الأحد

1446-11-06

|

2025-5-4

من كتاب الدولة الأموية عوامل الازدهار وتداعيات الانهيار (ج2):

(فتوحات قتيبة بن مسلم في بخارى وسمرقند وغيرها)

الحلقة: 136

بقلم الدكتور علي محمد الصلابي

جمادى الآخرة 1442 ه/ يناير 2021

هو قتيبة بن مسلم الباهلي الأمير، أبو حفص، أحد الأبطال والشجعان، ومن ذوي الحزم والدهاء والرأي والغَنَاء، وهو الذي فتح خوارزم وبخارى وسمرقند وكانوا قد نقضوا وارتدُّوا. ثم إنه افتتح فرغانة وبلاد الترك في سنة 95 هـ، ولي خراسان عشر سنين، وله رواية عن عمران بن حصين، وأبي سعيد الخدري ، ولم ينل قتيبة أعلى الرتب بالنسب، بل بكمال الحزم والعزم والإقدام والسَّعد، وكثرة الفتوحات ووفور الهيبة .
تولى قتيبة خراسان بعد المفضل بن المهلب، وكان من الأبطال الشجعان ذوي الحزم والدهاء والرأي والغناء، ويعتبر بحق من أعظم القادة الفاتحين، الذين عرفهم التاريخ الإسلامي عامة وتاريخ الدولة الأموية خاصة ، ففي عشر سنين فتح أقاليم شاسعة. وقد هدى الله على يديه خلقاً لا يحصيهم إلا الله، فأسلموا ودانوا لله عز وجل ، وكانت بداية فتوحاته عندما وصل لخراسان، فقد جمع الناس وخطبهم قائلاً: إن الله أحلكم هذا المحل ليعزَّ دينه ويذب بكم عن الحرمات، ويزيد بكم المال استفاضة والعدو وقماً ـ أي ذلاً ـ ووعد نبيه ﷺ النصر بحديث صادق وكتاب ناطق، فقال: {هُوَ ٱلَّذِيٓ أَرۡسَلَ رَسُولَهُۥ بِٱلۡهُدَىٰ وَدِينِ ٱلۡحَقِّ لِيُظۡهِرَهُۥ عَلَى ٱلدِّينِ كُلِّهِۦ وَلَوۡ كَرِهَ ٱلۡمُشۡرِكُونَ ٩} [سورة الصف:9] . ووعد المجاهدين في سبيله أحسن الثواب وأعظم الذخر عنده فقال: إلى قوله: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ً ïأَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ *} [التوبة: ـ 121] ، ثم أخبر عمن قتل في سبيله أنه حي مرزوق، فقال:
{ بَلۡ أَحۡيَآءٌ عِندَ رَبِّهِمۡ يُرۡزَقُونَ ١٦٩} [سورة آل عمران:169] ، فتنجزوا موعود ربكم، ووطنوا أنفسكم على أقصى أثر وأمضى ألم وإياي والهوينى .
بهذه الخطبة الموجزة ذكَّر قتيبة المسلمين برسالتهم، ومسؤولياتهم تجاهها، وأهاب بهم أن يوطنوا أنفسهم على تحمل المشقة في سبيل الله، وأن يسيروا في طريق إسلامهم طريق الجهاد، والعزة في الدنيا، والفوز بالجنة في الآخرة، وشرع قتيبة في الفتوحات، وفتح منطقة ما وراء النهر، ثم عبر نهر سيحون وفتح أقاليم كبرى، حتى وصل كاشغر متاخماً بذلك حدود الصين.

وأهم المراحل الكبرى في هذه الفتوحات:

المرحلة الأولى: استعـادة الطالقان والصغانيان وطخارستان :

عرض قتيبة جنده وحثهم على الجهاد وسار غازياً، فلما كان بالطالقان أتاه دهاقين (بلخ) وساروا معه، فقطع نهر (جيحون) فتلقاه ملك (الصغانيان) بهدايا ومفاتيح من ذهب، ودعاه إلى بلاده وسلّمها إليه، لأنّ ملك شومان وأخْرون ، كان يسيء جواره، وسار قتيبة منها إلى أخرون وشُومان وهما من الصَّغَانيان، فصالحه ملكها على فدية أداها إليه، فقبلها قتيبة ثم انصرف عائداً إلى (مرو)، واستخلف على جنده أخاه صالح بن مسلم، ففتح صالح بعد رجوع قتيبة (كاشان) وأورشت ، وفتح أخسيكت ، وهي مدينة (فرغانة) القديمة ، بهذا الفتح الكبير استهل قتيبة ولايته لخراسان سنة 86 هـ

