من وجوه الجاهلية المعاصرة الشهوانية المادية
بقلم: د. علي محمد الصلابي
اختلفت الجاهليات طرائق قدداً في حياتهم العملية، كما اختلفت في عقائدها، فجاءت قيمها وأخلاقها العملية وشرائعها، وعاداتها صوراً منكرة ناكبة عن الحق، تسحق الإنسان وتشقيه، ونحتاج إلى كتب لو أردنا إعطاء صورة وافية عنها في هذا الباب، من أبرز وجوه وأشكال هذه الجاهلية:
الشهوانية المادية:
هذا أول الأشكال التي تغطي بها الجاهلية الحياة العملية نتيجة لتولي الإنسان وضع القوانين والأحكام، وصياغة القيم والأخلاق لنفسه بنفسه بعيداً عن الضوابط الإلهية الهادية. إنَّ الدستور الرباني قد راعى بحكمة عالية قوى الإنسان الروحية والمادية، فأحل له الطيبات، وحرم عليه الخبائث، ومنحه أو منعه على علمٍ شامل بفطرة الإنسان وخصائصه.
والإنسان حين استخلفه الله في الأرض ركب فيه غرائز وقوى لا تصلح حياته إلا بها، ووازنها في نفس الوقت بتعاليمه الهادية حتى لا تخرج بالإنسان عن المجرى السليم فتدمره، وبذلك يتعدل (الشرع) مع (الطبع) ليحققا للإنسان أطيب حياة على الأرض، وليقوداه إلى سعادة الآخرة.
ولكن الإنسان لما أعرض عن أمر ربه؛ أبقى الطبع وأضاع الشرع، واستبدل به شرائع وضعيَّـةٍ قاصرة وناقصة، فانهارت الموازنة الفذة لعجز هذه الشرائع عن معادلة الطبع الإنساني، أو التعامل معه على أسس سليمة، وهذا ما حدث في جاهلية الإنسان التي صنعها بنفسه.
فحينما وَجَدَ الإنسان نفسه تتأجج برغبات هائلة من حب التملك والسيطرة والاستعلاء، والاستمتاع بضروب اللذائذ من طعام وشراب ورياش ونساء ... إلخ مضى بكل قوته ليحقق رغباته، وقام حينئذ المنهاج الإلهي بأصوله وفروعه ليكون دليله الهادي وميزانه القيم فاعتدل الميزان.
ثم حين أعطته مناهج الجاهلية بدائلها المظلمة؛ تلاشت روابط الطبع وسلامة الفطرة فلم يعد يؤمن في ظلام الجاهلية بالخالق الأعلى، ولا الجزاء الأخروي، ولا مسؤوليته التكليفية السامية... إلخ.
وبذلك ضعفت ونقصت بواعث الخير والفضائل في نفس الإنسان، وانطلقت كل قوى الشر لا تلوي على شيء، تثير الغرائز، وتفجر الشهوات الجامحة، وتكتسح كل عائق في طريقها، وتجعله خادماً لها، ليحقق للشهوات أقصى غايتها بأقل قدر من التصادم بين الرغبات المتلاطمة، التي لا تملُّ في طلب المزيد والتجديد، حتى تصبح الحياة الإنسانية صورة مشينة موغلة في بهيمة شهوانية، تنخرط بالإنسان في سلك القردة والخنازير، بل من المؤكد أن من الحيوانات من يترفع بفطرته عن مسالك كثير من المجتمعات في ظلٍّ الجاهليات النكداء، التي تطبعها بخصائصها. (الوسطية، د. علي الصلابي، ص441)
وقد أجاد الأستاذ أبو الأعلى المودودي (رحمه الله) في وصفها، فقال: (إن المجتمع الذي يتكون من هؤلاء يكون من خصائصه اللازمة:
1 ـ أن ينهض بنيان السياسة على قواعد (الحاكمية البشرية) سواء كانت حاكمية فرد، أو أسرة، أو طبقة، أو حاكمية الجمهور... والقوانين كلها توضع، وتغير حسب الرغبات والمصالح، وكذلك الخطط السياسية، فلا يعلو شأن في المملكة إلا لكل من بلغ الغاية في الدَّهاء والمكر واختلاق الأكاذيب... إلخ.
2 ـ أن يقوم نظام العمران والحياة الاجتماعية بجملته على أساس حب الذات وتعبد الشهوات، وتقام المقاييس الخلقية من جديد بحيث لا تحول دون التمتع باللذات. (أبو الأعلى المودودي فكره ودعوته، د. سمير إبراهيم (8 - 9).
3 ـ كذلك تتأثر الآداب والفنون بهذه العقلية، وتصطبغ بصبغتها وتزداد فيها عناصر الفحشاء، والخلاعة كل يوم. (الإسلام والجاهلية، أبو علي المودودي، ص20)
وعلى هذه النظرة وهذه القواعد قامت مجتمعات الجاهلية في كل مكان، كاليونان، والرومان قديماً، وكالحضارة الأوروبية المعاصرة التي تمثلها أصدق تمثيل، وتزيد عليها بما اخترعته من أساليب في تأصيل مناهجها الضالة.
ونكتفي بضرب مثال واحد وهو نتيجة حتمية لكل الجاهليات في التاريخ، وخلاصته: أن برلمان ألمانيا الغربية بتاريخ (9/ 6/ 1973م) وافق بأغلبية 254 صوتاً ضدَّ 203 على مشروع قانون الحكومة بإجراء تعديلات خطيرة في القوانين المتعلقة بالجنس، وفي مقدمتها:
1 ـ رفع الحظر عن تبادل الزوجات.
2 ـ إباحة ممارسة الشذوذ الجنسي بين الرجال بموافقة الطرفين من سن 21 سنة.
3 ـ السماح ببيع مطبوعات الجنس الفاضحة لأيٍّ مواطن جاوز 18 سنة.
وهذه مرحلة لن تقف عندها الحيوانية المادية، بل لابـدَّ أن تطلب مزيداً من الانحلال، ثم تلتمس له ـ بحجة الأمر الواقع ـ حماية التشريعات والحكومات، وقد حدث هذا بالفعل في كثير من المجتمعات الغربية؛ حتى أصبح إلفاً وعرفاً يستغنى بشيوعه عن تشريعه، بل أصبح مذهباً في الحياة، ومنهجاً للقيم تصنف على أساسه المجتمعات، ويوصم بالجمود والرجعية من لم يعتنقه فكراً وعملاً، وأدهى من ذلك أن أساقفة الكنيسة الإنجليزية كانوا على رأس مؤيدي القوانين التي تبيح الشذوذ الجنسي بين الرجال (اللواط)؛ مخالفين بذلك دينهم، بل كلَّ خُلُقٍ إنساني شريف. (المنهاج القرآني في التشريع، د. عبد الستار سعد، ص164 – 165).
المراجع:
• الوسطية في القرآن الكريم، د. علي محمد الصلابي، مكتبة الصحابة – الشارقة، 1422هـ - 2001م.
• المنهاج القرآني في التشريع، د. عبد الستار فتح الله سعد، مطابع دار الطباعة الإسلامية، الطبعة الأولى، 1413 هـ/ 1992م.
• الإسلام والجاهلية، أبو علي المودودي، مؤسسة الرسالة – بيروت، 1402هـ - 1982م.