وظائف الرسل ومهماتهم(1)
الحلقة: السابعة
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
شوال 1441 ه/ يونيو 2020
1 ـ دعوة الخلق إلى عبادة الله الواحد القهار:
هذه هي الوظيفة الأساسية ، بل هي المهمة الكبرى التي بعث الله من أجلها الرسل الكرام ، وهي تعريف الخلق بالخالق جلا وعلا ، وإرشادهم إلى الإيمان بوحدانيته ، وتخصيص العبادة له دون سواه ، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ *} [الانبياء : 25].وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل :36].
وقد بذلَ الرسلُ في سبيل دعوة الناس إلى الله جهوداً عظيمة ، وحسبُك في هذا أن تقرأ سورةَ نوحٍ لترى الجهدَ الذي بذله على مدار تسعمئة وخمسين عاماً ، فقد دعاهم ليلاً ونهاراً ، سرّاً وعلانية ، واستعمال أساليب الترغيب والترهيب ، والوعد والوعيد ، وحاول أن يفتحَ عقولهم ، وأن يوجّهها إلى ما في الكون من ايات ، ولكنّهم أعرضوا ، قال تعالى: {قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَسَارًا *} [نوح :21].
وقد ضربت الملائكة للرسول صلى الله عليه وسلم مثلاً توضّح دوره ، وتبين وظيفته ، ففي الحديث: «إنّي رأيتُ في المنام كأنّ جبريل عند رأسي ، وميكائيلَ عند رجلي ، يقول أحدهما لصاحبه: اضربْ له مثلاً ، فقال: اسمع سمعت أذنك ، واعقل عقل قلبك ، إنّما مثلك ومثل أمتك ، كمثل ملكٍ اتخذَ داراً ، ثم بنى فيها بيتاً ، ثم جعلَ فيها مائدةً ، ثم بعث رسولاً يدعو الناسَ إلى طعامه ، فمنهم من أجاب الرسول ، ومنهم مَنْ تركه ، فالله هو المَلِكُ ، والدار الإسلام ، والبيت الجنة ، وأنت يا محمد رسول ، من أجابك دخل الإسلام ، ومن دخل الإسلام دخل الجنة ، ومن دخل الجنة أكل ما فيها» رواه البخاري والترمذي.
2 ـ تبليغ أوامرِ الله ونواهيه للبشر:
فالأوامرُ الإلهية لابدَّ لها من مُبلِّغٍ ، ولابدّ أن يكونَ هذا المبلِّغُ من البشر ، ليمكن الأخذُ عنه ، ولهذا فقد اختار الله عزّ وجلّ الرسل من البشر ، وقد بلّغ الرسلُ عليهم السلام رسالةَ اللهِ إلى خلقه على الوجه الذي أمر به دون زيادة أو نقصان ، أو تغيير أو كتمان ، يقول تبارك وتعالى: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاَتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلاَّ اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا *} [الاحزاب :39].
وقد جعل الله تعالى علامة الرسول تبليغ الرسالة وخاطب سيد الأنبياء بقوله عز من قائل: {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ *} [المائدة :67].
فالرسل سفراء الله إلى عباده ، وحملة وحيه ، ومهمتهم هي إبلاغ هذه الأمانة التي حملوها إلى عباد الله ، والبلاغ يكون بتلاوة النصوص التي أوحاها الله من غير نقصان ولا زيادة ، قال تعالى: {اتْلُ مَا أُوْحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ} [العنكبوت :45].
وقال تعالى: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا} [البقرة :151].
ومن البلاغ أن يوضّحَ الرسولُ الوحيَ الذي أنزله الله لعباده ، لأنه أقدر من غيره على التعرّف على معانيه ومراميه ، وأعرفُ من غيره بمراد الله من وحيه ، وفي ذلك يقول الله لرسوله صلى الله عليه وسلم: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ *} [النحل :44].
والبيانُ من الرسول للوحي الإلهي قد يكون بالقول ، فقد بيّن الرسول صلى الله عليه وسلم أموراً كثيرة استشكلها أصحابُه ، كما بيّن المرادَ من الظلم في قوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ *} [الانعام :82]. بين الرسول صلى الله عليه وسلم أنَّ المراد به الشرك ، لا ظلمَ النفس بالذنوب ، كما بيّن الرسول صلى الله عليه وسلم الايات المجملة في الصلاة والزكاة والحج وغير ذلك بقوله.