المرحلة الثانية: فتح إقليم بخارى (87 ـ 90 هـ):

كانت أول مدينة غزاها في هذا الإقليم، وهي مدينة بيكند، يقول الطبري: إن قتيبة لما صالح نيزك، أقام إلى وقت الغزو، ثم غزا في تلك السنة 87 هـ فقطع النهر وسار إلى بيكند، وهي أدنى مدائن بخارى إلى النهر، فلما نزل قريباً منها استنصروا الصغد واستمدوا من حولهم، فأتوهم في جمع كثير، وأخذوا بالطريق فلم ينفذ لقتيبة رسول ولم يصل إليه رسول، ولم يعرف له خبر شهرين، وأبطأ خبره على الحجّاج، فأشفق الحجّاج على الجند، فأمر الناس بالدعاء لهم في المساجد، وكتب بذلك إلى الأمصار، وهم يقتتلون كل يوم، فكانت بين الناس مشاولة ، ثم تزاحفوا والتقوا وأخذت السيوف مأخذها وأنزل الله على المسلمين الصبر، ثم منح الله المسلمين أكتافهم فانهزموا يريدون المدينة، واتبعهم المسلمون فشغلوهم عن الدخول فتفرقوا، وركبهم المسلمون قتلاً وأسراً كيف شاؤوا، واعتصم من دخل المدينة بالمدينة وهم قليل، فوضع قتيبة الفَعَلة في أصلها ليهدمها، فسألوه الصلح فصالحهم، واستعمل عليها رجلاً من بني قتيبة .
ولكنهم سرعان ما نقضوا الصلح، وقتيبة منهم على خمسة فراسخ، فرجع إليهم، وقتل من كان في المدينة، وغنم غنائم كثيرة، ورجع قتيبة إلى مرو، وقوي المسلمون، فاشتروا السلاح والخيل.. وتنافسوا في حسن الهيئة والعدة .
واستمرت حملات قتيبة على إقليم بخارى في هذه المرحلة بصفة منتظمة كل سنة، وكان غزوه يتم في فصل الصيف، فإذا دخل الشتاء عاد إلى مرو، وفي سنة 88 هـ ترك أخاه بشاراً على مرو، وعبر النهر ففتح نومشكت ورامثنة من أعمال بخارى صلحاً بناء على طلب أهلها ، ولكن هاله حلف من أهل فرغانة والصغد في مئتي ألف عليهم ابن أخت ملك الصين ـ كور مغايون ـ، وواضح من هذا التجمع الكبير أن الأمم في هذه المناطق قد تداعت وتحالفت على المسلمين، ولكن الله نصر قتيبة وجنده على هذا الحلف، ثم عاد إلى مرو .
وفي عام 89 هـ استأنف قتيبة فتوحاته وقصد بخارى هذه السنة بناء على أوامر الحجّاج، فلقيه في طريقه جمع من أهل كش ونسف، فظفر بهم ومضى إلى بخارى، فتصدى له ملكها ـ وردان خذاه ـ فلم يستطع الاستيلاء عليها، فرجع إلى مرو، وكتب إلى الحجّاج يخبره، فطلب منه الحجّاج أن يصورها له، فبعث إليه بصورتها، فنصحه وأمده وعرفه الموضع الذي يأتيها منه، وأمره بالمسير إليها، فسار إليها سنة 90 هـ، ومع أن وردان خذاه كان قد استجاش الصغد والترك ليساعدوه في التصدي لقتيبة، إلا أنه تمكن من الانتصار عليهم بعد معارك شرسة، واستولى على بخارى، وكتب بالفتح إلى الحجّاج ، وبهذا استكمل قتيبة فتح إقليم بخارى كله في ثلاث سنوات.

المرحلة الثالثة: (90 ـ 93 هـ) فتح سمرقند:

