القرآن الكريم معجزةُ الرسول صلى الله عليه وسلم الكبرى
الحلقة: الثامنة والثلاثون
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
ذي الحجة 1441 ه/ يوليو 2020
إن تلك الايات المعجزة والعجائبَ الخارقة للعادة على كثرتها وتنوعها وصحّة وقوع حوادثها ، لم يقع بها التحدّي العام لإثبات دعوى الرسالة كما وقع بالقران الكريم ، فقد كانت معجزته صلى الله عليه وسلم الكبرى التي وقع بها التحدّي ، وبقيت على مرّ الزمان ، وخوطبت بها البشرية جمعاء ، هي القران الكريم ، وقد ورد في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما من الأنبياء نبيٌّ إلا أُعْطِيَ من الاياتِ ما مِثْلُهُ امَنَ عليه البَشَرُ ، وإنّما كانَ الذي أُوْتِيْتُهُ وحياً أَوْحَاهُ اللهُ إليَّ ، فأرجو أنْ أكونَ أكثرَهم تَبَعاً، يومَ القيامةِ»، فتحدى الله سبحانه وتعالى العربَ بأن يأتوا بمثل هذا القران.
قال تعالى: {قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتْ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا *} [الاسراء : 88].
وتنزَّل معهم في التحدّي ، وطلب منهم أن يأتوا بعشر سور مِنْ مثله: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ *} [هود : 13].
ولمّا عجزوا عن ذلك ، وظلّوا على عنادهم واستكبارهم ، زادهم تحدياً بأن يأتوا بسورة: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ *} [يونس : 38].
وقال تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ *فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ *} [البقرة : 23 ـ 24].
وظلَّ التحدي قائماً منذ ذلك الحين ، عجزَ عنه فصحاءُ العرب وبلغاؤهم وعجزتْ عنه البشريةُ كلُّها على مدى أربعة عشر قرناً من الزمان ، وإنهم لعاجزون حتى قيام الساعة ، فقد كان أولى الناس بالردّ على التحدي أولئك الذين كانت صناعتهم الفصاحة والبلاغة يتيهون بها على الناس.
ولقد كانت معجزاتُ الرسل كلهم مِنْ قبلُ معجزاتٍ حسيةً وكونيةً ، تتعلّق بالسنن الجارية في الكون وتخرقهَا ، فمعجزتا نوح وهود عليهما السلام كانتا حسيتان كونيتان ، ومعجزة صالح عليه السلام كانت ناقة عجيبة لم يعهد البشر لها مثيلاً.
وكذلك كانت معجزات موسى وعيسى عليهما السلام التي أشرنا إليهما انفاً ، أشياءَ خارقةً للسنن الكونية.
أما معجزة الرسول صلى الله عليه وسلم فهي معجزةٌ عقليةٌ معنوية جامعة ، وليست معجزةً حسية ولا كونية ، وإن كان للرسول صلى الله عليه وسلم معجزاتٌ أخرى حسية وكونية ، كالإسراء والمعراج ، وانشقاق القمر..إلخ ، ولكن المعجزة الكبرى التي وقع بها التحدّي ، والتي بقيت على الزمن وخوطبت بها البشرية كلها هي القران.
وإعجازُ القران الكريم ، لا يقتصرُ على ناحيةٍ معينةٍ ، ولكن يأتي من نواحٍ متعددة ، لفظية ، ومعنوية ، وروحية ، وعلمية ، وتشريعية ، وقد اتفقت كلمةُ العلماء ، كما يقول الشيخ خلاّف ، على أنّ القران لم يعجزِ الناسَ على أن يأتوا بمثله من ناحية واحدة معينة ، وإنّما أعجزهم من نواحٍ متعددة لفظية ومعنوية وروحية ، تساندتْ وتجمّعتْ ، فأعجزت الناسَ أن يعارضوه ، واتفقت كلمتهم أيضاً على أنّ العقول لم تصل حتى الان إلا إدراك نواحي الإعجاز كلّها ، وحصرها في وجوه معدودةٍ ، وأنّه كلّما زادَ تدبّر سننه أظهر مرُّ السنين عجائبَ الكائنات الحية وغير الحية ، وتجلّت نواحٍ من إعجاز ، وقام البرهانُ على أنه من عند الله.