وكما يكون البيانُ بالقول ، يكون بالفعل ، فقد كانت أفعالُ الرسول صلى الله عليه وسلم في الصلاةِ والصدقةِ والحجِّ وغير ذلك بياناً لكثير من النصوص القرانية ، وعندما يتولّى الناسُ ويعرضون عن دعوة الرسل ، فإنَّ الرسلَ لا يملكون غير البلاغ ، {وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ} [ال عمران: 20].
فالغايةُ من إرسالِ الأنبياء والمرسلين هو القيامُ بالتبليغ الديني ، فلو لم يأتوا لما عرفنا المسائل المتعلّقة بالعبادة ، ولما وصلتنا الأوامرُ والنواهي ، ولما عرفنا واجباتنا وما فرض علينا.
إنّ رسولنا صلى الله عليه وسلم تحمّل عبئاً كبيراً مثل عبء النبوة ثلاثة وعشرين عاماً ، وقام بإيفاءِ حقّ وظيفته بنجاحٍ منقطعٍ النظير ، لم يتيسر لأي صاحب دعوةٍ اخر ، وبمثل هذه الروح ، وبهذه المشاعر الممتلئة بحب الله كان يتقدّم ويقترب من الهدف المنشود ، ومن النهاية المباركة.
وحج حجةَ الوداع ، وفي هذا الحجِّ ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم ناقته ، وبلّغ كل ما يجب تبليغه مرة أخرى ، فمن قضايا القتل والفدية إلى حقوق المرأة ، إلى قضايا الربا ، إلى العلاقات بين الأقوام والقبائل ، إلى سواها من الأمور والمواضيع ، بل كلُّ ذلك مرةً أخرى ، وكان يتوجّه كلّ مرة إلى الجماعة المؤمنة قائلاً: «ألا هل بلغت؟» فكانت ترد عليه: نشهدُ أنك قد بلّغتَ وأدّيتَ ونصحتَ ، فكان يشيرُ بأصبعه إلى السماء ، وينكتُها على الناس قائلاً: «اللهم أشهد ، اللهم أشهد» ثلاث مرات.
لـقـد أدّى مهمتـه بحق ، وقـام بالتبليغ على أفضل وجه ، لذا فقد كان مستريحَ الضمير ، مرتـاحَ الـنفس ، مطمئنَ الـقلب ، وكـان يتهيّأ لملاقـاة ربِّـه بعد أن استطـاع أن يبلّغَ رسالـة الله ، وحقق هدفـه الذي من أجلـه أرسلـه خالـقـه.
3 ـ هداية الناس إلى طريق الخير وإرشادهم إلى الصراط المستقيم:
فمن وظائف الرسل:
أ ـ هداية البشرية إلى معرفة الخالق وتوحيده: إنّ الفطرة البشرية بذاتها تعرِفُ وجودَ الخالق ، وتتجه إليه بالعبادة ، ولكنّها كثيراً ما تضلّ ، فتتصور الخالق على غير حقيقته ، وتشرك معه الهةً أخرى ، ومن ثَمَّ يرسل الله الرسلَ ليعرّفوا البشر بحقيقة خالقهم ، وينفوا من عقولهم ونفوسهم التصوّرات الباطلة عن الله سبحانه وتعالى ، وما يترتّب عليها من الخرافات في الفكر والسلوك ، وليعالِجُوا بصفة خاصة قضيةَ الشرك ، وهي أشدّ ما يتعرّض له البشر من انحرافٍ في تصوّرهم للخالق وسلوكهم.
يقول الرسل جميعاً لأقوامهم: {يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [ :59 و65 و73 و85].
فالله سبحانه وتعالى واحدٌ أحدٌ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ *اللَّهُ الصَمَدُ *لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ *وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ *}.
ومن ثَمَّ تنتفي كلُّ نبوة لله ، أو قرابة لأحدٍ من البشر أو الجنّ أو الملائكة مما تعجُّ به خرافاتُ الجاهلية ، ما بادَ منها وما لا يزالُ باقياً حتى اليوم ، كذلك ليس الله متمثّلاً في صنم أو وثن أو في الشمس أو القمر أو النجوم أو غيرها من الكائنات ، فكلُّها مخلوق ، والله هو الخالقُ {لاَ تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلاَ لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ}[فصلت: 37].
وكذلك فإنّ الله لا يشركُ في حكمه أحداً، ولا يوزّع اختصاصاته سبحانه على أحدٍ من خلقه ، ولا يُنْتَزَعُ منه قهراً عنه ، قال تعالى: {لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلاَ يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا *} [الكهف :26] ، وقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لاَ يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ *} [سبأ :22] ، وقال تعالى: {وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ *} [الانبياء :29].