وهي المرحلة التي فرض فيها قتيبة السيادة الإسلامية على حوض نهر جيحون، وتوج عمله فيها بالاستيلاء على مدينة سمرقند، أعظم المدائن في بلاد الصغد، وكان طرخون ملك الصغد، قد أرسل إلى قتيبة بعد انتصاره في معركة بخارى سنة 90 هـ يطلب الصلح ، فأجابه قتيبة وصالحه، ورجع قتيبة ، وفي سنة 91 هـ كان غدر نيزك ـ صاحب قلعة بادغس ـ وتأليبه ملوك طخارستان ورتبيل ملك سجستان على المسلمين، وقد نكل به قتيبة في سجستان من الشمال، وربما كانت تلك أول مرة يغزو فيها قتيبة سجستان، وربما كان قد أراد تأديب رتبيل ملكها لانضمامه إلى نيزك في غدره، ولكن رتبيل قدر العواقب وطلب الصلح، فقبل قتيبة وصالحه، وانصرف عائداً إلى مرو، وترك عبد ربه بن عبد الله بن عمير الليثي عاملاً على سجستان .
وقد توج قتيبة فتوحاته في هذه المرحلة بفتح سمرقند، وهي أعظم مدائن ما وراء النهر، والذي دعاه إلى ذلك أن طرخون ملكها كان قد نقض الصلح الذي أبرمه معه قتيبة سنة 90 هـ، وامتنع عن دفع ما كان صالح عليه، فقرر قتيبة أن يضع حداً لهذا العبث، فجمع جنده وأخبرهم بنقض طرخون الصلح، وبعزمه على فتح سمرقند بالقوة وجهز أخاه عبد الرحمن بن مسلم في عشرين ألف مقاتل، وأمره بالسير أمامه، ثم تبعه هو في أهل خوارزم وأهل بخارى، وضرب عليها الحصار وقال: إنا إذا نزلنا بساحة {فساء صباح المنذرين } متيمناً بقول رسول الله (ص) عندما حاصر خيبر ،فلما رأى أهل سمرقند أن مدينتهم قد حوصرت خافوا طول الحصار ، فكتبوا إلى ملك الشاش وفرغانة يستغيثونهم ، ويحرضونهم على المسلمين ، وقالوا لهم : إن العرب إذا ظفروا بنا عادوا عليكم بمثل ما أتونا به فانظروا لأنفسكم ، فاستجاب هؤولاء الملوك لنداء أهل سمرقند ، واختاروا عددا من أولادهم ومن أهل النجدة والبأس من أبناء المرازبة والأساورة والأبطال وأمروهم أن يفاجئوا قتيبة في معسكره ، وهو مشغول بحصار سمرقند ، ولكن قتيبة كان يقظاً باثاً عيونه ، ولم يغب عن باله حدوث مثل هذه المفاجآت ، فعلم بخبرهم وأرسل لهم فرقة من جنده بقيادة أخيه صالح بن مسلم ، فبدد شملهم وقتلهم ، ولم يفلت منهم إلا الشريد ، وغنم المسلمون أمتعتهم وأسلحتهم .
فلما رأى الصغد ما حل بهؤلاء انكسروا وضيق عليهم قتيبة الخناق ونصب المنجنيق على المدينة، واستطاع إحداث ثلمة فيها، وصاح صيحة الأسد: حتى متى يا سمرقند يعشش فيك الشيطان ؟! أما والله لئن أصبحت لأحاولنّ من أهلك أقصى غاية، فلما أصبح أمر الناس بالجد في القتال فقاتلوهم، واشتد القتال، وأمرهم قتيبة أن يبلغوا ثلمة المدينة، ورماهم الصغد بالنشاب فلم يبرحوا، فأرسل الصغد إلى قتيبة، فقالوا له: انصرف عنا اليوم، حتى نصالحك غداً، فقال: لا نصالحهم إلا ورجالنا على الثلمة.. فصالحهم من الغد على ألفي ألف ومئتي ألف مثقال في كل عام، وأن يعطوه تلك السنة ثلاثين ألف رأس، وأن يخلو له المدينة فلا يكون فيها مقاتل، فيبني فيها مسجداً، ويدخل ويصلي ويخطب ويتغدى ويخرج .
دخل قتيبة سمرقند وحطم ما بها من الأصنام، ولم يعبأ بما خوفه منها؛ حيث قال له أحدهم مدعياً نصيحته: لا تتعرض لهذه الأصنام فإن منها أصناماً من أحرقها أهلكته، فقال له: أنا أحرقها بيدي، فأمر بإشعال النار، وكبر ثم أحرقها، فوجدوا من بقايا مسامير الذهب والفضة خمسين ألف مثقال، وبعد أن أتمّ قتيبة هذا الفتح العظيم عاد إلى مرو، لكي يستريح، ثم يستعد لجولته الأخيرة، التي سيفتح فيها المناطق السيحونية.