1 ـ الإعجاز اللغوي:
قد بلغت بلاغةُ القران ، وجزالةُ ألفاظه؛ وروعةُ أساليبه ، وإحكامُ نظمه درجةً بهرت العرب ، وأدركوا أنَّ هذا الكلام الذي يسمعوه لا يشبه الشعر الذي يقرضونه ، ولا النثرَ الذي يتعاطونه ، وقد شهد بذلك الوليد بن المغيرة ، حينما بعثتْ به قريشٌ ليحاجَّ الرسول صلى الله عليه وسلم ، فعاد إليهم قائلاً: وماذا أقول؟ فواللهِ ما فيكُم رجلٌ أعلمُ بالشعر مني ، لا برجزِهِ ولا بقصيدِهِ ، ولا بأشعارِ الجنِّ ، والله ما يشبه هذا الذي يقولُ شيئاً من هذا ، واللهِ إنَّ لقوله لحلاوةٌ ، وإنَّ عليه لطلاوةٌ ، وإنّه لمثمِرٌ أعلاه ، مغدِقٌ أسفلُه ، وإنّه ليعلو وما يُعلى ، وإنّه ليَحْطِمُ ما تحته.
ويظهر هذا الإعجاز اللغوي في تنوّع أساليب القران في العرض وفقاً لتنوّع الموضوع النفسي المصاحبِ له ، فيشتدُّ أحياناً ، فيهزّ المشاعرَ والحواس ، كما في مواقف الوعيد والعذاب ، مثل قوله تعالى: {سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ *} [الحاقة : 30 ـ 32].
بينما يلين الخطابُ ، ويرقّ ، ويلطفُ في مواقف الرحمة والرفق والدعاء ، مثل قوله تعالى: {كهيعص *ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا *إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا *قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًا *وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا *يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا *} [مريم : 1 ـ 6].
كما يتميز بعرضه الحي للمشاهد والأحداث ، وقصص السابقين ، ومشاهد القيامة ، إذ تمتلءُى بالحركةِ وروعة التصوير التي ينفعلُ بها الإنسان ، وتهتزّ لها مشاعره.
وقد كتب كثير من العلماء قديماً وحديثاً ، في أوجه إعجاز القران من ناحية البلاغة والأسلوب ، كما حاول بعضُ العرب قديماً معارضة القران ، فجاء كلامهم ساقطاً مضحكاً ، جعلهم موضعَ سخريةٍ بين قومهم ، وأكد إعجاز القران ، فبضدِّها تتميزُ الأشياءُ.
2 ـ الإخبار عن أحوال الأمم السابقة:
قد وردَتْ في القران أخبارٌ عن أمم بادت ، وشعوب هلكت ، من أمثال: عاد ، وثمود ، وقوم لوط ، وقوم نوح ، وإبراهيم ، وقصة موسى وقومه ، وفرعون وملئه ، ومريم وولادتها المعجزة للمسيح ، إلى غير ذلك من الأخبار التي جاءت متوافقةً مع ما توصّل إليه الإنسان من اكتشافات تاريخية عن تلك الأمم ، ومتفقة مع ما صحَّ وكان معقولاً من الروايات التي وردت في كتب أهل الكتاب ، وقد ورد هذا كله من أمَّي لا يقرأ ولا يكتبُ ، ولم تكن بيئته بيئةَ علمٍ وكتابٍ ، ولم يجلسْ إلى معلّمٍ يتلقّى منه ، فكان ذلك دليلاً قوياً على أنَّ ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم هو وحيٌ من عند الله تعالى ، يقول الله سبحانه وتعالى: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لاَرْتَابَ الْمُبْطِلُونَ *} [العنكبوت : 48].
ولما تحيّر الجاحدون ، ولم يستطيعوا الطعنَ فيما أخبر به الوحي الإلهي، افتروا الكذب ، وادعوا أنّه يعلِّمه بشرٌ ، ولم يجدوا بمكة إلاّ فتًى رومياً لا يُحْسِنُ العربية ، ولا يعلمُ من الأخبار وقصص الأولين شيئاً ، ولهذا قال سبحانه: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ *} [النحل: 103].
