تمكين الله تعالى لموسى (عليه السلام)
مختارات من كتاب (فقه النصر والتمكين)
بقلم: د. علي محمد الصلابي
الحلقة: الثانية عشر
لقد تطاول فرعون وعلا وأسرف في الأرض وأذل بنى إسرائيل، فقتل الأولاد واستحيا النساء ظلمًا وعلوًا واستكبارًا في الأرض، وأراد الله بحكمته ومشيئته وقدرته أن يمن على بنى إسرائيل ويجعلهم ملوكًا وولاة ويجعلهم يرثون الأرض من بعد فرعون، ويمكن لهم بعد الذل والصغار، وينتقم من فرعون وهامان وجنودهما ويريهم ما كانوا يخافون من زوال ملكهم على رجل من بنى إسرائيل (1)، قال تعالى: (وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً
وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ ` وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرونَ) [القصص: 5، 6].
وقال الإمام ابن كثير في تفسيره: (لقد سلط على بنى إسرائيل هذا الملك الجبار العتيد (فرعون) يستعملهم في أخس الأعمال، ويكدهم ليلاً ونهارًا في أشغال رعيته ويقتل مع هذا أبناءهم ويستحيى نساءهم إهانة لهم واحتقارًا لهم، وخوفًا من أن يوجد منهم الغلام الذي كان قد تخوف هو وأهل مملكته منه يكون سبب هلاكه وذهاب دولته على يديه، وكانت القبط قد تلقوا هذا من بنى إسرائيل فيما كانوا يدرسونه من قول إبراهيم الخليل عليه السلام حين ورد الديار المصرية وجرى له مع جبارها ما جرى حين أخذ سارة ليتخدها جارية فصانها الله منه ومنعه منها بقدرته وسلطانه، فبشر إبراهيم عليه السلام ولده أنه سيولد من صلبه وذريته من يكون هلاك مصر على يديه، فكانت القبط تحدث بهذا عند فرعون فاحترز فرعون من ذلك وأمر بقتل ذكور بنى إسرائيل، ولن ينفع حذر من قدر، لأن أجل الله إذا جاء لا يؤخر ولكل أجل كتاب.
أراد فرعون بحوله وقوته أن ينجو من موسى فما نفعه من ذلك مع قدرة الملك العظيم الذي لا يخالف أمره القدري ولا يغلب، بل نفذ حكمه وجرى قلمه في القدم بأن يكون هلاك فرعون على يديه، بل يكون هذا الغلام الذي احترزت من وجوده وقتلت بسببه ألوفًا من الولدان إنما منشؤه ومرباه فراشك وفي دارك، وغذاؤه من طعامك وأنت تربيه وتدللـه، وحتفك وهلاكك وهلاك جنودك على يديه، لتعلم أن رب السموات العلا هو القاهر الغالب العظيم القوي العزيز الشديد المحال الذي ما شاء كان وما لم
يشأ لم يكن) (2).
وقال البيقاعى رحمه الله: (ونمكن أي نوقع التمكين لهم في الأرض أي كلها لا سيما أرض مصر والشام، بإهلاك أعدائهم وتأييدهم بكليم الله، ثم الأنبياء من بعده عليهم الصلاة والسلام بحيث سلطهم بسببهم على من سواهم بما يؤيدهم به من الملائكة وتظهر لهم من الخوارق، ولما ذكر التمكين، ذكر أنه مع مغالبة الجبابرة إعلامًا بأنه أضخم تمكين) (3).
وقال الشيخ محمد الأمين في تفسيره لهذه الآية، قوله تعالى: (وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا) [القصص: 5]، هو الكلمة في قوله تعالى: (وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ) [الأعراف: 137]، ولم يبين هنا السبب الذي جعلهم به أئمة جمع إمام، أي قادة في الخير دعاة إليه على أظهر القولين، ولم يبين هنا أيضًا الشيء الذي جعلهم وارثيه، ولكنه بين جميع ذلك في غير هذا الموضع، فبين السبب الذي جعلهم به أئمة في قوله تعالى: (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ) [السجدة: 24]، فالصبر واليقين، هما السبب في ذلك، وبين الشيء الذي جعلهم له وارثين: (فَأَخْرَجْنَاهُم مِّن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ` وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ ` كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ) [الشعراء: 57- 59] (4).
قال محمد الطاهر بن عاشور رحمه الله: (إن الله وصف فرعون وصفًا دلّ على شدة تمكين الإفساد من خلقه (إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) [القصص: 4] فحصل تأكيد لمعنى تمكن الإفساد من فرعون، لأن فعله هذا اشتمل على مفاسد عظيمة:
المفسدة الأولى:
التكبر والتجبر فإنه مفسدة نفسية عظيمة تتولد منها مفاسد جمّة من احتقار الناس والاستخفاف بحقوقهم وسوء معاشرتهم وبث عداوته فيهم، وخصوصًا إذا كان حاكمًا أو وليًا فيعامل الناس بالغلظة، وفي ذلك بث الرعب في نفوسهم من بطشه وجبروته، فهذه الصفة هي أم المفاسد وجماعها.
المفسدة الثانية:
جعل شعبه شيعًا قرب بعضهم وأبعد بعضهم، وتولدت بينهم مفاسد عظيمة من الحقد والحسد والوشاية والنميمة.
المفسدة الثالثة:
جعل طائفة من أهل مملكته في ذل وصغار واحتقار، عذبهم ونكل بهم ومنعهم من حقوقهم وجعلهم عبيدًا للطائفة المقربة لديه.
المفسدة الرابعة:
اجتهد في قتل أطفال الطائفة المعذبة من الذكور حتى لا يكون لبنى إسرائيل قوة من رجال قبيلتهم وحتى يكون النفوذ في الأرض لقومه خاصة.
المفسدة الخامسة:
كان يستحيي النساء أي يستبقى على حياة الإناث من الأطفال حتى يصبحن بغايا إذ ليس لهن أزواج. (وكان قوم فرعون يحتقرونهن ويأنفون أن يتزوجوا بهن ولم يبق لهن حظ من رجال القوم إلا قضاء الشهوة، فانقلب استحياء البنات إلى مفسدة عظيمة تصل إلى منزلة تذبيح الأبناء) (5).
-------------------------------------------
مراجع الحلقة الثانية عشر:
(1) انظر: تفسير الطبري (11/28، 29).
(2) انظر: تفسير ابن كثير (3/392).
(3) تفسير البيقاعي (5/464، 465).
(4) انظر: أضواء البيان (6/451).
(5) التحرير والتنوير (20/68-70).
يمكنكم تحميل فقه النصر والتمكين
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمد الصلابي