المرحلة الرابعة: أقاليم الشاش وفرغانة وكاشغر (94 ـ 96 هـ):

وهي المرحلة التي فتح الله فيها على يديه أقاليم الشاش وفرغانة وكاشغر، وقد بدأ هذه المرحلة سنة 94 هـ، حيث سار في موعد غزوه ـ في الصيف ـ ومعه عشرون ألفاً من أهل بخارى وكش ونسف وخوارزم، فوجه قسماً منهم إلى الشاش، وتوجه هو بالقسم الاخر إلى فرغانة، حيث دار بينه وبين الترك قتال عنيف حول مدينة خجندة، ويبدو أن نتيجة المعركة لم تكن حاسمة، حيث توجه قتيبة إلى كاشان قبل أن يحسم أمر خجندة، وهناك أتاه جنوده الذين كان أرسلهم إلى الشاش، ويبدو أن قتيبة قد وجد مقاومة شرسة من الأتراك في هذه البلاد، فقد كتب إلى الحجّاج يطلب مدداً، فأرسل إليه جيشاً من العراق ، ثم أمر محمد بن القاسم الثقفي أن يوجه إليه من السند مدداً أيضاً، فإمداد قتيبة بهذه الجيوش من العراق ومن السند، فوق ما معه من قوات كبيرة، يدل على قوة المقاومة التي لقيها في أقاليم سيحون، كما يدل على قوة عزم المسلمين في الجهاد، وأنه أراد أن يكون متفوقاً عليهم، حتى يحقق هدفه، وقد نجح بالفعل، وفتح أقاليم الشاش وفرغانة 95 ه ، وبعد أن أتم هذا الفتح الكبير، جاءته الأخبار بموت الحجّاج في شوال في تلك السنة، فاغتمَّ لموته، لما كان يجد منه من التأييد والتشجيع والمساندة، وقفل راجعاً إلى مرو، وتمثل قول الحطيئة:

لعمرِي لنعمَ المرءُ من الِ جعفرٍ
فإن تحيَ لا أمللْ حياتي وإن تمتْ


بحورانَ أمس أعلقتْهُ الحبائلُ
فما في حياةٍ بعد موتِكَ طائلُ


عاد قتيبة إلى مرو وقد ترك حاميات من جنده في بخارى وكش ونسف، وانتظر ما تأتي به الأقدار بعد موت الحجّاج. وكان الخليفة الوليد بن عبد الملك يعرف طبيعة العلاقة بين الحجّاج وقتيبة، وأن للحجّاج دوراً كبيراً في نجاح قتيبة في مهمته، فقدر وقوع نبأ موت الحجّاج عليه، لذلك واساه وأرسل إليه رسالة كلها تشجيع وثناء وتزكية، قال له فيها: قد عرف أمير المؤمنين بلاءك وجدك في جهاد أعداء المسلمين، وأمير المؤمنين رافعك وصانع بك الذي يجب لك، فأتمم مغازيك، وانتظر ثواب ربك، ولا تغيب عن أمير المؤمنين كتبك، كأني أنظر إلى بلادك والثغر الذي أنت فيه .
ـ فتح كاشغر وغزو الصين:
أحدثت رسالة الخليفة الوليد بن عبد الملك أثراً طيباً في نفس قتيبة، وأعطته دفعة قوية من العزم والتصميم، فتوجه من مرو ليواصل فتوحاته، فقصد مدينة كاشغر التي يقول عنها الطبري: إنها أدنى مدائن الصين، ومع أن الوليد بن عبد الملك قد توفي في جمادي الآخرة سنة 96 هـ، وصل نبأ وفاته إلى قتيبة وهو في فرغانة. وقبل أن يصل إلى كاشغر، إلا أنه واصل سيره حتى فتحها.
وهنا جاءه رسول ملك الصين يطلب منه أن يوجه إليه وفداً ليعرف خبرهم، فاختار قتيبة عشرة ـ وقيل: اثني عشر ـ من خيرة رجاله برئاسة هبيرة بن المشمرج الكلابي، فأرسلهم إلى ملك الصين، ويقص الطبري خبر هذه السفارة في حديث طويل، نكتفي منه بما انتهى إليه الحوار مع ملك الصين، حيث قال لهم مهدداً: فانصرفوا إلى صاحبكم، فقولوا له: ينصرف، فإني قد عرفت حرصه وقلة أصحابه، وإلا بعثت عليكم من يهلككم ويهلكه، فرد عليه هبيرة في شجاعة المؤمن وعزته فقال له: كيف يكون قليل الأصحاب من أول خيله في بلادك، واخرها في منابت الزيتون؟! وكيف يكون حريصاً من خلَّف الدنيا قادراً عليها وغزاك؟! وأما تخويفك إيانا فإن لنا اجالاً إذا حضرت فأكرمها القتل، فلسنا نكرهه، ولا نخافه.
أعادت هذه المقالة ملك الصين إلى صوابه، وأيقن أنه أمام قوم لا يجدي معهم التهديد ولا الوعيد، فاعتدل في كلامه، وقال لهبيرة: فما الذي يرضي صاحبكم؟ قال: إنه قد حلف ألا ينصرف حتى يطأ أرضكم، ويختم ملوككم، ويُعطى الجزية، قال: فإنا نخرجه من يمينه، نبعث إليه بتراب من أرضنا فيطؤه، ونبعث ببعض أبنائنا فيختمهم، ونبعث إليه بجزية يرضاها، قال: فدعا بصحائف من ذهب فيها تراب، وبعث بحرير
وذهب وأربعة غلمان من أبناء ملوكهم، ثم أجازهم فأحسن جوائزهم، فساروا فقدموا بما بعث به، فقبل قتيبة الجزية، وختم الغلمان وردَّهم، ووطئ التراب .
وهكذا انتهت هذه المرحلة من فتوحات قتيبة، التي طوى فيها أقاليم ما وراء جيحون، ثم عبر نهر سيحون، وفتح فرغانة والشاش، وأشروسنة، وكاشغر، وفرض سيادة الإسلام على ملك الصين، وجعل كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا السفلى.
وكان قتيبة قائداً عسكرياً فذّاً، وبطلاً سياسياً بارعاً، قهر الصعاب وتغلب على كل المشاكل التي واجهته، ولم يثنه عن عزمه لا صعوبة الطرق ووعورتها، ولا قسوة المناخ وشدته، فقد كان عزمه حديداً، وكان هدفه رشيداً، وغايته عظيمة، والعون من الله مكفول للمخلصين لهذا الدين العظيم .