كما يقوم الرسل بتعريف البشر بإلههم بصفاته كلّها ، وأسمائه الحسنى {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الاعراف : 180]. وقال تعالى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَانُ الرَّحِيمُ *هُوَ اللَّهُ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلاَمُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ *هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِىءُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ *} [الحشر :22 ـ 24].
فإذا عرفَ البشرُ ربَّهم على هذه الصورة ، وانتفى كلُّ وهم باطل عنه في أذهانهم وفي مشاعرهم ، بقيت القضيةُ الثانيةُ التي يضلّ البشر بشأنها في جاهليتهم ، وهي الطريقة الصحيحة لعبادة الله.
ب ـ العبادة الصحيحة: إنّ العبادةَ ليست فقط في الاعتقاد بأنّ الله واحدٌ لا شريكَ له ، ولا في تقديم شعائر التعبد من صلاة ونسك ودعاء الله وحده دون شريك ، بل هناك أمرٌ اخرٌ ، قال تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ *} [الاعراف :3].
إنّه لابدّ من اتباع ما أنزل الله ، وإلا فقد بطلت العبادة ، ولم يصبح المعبود إلهاً واحداً ، وإنّما إلهين اثنين ، واحد تُقدَّم له شعائر التعبد ، وواحد يَشْرَعُ وتُطاع تشريعاته من دون الله ، قال تعالى: {وَقَالَ اللَّهُ لاَ تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [النحل :51].
تلك هي المهمةُ الكبرى للرسل جميعاً صلوات الله عليهم وسلامه ، أن يهدوا البشرية إلى الإله الواحد ، ويدلّوهم على الطريقة الصحيحة لعبادته ، وبذلك تقوم حياتُهم على قاعدتها الصحيحة: إفرادُ الله سبحانه وتعالى بالإلوهية والربوبية ، وتوحيد العبادة له في الاعتقاد وشعائر التعبد ، واتباع ما أنزل الله من التشريع ، أي الحكم بما أنزل.
4 ـ تقديم القدوة الحسنة:
ومن الأسباب التي يمكن ذكرها لإرسال الله تعالى أنبياءه ورسله ، هو أنْ يكونوا أسوةً حسنة وقدوة متبعة لأممهم ، فالله تعالى يذكر في قرانه الكريم: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الانعام :90].
هذه الاية موجهةٌ للرسول صلى الله عليه وسلم توصيه بالاقتداء بالأنبياء الذين سبقوه ، بعد أن ذكر أسماءَهم واحداً تلوَ الاخر ، ثم إنّ القران الكريم يخاطِبنا قائلاً: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ} [الأحزاب: 21].
فالأنبياءُ أسوةٌ حسنة لنا ، وهم أئمتنا ، فكما نتّبع الإمامَ في الصلاة ، نتبع سلوك الأنبياء في جميع تفاصيل الحياة ، وتقتدي بهم ، ذلك لأنّ الحياة الحقيقية بالنسبة إلينا يمثّلها نبينا والأنبياء الاخرون صلوات الله وسلامه عليهم والصحابة الذين عاشوا عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم اقتدوا به.
5 ـ تأمين التوازن بين الدنيا والاخرة:
أتى الأنبياءُ والرسلُ لتأمين التوازن بين الدنيا والاخرة ، فبمقياس التوازن الذي جاؤوا به يستطيعُ ابنُ ادم أن يجدَ طريقه المستقيم ، ومنهاجه الصحيح ، ويتخلّص من الإفراط والتفريط ، فلا يجب ترك الدنيا ، والاعتكاف في الأديرة والصوامع كالرهبان ، ولا يجبُ الانغماسُ في الدّنيا ، والانقلابُ إلى عبدٍ لها ، وأسير في يدها ، بل الأفضلُ العثور على الطريق الوسط ، ولا يمكن ذلك إلا بواسطة الوحي ، فالعقلُ والوجدان لا يستطيعان إنشاءَ مثل هذا التوازن ، والعلم الصرف أبعد منهما عن الوصول إلى هذا الهدف ، وتحقيق هذه الغاية ، إذ لا يستطيعُ رفعَ الإنسان إلى هذا المستوى ، والقران الكريم يشرحُ هذا التوازنَ فيقول تعالى: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلاَ تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلاَ تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ *} [القصص :77].