3 ـ الإخبار عن أحداث غيبية أو مستقبلية:
من وجوه الإعجاز القراني إخباره عن أمور غيبية أو أحداث مستقبلية لم يتوقع حدوثه انذاك ، بل إنّ حدوثها بالصورة التي أخبر عنها القران كان مستبعداً ، لا تدل عليه القرائن والأحوال الظاهرة ، فجاءت كما قرر القران الكريم وأخبر ، ومن ذلك:
أ ـ إخباره بانهزام الفرس على يد الرومان ، بعد أن هزموا الرومان هزيمةً ساحقةً ، قال تعالى: {الم *غُلِبَتِ الرُّومُ *فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ *فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ *} [الروم : 1 ـ 4]
فوقع الأمر كما أخبر القران ، فهزم الرومُ الفرسَ ، مع أنَّ ضَعْفَ الدولة الرومانية انذاك يجعلُ مثل هذا النصرَ بعيداً.
ب ـ وقد وعد الله المؤمنين بالنصر في غزوة بدر الكبرى ، قال تعالى: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ *} [الانفال : 7] ، وقد تحقّق النصرُ الباهرُ مع قلة عددِ المسلمين وعُدْتهم.
ج ـ كما وعدَ سبحانه وتعالى المؤمنين بدخول المسجد الحرام: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لاَ تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا *} [الفتح : 27].
د ـ وقد تحقق وعد الله فتم للمسلمين دخول المسجد في فتح مكة ، وقد وعد الله المؤمنين أن يستخلفهم في الأرض ، كما استخلف الذين من قبلهم ، فقال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [النور : 55].
وقد تحقق وعد الله ، فاستولى المسلمون في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم على كلِّ بلاد العرب ، ودانت جميعُها للمسلمين ، وتجاوزَ أصحابه حدودَ الجزيرة ، واستولوا على أرضِ فارس وما وراءها ، ومدّوا سلطانهم عليها ، وساروا إلى أرض الروم ، فاقتطعوا منها الشام كلّها ومصر.
هـ وأخيراً فقد تعهد الله سبحانه وتعالى بحفظ هذا القران من التحريف ، فقال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ *} [الحجر : 9]. وقد صدق هذا الخبرُ وتحقق ، فمازال القرانُ محفوظاً من التغيير والتبديل إلى يومنا هذا ، رغم تطاول الزمان ، وتقلّب الأحوال بالمسلمين ، وسيبقى كذلك بإذن الله تعالى إلى يوم القيامة.
4 ـ اتساق سور القران وتوافق اياته:
من أوجه الإعجاز القراني اتساق سوره ، وموافقة اياته بعضها بعضاً في أحكامها ومعانيها وأساليبها ، فالقران الكريم نزل منجّماً ، وأوحي بعضُه في مكة ، وبعضُه في المدينة ، وفي ظروف متباينة من ليل ونهار ، وسفر وحضر ، ولا نجدُ في جملةِ اياته ـ التي تتجاوز ستة الاف اية ، وسوره التي تبلغ مئة وأربعة عشرة سورة ـ ايةً
تختلِفُ عن أخرى في مستوى بلاغتها ، ولا تعارِضُ ايةٌ منها ايةً أخرى فيما اشتملت عليه من معاني ، ولا سورة تتضمن من الأحكام والمعارف ما يتناقَضُ مع سورة أخرى ، الأمر الذي يدلُّ على أنَّ هذا القران ليس من وضع البشر ، الذي نرى ثمرات عقولهم ونتاج أفكارهم ، فنجد أنّه لا يخلو عمل من أعمالهم ، مهما حاولوا تلافي ذلك من نقص وقصور ، وتناقض وتعارض ، وفي هذا الوجه من وجوه الإعجاز القراني ورد قول الله سبحانه وتعالى: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا *} [النساء : 82].