1 ـ جهود قتيبة في نشر الإسلام:

كان قتيبة ومن معه من الفاتحين يحرصون على دعوة الناس للإسلام، وإخراجهم من ظلمات الكفر إلى نور الإسلام، فكان قتيبة يهتم ببناء المساجد في المدن والقرى والأرياف ويضع فيها العلماء والفقهاء لتربية الناس وتعليمهم الإسلام وقام بتسكين المسلمين بين السكان الأصليين، ليطَّلعوا على تعاليم الإسلام وعادات المسلمين
وأخلاقهم عن طريق الاحتكاك بهم، مثل ما حدث مع أهل بخارى، فأظهر الإسلام بهذه الطريقة،
وأزال اثار الكفر ورسْم المجوسية، وبنى ببخارى المسجد الجامع وأمر المسلمين بأداء صلاة الجمعة فيه.
ومن أساليب قتيبة في ترغيب الناس في الدخول في الإسلام، كان يأمر بمنادٍ كل يوم يقول: بأن كل من يأتي لصلاة الجمعة يُعطى درهمين، ويعد هذا العمل طريقة جديدة في ذلك العهد في تأليف قلوب الناس للإسلام والحفاظ على الذين اعتنقوه، وكان في جيشه مجموعة من العلماء، كمحمد بن واسع، والقاضي يحيى بن يعمر، والضحاك بن مزاحم صاحب التفسير؛ فقد ساهم أمثال هؤلاء في نشر الإسلام، وكان محمد بن واسع ينافس قتيبة في بناء المساجد.
وقد صاحب عملية انتشار الإسلام بين سكان ما وراء النهر سرعة تعلمهم اللغة العربية، حيث كان قتيبة يصدر أوامره ببناء المساجد، ولم تكن تقتصر على إقامة شعائر الصلاة فقط، وإنما فيها حلقات الدرس في تعليم القران الكريم والأحاديث النبوية الشريفة، وكان للمسجد والعلماء الذين أشرفوا عليها دور عظيم في تعليم السكان اللغة العربية، وقد قال ابن كثير عن قتيبة: إنه ما انكسرت له راية، وكان من المجاهدين في سبيل الله، واجتمع له من العسكر ما لم يجتمع لغيره.
وكان من نتائج الجهود التي بذلها قتيبة في نشر الإسلام: أن أصبحت بخارى وسمرقند وإقليم خوارزم مراكز للثقافة العربية ونشر الإسلام في اسية الوسطى، كما كانت مرو ونيسابور في خراسان، ومنها أيضاً دخول كثير من أهل ما وراء النهر في دين الله أفواجاً، فظهر بينهم عدد من الكتاب والمحدثين والفقهاء والمؤرخين، ممن لا يزال ذكرهم خالداً، واثارهم عظيمة في تاريخ الإسلام .
2 ـ من حكـم قتيبـة وأقـوالـه المـأثورة:
قوله: ملاك الأكثر في السلطان الشدة على المذنب واللين للمحسن، وكان يقول: الخطأ مع الجماعة خير من الصواب مع الفرقة، وإن كانت الجماعة لا تخطأى والفرقة لا تصيب وخاطب قتيبة الحجاج حين ظفر بأصحاب ابن الأشعث فأراد قتلهم: إن الله قد أعطاك ما تحب من الظفر، فأعطه ما يحب من العفو . وقال: الكامل المروءة من أحرز دينه، ووصل رحمه، وتوقَّى ما يُلام عليه .