فإذا وضعتَ في إحدى كفتي هذا الميزان الإلهي الحقائقَ التي تنطق بها الاية الكريمة عليك أن تضع التحذيرَ الذي تتضمنه الاية الكريمة {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ * ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ *} [التكاثر :8].
وهكذا يتمّ حفظ التوازن بهذه المقاييس والموازين ، ومع أنّ الدنيا أقبلت على الصحابة ، فإنهم عاشوا حياة متوازنة ، ذلك لأن قدوتهم وأسوتهم ومرشدهم عاش كذلك.
6 ـ تعريف الناس بالقيم الحقيقية التي تستحقُّ الاعتبارَ ، وتستحقُّ أن يحرصَ الناسُ عليها ، ويَسْعَوا إلى تحصيلها:
فالناسُ بطبيعتهم منجذبون دائماً إلى متاعِ الأرض ، قال تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [ال عمران: 14].
وهم يحتاجون دائماً إلى مَنْ يرفعهم من ثقلة الأرض هذه ، ويبصّرهم بالقيم العليا التي ينبغي أن يتّجهوا إليها من صدقٍِ وإخلاصٍ وأمانةٍ وتضحيةٍ وكرمٍ وشجاعةٍ وإيثارٍ وعدلٍ ، ممّا يليقُ بالإنسان الذي كرّمه الله وفضّله وجعله خليفة في الأرض ، وحمّله الأمانة الكبرى.
قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة :30].
قال تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً *} [الاسراء :70].
وقال تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا} {وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ}[الأحزاب: 72].
فالرسلُ والأنبياء يقرّون ـ بصورة واقعية مشهودة ـ أنّ القيمة الحقيقية العليا هي الإيمان بالله ، والدعوة إلى الله ، والجهاد في سبيل الله ، وأنّ ذلك أفضلُ وأعلى وأغلى من متاع الأرض كله ، ومن الذهب والسلطان ، عندئذٍ تتغير القيم والمعايير في حياة الناس ، فأمّا الأتباع الذين امنوا ، فإنّهم يرون رسولهم الذي اقتدوا به ، وامنوا على يديه ، يصبر على الأذى في سبيل عقيدته ، ويصبر عليها ، ولا يتخلّى عنها تحت أي ضغط من إغراء أو تهديد ، فيقتدونَ به ، ويصبرون معه على الأذى والاضطهاد والتشريد والتعذيب والحرمان ، ويستعلون بالعقيدة على متاع الأرض كله ، كما استعلى سحرةُ فرعون بعد إيمانهم.
قال تعالى: {فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى *قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلأَُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلاَفٍ وَلأَصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى *قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا *إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى *} [طه :70 ـ 73].
وأمَّا بقية الناس فإنّهم ـ تدريجياً ـ يستيقظون من غفلتهم ، إذ يرون قوماً من الناس يهدَّدون في أمنهم وراحتهم ، وفي كلّ المتاع الذي يحرصون هم عليه ، ويرون أنّه غاية الحياة كلّها ، وأغلى ما فيها ، ومع ذلك لا يتخلّون عن إيمانهم وعن عقيدتهم ،
فيتعلّمون أنّ هناك في الحياة ما يُحْرَصُ عليه أكثر المتاع ، وما يضحي من أجله بالمتاع ، ذلك هو رضوان الله وهو متاع الاخرة ، قال تعالى: {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ *} [العنكبوت :64] وقال تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ *} [ال عمران: 185] وعندئذٍ يعدّلون معاييرَ حياتهم ، ليرتفعوا كما ارتفعتْ تلك الفئةُ المؤمنةُ ، ويدخلوا في الإيمان.
وأمّا الذين أصرّوا على الباطل ، واستحبّوا الحياة الدنيا على الاخرة ، ورفضوا الهُدى الرباني ، فأولئك مالهم الدمار والبوار {نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ * جَهَنَّمَ يَصْلُوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ *وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ *} [ابراهيم :28 ـ 30]. وهكذا تتقرّر القيم العليا ـ في ذروتها ـ من خلال الصراع الذي يخوضه الرسل وأتباعهم بين الحق والباطل ، ويتميّز النفع الحقيقي من الزائف ، قال تعالى: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ *} [الرعد :17] وقال تعالى: {وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ *} [البقرة :251]. وقال تعالى: {وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ *} [الحج :40].
يمكنكم تحميل -سلسلة أركان الإيمان- كتاب :
الإيمان بالرسل والرسالات
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/Book94(1).pdf