(رجال القضاء في دولة نور الدين)
من كتاب عصر الدولة الزنكية ونجاح المشروع الإسلامي بقيادة نور الدين الشهيد في مقاومة التغلغل الباطني والغزو الصليبي
الحلقة: 114
بقلم: د.علي محمد الصلابي
شعبان 1444ه/ مارس 2023م
اعتمد نور الدين في أجهزته القضائية رجالاً ثقاتاً، عرف كيف ينتقيهم، بعد أن رأى فيهم من الفقه الواسع، والتقوى العميقة ما يؤهلهم لتسلم منصب القضاء الذي تربع في عهده ـ كما رأينا ـ قمة مؤسسات الدولة، وحظي باستقلال تام، وأصبح حكمه هو الحكم الملزم للجميع، بما فيهم السلطان نفسه، وكبار أمرائه، ويبرز من بين حشد كبير من القضاة آل الشهرزوري، وعلى رأسهم كمال الدين أبو الفضل محمد بن الشهرزوري، أولئك الذين كانوا قد تخصصوا منذ عهد عماد الدين زنكي في القضاء، وما قبله، وبرعوا فيها(1).
أ ـ القاضي كمال الدين الشهرزوري: حدث في مطلع عام 555هـ/1160م أن تقدم قاضي دمشق، زكي الدين أبو الحسن علي بن القرشي، برقعة إلى نور الدين يطلب فيها إعفاءه من القضاء، فأجابه إلى طلبه، وولى قضاء دمشق القاضي الإمام كمال الدين بن الشهرزوري، وهو كما يصفه ابن القلانسي المعاصر له: «المشهور بالتقدم، ووفور العلم، وصفاء الفهم، والمعرفة بقوانين الأحكام، وشروط استعمال الإنصاف والعدل، والنزاهة، وتجنب الهوى والظلم، وحكم بين الرعايا بأحسن أفعال في حالة غيابه، أو اشتغاله بمهمة ما، فإن ولده محيي الدين ينوب عنه في منصبه(2)».
كان كمال الدين قد ولد عام 491هـ /1097م، وتفقَّه ببغداد، وسمع الحديث من كبار المحدثين(3) وقد تخرَّج من النظامية(4)، وكان يتردد إلى بغداد، وخراسان رسولاً من عماد الدين زنكي، ثم ما لبت أن وفد على نور الدين(5)، وأصبح بعد أقل من عامين (557هـ 1161م) قاضياً لقضاة الدولة كلها، وأمر نور الدين القضاة ببلاده أن يكتبوا الكتب نيابة عنه، وهناك من يقول أن زكي الدين قاضي دمشق لم يتقدم بالإعفاء عام 555هـ / 1160م وإنما أعفاه نور الدين بسبب امتناعه عن أن يكون أحد نواب كمال الدين، ومهما يكن من أمر؛ فإن كمال الدين، تمكّن من منصبه، وأصبح في دمشق كما يقول العماد: الحاكم المطلق(6). وأصبحت دولته نافذة الأوامر، منتظمة الأمور(7).
وورد عنه كذلك: أنه ارتقى إلى درجة الوزارة، فكان له الحل، والعقد في أحكام الشام(8). وكان له من صفاته الشخصية، وسياسته القائمة على البر وحفظ الأصدقاء(9)، ومن ثقافته الواسعة وخبرته الفقهية والقضائية والسياسية، خير معين على مواصلة الطريق حتى النهاية، ولم يكتفِ كمال الدين بمهامه القضائية، بل كان يملك نزعة متأصلة للبناء والإعمار، فأشرف بنفسه على بناء أسوار دمشق، ومدارسها، ومارستاناتها(10). وقد فوَّضه نور الدين مهمة الإشراف على دار الضرب، وأوقاف الدولة، وتوجيه مصارفها لبناء الأسوار، وحفظ الثغور، فأنجز مهمته على خير وجه(11). كما أولى عنايةً خاصة بإعمار الجامع الأموي بدمشق، والإنفاق عليه بسخاء(12). وزاد نور الدين على ذلك كله، فاعتمده مبعوثاً إلى الخليفة العباسي في بغداد(13)، كما اعتمد ابنه محيي الدين نائباً عنه في قضاء حلب، والبلدان التابعة لها، فضلاً عن النظر في أمور ديوانها، وكان محيي الدين هذا ـ كما يصفه العماد ـ: «من أهل الفضل، وله نظم، ونثر، وخطب، وكانت معرفته بالفقه في أيام التفقه في بغداد في المدرسة النظامية منذ سنة 535هـ 1140م(14)، كما اعتمد في حماه وحمص قضاة اخرين من بني الشهرزوري أنفسهم(15). وعندما دخل الموصل عام 566هـ 1170م أقرَّ على قضائها حجة الدين بن نجم الدين الشهرزوري»(16).