3 ـ مدح الشعراء له:

قال نهار بن توسعة يذكر انتصار قتيبة على الأتراك:

اللهُ في الأتراكِ حكماً
قضاءٌ من قتيبةَ غيرُ جَوْرٍ


كحُكْمٍ في قُرَيظَةَ والنَّفِيرِ
به يشفي الغليلَ من الصدورِ

وقال كعب الأشقري يمدح قيادة قتيبة:

كلُّ يومٍ يخوي قتيبـةُ نهبـاً
باهليٌّ قد ألبسَ التَّـاج حتَّى
دوّخ (السُّغدَ) بالكتائِبِ حتَّى
فوليـدٌ يبكي لفقـدِ أبيـه
كلَّما حـلّ بلدةً أو أتـاها


ويزيدُ الأموالَ مالاً جديدا
شابَ منه مفارقٌ كنَّ سُودا
ترك (الصُّغد) بالعراء قُعودا
وأبٌ موجعٌ يبكي الوليدا
تركتْ خيلُه بها أُخْدودا


ونهار بن توسعة هو القائل:

أبي الإسلامُ لا أبَ لي سواهُ


إذا هَتَفُوا ببكرٍ أو تميمِ

4 ـ مقتل قتيبـة ونهـايتـه (96 هـ):

انتهت حياة هـذا المجاهد الكبيـر نهايـة حزينة أليمة، فقد مات الخليفة الوليد، وتولى أخوه سليمان بن عبد الملك (96 ـ 99 هـ)، وكانت العلاقة بين سليمان والحجاج ورجاله ـ ومنهم قتيبة ـ غير حسنة، قيل: لأنهم كانوا وافقوا الوليد على خلع أخيه سليمان، وتولية ابنه عبد العزيز بن الوليد، فخشي قتيبة أن يعزله سليمان، فأرسل إليه رسائل يعزيه في الوليد ويهنئه بالخلافة، ويختبر نواياه نحوه، لكن سليمان لم يعزله، بل أرسل له عهداً بولاية خراسانمع رسول خاص من عنده تكريماً له، ولكن قتيبة تعجل وخلع طاعة سليمان قبل وصول ذلك العهد، فغضب الناس واستنكروا خلع سليمان، وثار الجند على قتيبة فقتلوه.
يقول الذهبي: ولما بلغه موت الوليد، نزع الطاعة، فاختلف عليه جيشه، وقام عليه رئيس تميم وكيع بن حسَّان، وألَّب عليه، ثم شَدَّ عليه في عشرة في فرسان تميم فقتلوه في ذي الحجة سنة ستٍّ وتسعين، وعاش ثمانياً وأربعين سنة ، وقال ابن كثير في سبب مقتل قتيبة بن مسلم: وذلك أنَّه جمع الجند والجيوش، وعزم على خلع سليمان وترك طاعته، وذكر لهم همّته وفتوحه وعدله فيهم ودفعه الأموال الجزيلة إليهم، فلما فرغ من مقالته، لم يجبه أحد منهم إلى مقالته، فشرع في تأنيبهم وذمِّهم قبيلة قبيلة وطائفة طائفة، فغضبوا عند ذلك ونفروا عنه وتفرَّقوا، وعملوا على مخالفته، وسعوا في مقتله، وكان القائم بأعباء ذلك رجل يقال له: وكيع بن أبي سُود، فجمع له جموعاً كثيرة، ثم ناهضه فلم يزل به حتى قتله في ذى الحجة من هذه السنة، وقتل معه أحد عشر رجلاً من إخوته وأبناء إخوتـه، ولم يبق سوى ضرار بن مسلم، وكانت أُمُّه الغراء بنت ضرار بن القعقاع بن معبد بن سعد بن زُرارة، فحمته أخواله، وعمرو بن مسلم، وكان عامل الجوزجان، وقتل قتيبة وعبد الرحمن وعبد الله وعبيد الله وصالح، وبشار، وهؤلاء أبناء مسلم، وأربعة من أبنائهم، قتلهم كلهم وكيع بن سُود .
وقد كان قتيبة بن مسلم من سادات الأمراء وخيارهم، وكان من القادة النجباء الكبراء، والشجعان وذوي الحروب والفتوحات السعيدة والآراء الحميدة، وقد هدى الله على يديه خلقاً لا يُحصيهم إلا الله، فأسلموا ودانوا لله عز وجل، وفتح من البلاد والأقاليم الكبار والمدن العظام شيئاً كثيراً، كما تقدم ذلك مفصَّلاً مبيَّناً، والله سبحانه لا يضيِّعُ سعيه ولا يخيِّبُ تعبه وجهاده، ولكن زلَّ زلة كان فيها حتفه، وفعل فعلة رغم فيها أنفه، وخلع الطاعة فبادرت إليه المنية، وفارق الجماعة، فمات ميتة جاهلية، لكن سبق له من الأعمال الصالحة ما قد يكفِّرُ الله بها عنه من سيئاته، ويمحو عنه من خطيئاتِه، والله يسامحه ويعفو عنه، ويتقبَّلُ منه ما كان يكابده من مُناجزة الأعداء.