5 ـ الإعجاز التشريعي:
تضمّن القران الكريم من التشريعات المنظمة للحياة الإنسانية في دوائرها الفردية والاجتماعية ، والبشرية العامة ، ما لم يكن معروفاً في الحضارات والثقافات ، والفلسفات السابقة جميعاً ، وجاء فيه من القيم الكبرى: أخلاقية وإنسانية ، وإجتماعية عامة ، ما لم يكنْ وارداً على العقول ، ولا جارياً على الخواطر ، ولا مأثوراً في واقع الناس ، ويكفي أن نشيرَ إلى بعض القيم المتعلّقة بتكريم الإنسان ، وتحريره من الاستبداد ، وتقرير حقوقه الإنسانية بقطع النظر عن جنسه ولونه ودينه ، وإعلان الوحدة الإنسانية العالمية ، وتنظيم الحياة الأسرية ، وضبط العلاقات الاجتماعية والدولية على أسس ثابتة من العدل ، وغير ذلك ممّا لم يكن معهوداً في عصر النزول القراني ، لا في البيئة المحلية ، ولا في البيئة العالمية ، بل لم يكن معروفاً في تاريخ الحضارات ، ما كان منها دارساً وما كان باقياً.
وهكذا نجد أنّ شريعة القران هي أقوى وجوه الإعجاز ، وهي الدالة على إعجازه إلى يوم القيامة ، وهي قائمةٌ إلى اليوم حجةً على العربي والأعجمي ، لا يفترِقُ في قبولها مَنْ يعرف لسان القران ومن لا يعرفه ، وهي شفاء سقام المجتمعات ، كما قال سبحانه وتعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ *} [يونس : 57].
6 ـ الإعجاز العلمي:
مما هو معلومٌ أنَّ القران ليس كتابَ علوم ، ولم ينزل ليقرّرَ نظريات علمية ، أو يَدْرُسَ مسائل رياضية أو فلكية ، ولكن ورد في القران الكريم العديد من الإشارات إلى بعض الظواهر الكونية والعلمية ، التي لم يكن للعرب ، ولا للعالم كله انذاك علمٌ بها ، ولم يكشف عنها العلمُ إلا مِنْ وقت قريب ، الأمر الذي يدلُّ على أنَّ القران ، الذي احتوى هذه المعارفَ ، وتلك الحقائق العلمية ، لا يمكن أن يكونَ مصدرُه البشر ، بل هو من عند الله تعالى العليم بالكون الذي خلقه ، ومن ثَمَّ جاء خبره (الوحي) عن الكون مطابقاً لما فيه من حقائق.ومن بين تلك الإشارات العلمية التي وردت في القران الكريم.
أ ـ قال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ *} [الانبياء : 30] الذي يشير إلى أنَّ السماوات والأرض كانتا شيئاً واحداً ، ثم انفصلت الأرض عن السماء؛ وقد اكتشفَ العلمُ هذه الحقيقة. فيما يعرف بنظرية الانفجار العظيم ، التي يفسّر بها نشأة الكون ، وبداياته الأولى.
ب ـ من الحقائق العلمية التي أشار إليها القران ظاهرة الجبال وأنَّها رواسي ، تمنع الأرض أن تميدَ بأهلها ، قال تعالى: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ} [لقمان : 10].
وفي هذا القرن فقط كشف العلم أنَّ الجبال تحفظ توازن الأرض ، وأنّه حين يختل هذا التوازن لسبب من الأسباب تحدث الزلازل والبراكين ، فالجبال تحفظ الأرضَ فلا تميدُ بأهلها كما عبر القران.
ج ـ أشار القران إلى تكوّن اللبنُ في بطون الأنعام بين الفرث (وهو الغذاء المهضوم) والدم ، قال تعالى: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ *} [النحل : 66] ، وتلك حقيقة علمية لم يكشفها العلم إلا في القرن العشرين ، إذ ثبت علمياً أنَّ اللبن يتكوّن من مواجهة محتوى الأمعاء (الفرث) مع الدم ، خلال الجدار المعوي نفسه ، ثم تقوم الغدد اللبنية باستخلاص العناصر اللازمة لتكوين اللبن من الدم والكيلوس (خلاصة الغذاء المهضوم) وتفرز عليها عصارات خاصة تحيلها إلى لبنٍ يختلف في لونه ومذاقه اختلافاً عن كل منهما.
