إلى حلب ليخلفه في ولايته، فمنعه والي القلعة من الدخول إليها، فتجمع حوله أحداث الشيعة، وأبدوا استعدادهم لنصرته، شريطة أن يسمح لهم بالعودة إلى ممارسة شعائرهم التي أبطلها نور الدين، فوعدهم بذلك، واشتعلت نيران الفتنة بين السنة، والشيعة، وقام الأخيرون بنهب بعض المراكز التعليمية السنية كالمدرسة العصرونية، وغيرها من دور أهل السنة، ولما علم نور الدين بالأمر أرسل إلى قاضي المدينـة أبي الفضل هبة الله بن أبي جرادة بأن يمضي إلى الجامع، ويصلي بالناس، ويعاد الأذان إلى ما كان عليه، فشرع المؤذنون في الأذان السني، فاجتمع تحت المنارة من عوام الشيعة خلق كثير، فخرج إليهم القاضي، وحذرهم، وبيَّن لهم أن نور الدين قد عوفي، وأنه هو الذي أمر بهذا! فانصرفوا وسكتت الفتنة(1).
و ـ وجاءت محاولتهم الثانية في شوال من عام 564 هـ / 1169 م عندما أحرق الإسماعيلية مسجد حلب الجامع، وكان يُتَّخذ مكاناً للدرس إلى جانب العبادة، فكان فيه الكثير من الزوايا التي وقفها نور الدين على المالكية، والحنابلة، وعلماء الحديث، فأعاد نور الدين بناء الجامع، ووسعه، وخصص له أوقافاً كثيرة(2).
ولعل الحركة من جانب الإسماعيلية في حلب كانت ردّ فعل لاستيلاء نور الدين على مصر الفاطمية في ربيع الاخر من هذا العام؛ إذ أيقن الإسماعيلية أن نور الدين ماضٍ في تضييق الخناق على الشيعة، وأنه عازم على استئصال هذا المذهب من مصر، والشام(3).
كانت خطوات نور الدين العقائدية في حلب خطوات مدروسة، تدل على وعي، وإدراك كاملين للهدف الذي يريد تحقيقه من وراء إنشاء هذه المؤسسات السنية الهادفة، وظهر هذا الوعي واضحاً من جانب نور الدين عندما تحدث مجد الدين بن الداية، بلسانه إلى الفقهاء في حلب قائلاً: «نحن ما أردنا ببناء المدارس إلا نشر العلم، ودحض البدع من هذه البلدة، وإظهار الدين»(4) كما كان نور الدين ـ رحمه الله ـ يدرك قيمة العلم كسلاحٍ، يواجه به العدو، كما يواجهه بالقوة العسكرية، ولا شكَّ: أن نور الدين في هذه النظرة كان يعيش في عصره بعقلية العصر الذي يعيشه الآن(5)، فالتصدي للغزو الباطني الحديث يحتاج لقوة عسكرية، واقتصادية، وسياسية، وفكرية، وإعلامية تتوازن، وتتعاون، وتتكامل مع بعضها من أجل الإحياء السني في الأمة، والوقوف أمام العقائد الباطنية الزاحفة.
وقد أثمرت جهود نور الدين في حلب، وتسابق أمراؤه، وأعيان دولته، وخلفاؤه من بعده إلى إنشاء المؤسسات العلمية، حتى غدت حلب بعد فترة يسيرة نسبياً، مركزاً من مراكز الثقافة السنية، بعد أن كانت وكراً من أوكار الشيعة، وقد أحصى المؤرخ عز الدين شداد ت 684 هـ / 1285 م مدارس حلب في أيامه، فوجدها أربعاً وخمسين مدرسة، موزعة بين المذاهب الفقهية الأربعة، منها: إحدى وعشرون للشافعية، واثنتان وعشرون للحنفية، وثلاث للمالكية، والحنابلة، وثماني دور للحديث الشريف بالإضافة إلى إحدى وثلاثين خانقاه للصوفية(6).
وقد اتت هذه المؤسسات العلمية ثمارها المرجوة؛ إذ انقرض المذهب الإسماعيلي الباطني في حلب في حدود عام 600 هـ / 1203 م، وأخفى الشيعة الإمامية معتقداتهم؛ حتى انتهى بهم الأمر إلى أن أخذوا يتنكرون، وبأفعال السنة يتظاهرون، ويذكر أحد المؤرخين المعاصرين من أبناء حلب: «أن الشيعة انقرضوا من المدينة، وتلاشوا بالمرة، ولم يبق منهم غير عدة بيوت يقذفهم بعض الناس بالرفض، والتشيع، مع أن ظاهرهم على كمال الاستقامة، وموافقة السنة(7)، وذلك بفضل الله، ثم جهود المصلح الكبير نور الدين وخلفائه، الذين اقتدوا به في الإكثار من المدارس السنية وتعيين الأساتذة الأكفاء لها، والإنفاق عليها بسخاء؛ حتى تراجع التشيّع من هذه المدينة، وأصبحت السيادة فيها لمذهب أهل السنة(8)، وهذا يدل على أهمية التربية الفكرية، والثقافية في التمكين للإسلام الصحيح في نفوس الناس.
مراجع الحلقة السادسة بعد المائة:
(1) زبدة حلب (2/308 ـ 310) التاريخ السياسي والفكري ص 213.
(2) التاريخ السياسي والفكري للمذهب السني ص 213.
(3) المصدر نفسه ص 213.
(4) كتاب الروضتين نقلاً عن التاريخ السياسي والفكري ص 213.
(5) التاريخ السياسي والفكري للمذهب السني ص 213.
(6) المصدر نفسه ص 214.
(7) نهر الذهب في تاريخ حلب (1/191 ـ 193) التاريخ السياسي والفكري للمذهب السني ص 214.
(8) التاريخ السياسي والفكري للمذهب السني ص 214.
يمكنكم تحميل كتاب عصر الدولة الزنكية ونجاح المشروع الإسلامي بقيادة نور الدين الشهيد في مقاومة التغلغل الباطني والغزو الصليبي
من الموقع الرسمي للدكتور علي الصَّلابي