5 ـ بين قتيبة بن مسلم ومحمد بن واسع: أصبعه أحب إلى قتيبة من ألف سيف شهير:

لما صافَّ قتيبة بـن مسلم للترك، وهالـه أمرهم، سـأل عن محمـد بن واسع، فقيل: هو ذاك فـي الميمنـة جامح على قوسـه، يبصبص بأصبعـه نحو السماء. قـال:
تلك الأصبع أحب إليّ من مئة ألف سيف شهير وشاب طرير .
وهذا فهم راسخ من قتيبة بن مسلم الباهلي لأسباب النصر، ألا وهو التوكل على الله تعالى، وتوثيق الصلة به واستلهام النصر منه، ولقد عبأ جيشه وتأكد من حسن إعداده، ولكنه بحاجة إلى التأكد مما هو أهم من الإعداد المادي؛ حيث يتجاوز المسلمون بالسلاح المعنوي حدود التكافؤ المادي في القُوَى بمراحل عديدة، ولما كان محمد بن واسع في جيشه سارع إلى السؤال عنه، فلما أخبر بأنه مستغرق في مناجاة الله تعالى ودعائه؛ اطمأن قلبه وارتفع مستوى الأمل بالنصر عنده، قال تلك الكلمات الإيمانية الرفيعة: تلك الأصبع أحب إليَّ من مئة ألف سيف شهير وشاب طرير.
إن قوى الأرض كلها بيد الله تعالى، وإن النظر إلى القوى المادية من حيث العدد والعُدد والمواقع، إنما هو حسابات البشر، والله جل جلاله قادر على تغيير هذه الموازين في لحظة، وإن من أهم استجلاب نصر الله تعالى دعاء الصالحين، فلذلك استبشر قتيبة خيراً حينما علم باستغراق محمد بن واسع في الدعاء.
وهذا الفهم الرفيع من قتيبة رحمه الله يبين لنا سبباً مهمّاً من أسباب انتصاراته الباهرة، التي ظلت تتوالى أكثر من عشر سنوات، فبالرغم من كونه بطلاً لا يُشَقُّ له غبار، وقائداً مخططاً يضع للأمور أقرانها، وسياسياً محنكاً لا يُخدع، فإنه لم يغتر بكل ذلك، بل اعتبر ذلك كله من الأمور الثانوية، ونظر قبل ذلك إلى مدى توثيق الحبل الذي يصل جيشه بالله تعالى، فلما عرف بأن محمد بن واسع قد وصل ذلك الحبل بالدعاء، وبما سبق ذلك من شهرته بالإيمان القوي والعمل الصالح؛ حصل له اليقين، وزال عنه سبب من أسباب الخوف المتمثل بضعف الصلة بالله تعالى.
إن محمد بن واسع رحمه الله تعالى معدود من العلماء الربانيين المشهورين بالزهد والورع والخشوع، وهو مدرسة في معالجة أمراض النفوس وتطهير القلوب، ومن أقواله النيِّرة في الزهد والورع واليقين: إني لأغبط رجلاً معه دينه وما معه من الدنيا شيء وهو راضٍ .
وإذا كان محمد بن واسع يغبط أهل الدين المجردين من الدنيا؛ فما أكثر من يغبطون أصحاب الأموال، وما أبعد الفرق بين السابقين بالخيرات والمقصِّرين. وقيل: إنه قال لرجل: هل أبكاك قط سابق علم الله فيك؟ ؛ يعني: أن المقربين مع ما يقومون به من الورع والعمل الصالح يخشون من سابق قدر الله فيهم، حيث يخافون من سوء الخاتمة، فإن القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن جل جلاله يقلبها كيف يشاء، وقيل له: كيف أصبحت؟ قال: قريباً أجلي، بعيداً أملي، سيِّئاً عملي . وهذا من عمق الإدراك وقوة تصور ما بعد الموت.
وإذا كان محمد بن واسع الذي قيل عنه: إنه أفضل أهل البصرة في زمنه يتهم نفسه بطول الأمل وسوء العمل، فكيف بحال المقصرين أمثالي ؟!
وذات يوم قال رجل لمحمد بن واسع: أوصني، قال: أوصيك أن تكون ملكاً في الدنيا والآخرة، قال: كيف؟ قال: ازهد في الدنيا . وهذه وصية نافعة من طبيب ماهر في طب القلوب؛ فهذا الرجل يطلب الوصية من محمد بن واسع فيوصيه بأعلى مرتبة تطمح لها النفوس عادة، وهي أن يكون ملكاً في الدنيا والآخرة، فيتعجب الرجل لأنه لم يرد الدنيا حينما طلب منه الوصية، ثم كيف يجمع بين الأمرين، فيكون ملكاً في الدنيا والآخرة ؟! فلذلك استفهم منه استفهام تعجُّب، فكان جواب ابن واسع له: ازهد في الدنيا .
ومن كلامه التربويّ العميق قوله: ما اسى على الدنيا إلا على ثلاث: صاحب إذا اعوججت قوَّمني، وصلاة في جماعة يُحمَل عني سهوُها وأفوز بفضلها، وقوت من الدنيا ليس لأحد منه فيه منّة ولا لله عليَّ فيه تَبِعة . فهذا العالم الرباني كان من ضمن جنود الفاتحين الذين نفع الله بهم شعوب المشرق، كأهل بخارى وسمرقند وخراسان وغيرها.