ب ـ الشيخ شرف الدين أبو سعد بن أبي عصرون: تولى قضاء سنجار، ونصيبين، وحرَّان، وغيرها من مدن ديار بكر، وأصبح هناك أشبه بقاضي القضاة، ينوب عنه في سائر المدن نُوَّاب أشرفَ على تعيينهم بنفسه(17)، فقد ولد بالموصل سنة 492هـ أو 493هـ 1099م، وتفقَّه على جماعة من العلماء، وانتقل إلى حلب سنة 545هـ 1150م، ثم قدم دمشق لدى دخول نور الدين إليها عام 549هـ 1154م ودرَّس في جامع دمشق، وتولى أوقاف المساجد، ثم رجع إلى حلب، وأقام بها، وصنَّفَ كُتُباً كثيرةً في الفقه، والمذاهب، ودَرَسَ على يديه عددٌ كبيرٌ من التلاميذ وانتفعوا به، وكان فقيهاً من الطراز الأوَّل، ووصف بأنه من أفقه أهل عصره، وأنه إمام أصحاب الشافعي يومذاك، وكان متوحِّداً في العلم والعمل، وسرعان ما تقدم عند نور الدين، فكلفه بالإِشراف على بناء المدارس في حلب، وحمص، وبعلبك، وغيرها، ثم ما لبث أن ولاَّه قضاء ديار بكر ومنحه ـ كما سبق وأن ذكرنا ـ صلاحيات واسعة(18). كما اعتمده عام 566هـ 1170 رسولاً إلى الخليفة المستضيء في بغداد(19). وقد توفي عام 585 هـ 1189م(20).
مراجع الحلقة الرابعة عشر بعد المائة:
(1) نور الدين محمود الرجل والتجربة ص 82.
(2) المصدر نفسه ص 82.
(3) المصدر نفسه ص 83.
(4) التاريخ السياسي والفكري للمذهب السني ص 222.
(5) قضاة دمشق ص 47 ـ 48.
(6) البرق ص 222 نور الدين محمود الرجل والتجربة ص 83.
(7) نور الدين محمود الرجل والتجربة ص 83.
(8) الخريد قسم الشام ص 246 نور الدين محمود الرجل والتجربة ص 83.
(9) البرق ص 222 ـ 224.
(10) نور الدين محمود الرجل والتجربة ص 83.
(11) البرق ص 146 ـ 147.
(12) البداية والنهاية نقلاً عن نور الدين محمود ص 84.
(13) الكامل في التاريخ نقلاً عن نور الدين محمود ص 84.
(14) كتاب الروضتين نقلاً عن نور الدين محمود ص 84.
(15) قضاة دمشق ص 47 ـ 48 نور الدين محمود ص 84.
(16) البرق ص 97 نور الدين محمود ص 84.
(17) البرق ص 100.
(18) وفيات الأعيان (3 / 53 ـ 56).
(19) مراة الزمان (8 / 283).
(20) نور الدين محمود الرجل والتجربة ص 85.
يمكنكم تحميل كتاب عصر الدولة الزنكية ونجاح المشروع الإسلامي بقيادة نور الدين الشهيد في مقاومة التغلغل الباطني والغزو الصليبي
من الموقع الرسمي للدكتور علي الصَّلابي