وهذه المعلومات تعتبر اليوم من مكتشفات علمي الكيمياء وفسيولوجيا الهضم ، التي كانت بالتأكيد غير معروفة مطلقاً في عصر النبي محمد صلى الله عليه وسلم ، وترجع معرفة هذه الأمور العلمية فقط إلى العصر الحديث.
د ـ أشار القران الكريم إلى أصل خلق الإنسان ومراحل نمو الجنين:
قال تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ سُلاَلَةٍ مِنْ طِينٍ *ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ *ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ *} [المؤمنون : 12 ـ 14].
ولم يكتشف التشريحُ وعلمُ الأجنّة عن هذه المراحل إلا في العصر الحديث ، يقول موريس بوكاي: تطوّر الجنين في الرحم ـ كما يصفه القران ـ يستجيبُ تماماً لما نعرفه اليوم عن بعض مراحل تطور الجنين ، ولا يحتوي هذا الوصفُ على أي مقولة يستطيعُ العلم الحديث أن ينقدها.
وفي عبارة أخرى يقول بوكاي: إن مقولات القران عن التناسل البشري ، تعبر في ألفاظ بسيطة عن حقائق أولى أنفقت مئات من السنوات لمعرفتها.
وحينما سئل العالم كيث مور: هل كان من الممكن أن يعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه التفصيلات عن أطوار الجنين؟ قال: مستحيل.. إنّ العالم كله في ذلك الوقت لم يكن يعرفُ أنّ الجنين يخلق أطواراً ، فما بالكم بتحديد مراحل الأطوار التي لم يستطع العلم حتى الان تسميتها بدقة ، بل أعطاها أرقاماً بشكل معقد غير مفهوم ، في حين جاءت في القران بأسماء محدّدة وبسيطة ، وغاية في الدقة ، ثم يضيف.. يتّضح لي أنَّ هذه الأدلة حتماً جاءت لمحمد من عند الله ، وهذا يثبتُ لي أنَّ محمداً رسول الله.
هـ أشار القران الكريم إلى أنَّ هناك حاجزاً بين البحار الملتقية ببعضها:
قال تعالى: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ *بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَ يَبْغِيَانِ *} [الرحمن : 19 ـ 20]. ولم يُكْتَشَفْ هذا الأمر إلاّ مؤخراً ، حيث ثبت علمياً أنَّ مياه البحار والأنهار لا يمتزجُ بعضها ببعض ، وذلك لتباين طبيعة الماء ، وتمايز خصائصه فيهما.
هذا وفي القران إشارات كونية وعلمية كثيرة ، منها ما كشف عنه العلم ، ومنها ما لم يكشف عنه حتى اليوم ، وهي تثبتُ بدليل قاطع أنَّ هذا القران من عند الله العليم الحكيم ، وأنّه ما كان يتأتّى لبشرٍ أن ينطقَ به من عند نفسه.
إنَّ الكشفَ عن بعض مظاهر الإعجاز العلمي في القران ، قد يكونُ ، وقد كان بالفعل سبباً في دخول بعض العلماء التجريبيين الغربيين في الإسلام ، إذ إنّه دليل بيِّن على إثبات إعجاز القران ، وبيان أنَّ هذا القران وحي من عند الله سبحانه وتعالى ممّا يترتّب عليه إثباتُ النبوة ، وصدقُ الرسالة ، التي جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم ، ولعلّ في اتّباع هذا المنهج في فهم القران سبيلاً إلى إعادة الثقة إن لبعض المسلمين الذين اهتزّت قناعاتهم بسبب ضغوط الحضارة المادية المعاصرة ، ومنهجها العلمي وإقناعهم بأنّ الإسلام لا يحارِبُ العلم كما فعلت النصرانية المحرّفة ، بل إنَّ العلم في إطارِ الحضارة الإسلامية نشأ بدعوةٍ وتوجيهٍ من الوحي الإلهي.
يمكنكم تحميل -سلسلة أركان الإيمان- كتاب:
الإيمان بالرسل والرسالات
من الموقع الرسمي للدكتور علي الصَّلابي
http://alsallabi.com/uploads/file/doc/Book94(1).pdf