6 ـ المشرق بعد مقتل قتيبة بن مسلم:

لم تحدث فتوحات إسلامية فيما تبقى في عهد الدولة الأموية في هذه الجهات بعد فتوحات قتيبة، وتوقفه عند كاشغر على حدود الصين، ذلك لأن الظروف التي مرت بها الدولة الأموية منذ هذا التاريخ، وحتى سقوطها سنه 132 هـ لم تكن تسمح بذلك؛ فقد انشغلت بالثورات التي بدأت تهب في وجهها من جديد؛ مثل: ثورات الخوارج وثورة يزيد بن المهلب في عهد يزيد بن عبد الملك (101 ـ 105 هـ) كما أن الخلافات نشبت من جديد بين العرب في خراسان.
وفي هذا الجو بدأت الدعوة السرية للرضا من ال محمد؛ وهي الدعوة التي كان يوجهها العباسيون لمصلحتهم بكتمان ومقدرة رائعة، والتي نجحت في النهاية في الإطاحة بالدولة الأموية.
كما أن التناحر والتنافس والنزاع قد احتدم بين أبناء البيت الأموي أنفسهم، وأصبحوا يقاتل بعضهم البعض، مما أضعف هيبة الدولة في عيون الناس، كما أن هذه البلاد نفسها التي فتحها قتيبة لم تكفَّ عن التمرد والثورة ونقض العهود، فأصبح جهد الخلفاء والولاة منصبّاً بعد مرحلة قتيبة على إخضاع الثائرين والمتمردين وردِّهم إلى الطاعة والنظام، وقد نجحت الدولة الأموية في ذلك، فهي وإن كانت لم تضف جديداً إلى فتوحات قتيبة في هذا الجزء من العالم، إلا أنها لم تتراجع ولم تخسر أرضاً، واحتفظت بمواقعها، ونهض الولاة في هذه المناطق بمسؤولياتهم، وهيؤوها لقبول الإسلام، وجعلها جزءاً لا يتجزأ من العالم الإسلامي .
يمكنكم تحميل كتاب الدولة الأموية عوامل الإزدهار وتداعيات الإنهيار
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي:
الجزء الأول:
http://alsallabi.com/uploads/file/doc/BookC9(1).pdf
الجزء الثاني:
http://alsallabi.com/uploads/file/doc/BookC139.pdf
كما يمكنكم الإطلاع على كتب ومقالات الدكتور علي محمد الصلابي من خلال الموقع التالي:
http://alsallabi.com 

 


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022