السبت

1446-12-25

|

2025-6-21

أبو بكر الصِّدِّيق - رضي الله عنه - في المجتمع
د. علي محمد الصلابي


عاش الصِّدِّيق ـ رضي الله عنه ـ بين المسلمين كخليفةٍ لرسول الله (ﷺ)، فكان لا يترك فرصةً تمرُّ إلا علَّم الناس، وأمر بالمعروف، ونهى عن المنكر، فكانت مواقفه تشعُّ على مَنْ حوله من الرَّعيَّة بالهدى، والإيمان، والأخلاق، فمن هذه المواقف:
أ ـ حلبه للأغنام، والعجوز العمياء، وزيارة أم أيمن:
كان قبل الخلافة يحلب للحيِّ أغنامهم، فلمّا بويع له بالخلافة، قالت جاريةٌ من الحيِّ: الآن لا يحلب لنا (أغنام) دارنا، فسمعها أبو بكرٍ، فقال: لعمري لأحلبنَّها لكم، وإنِّي لأرجو ألا يغيِّرني ما دخلت فيه عن خُلُقٍ كنت عليه، فكان يحلب لهنَّ، وكنَّ إذا أتينه بأغنامهنَّ يقول:
أَنْضَحُ أم ألبد؟ فإن قالت: انضح؛ باعد الإناء من الضّرع حتى تشتدّ الرغوة، وإن قالت: البد؛ أدناه منه حتى لا تكون له رغوة، فمكث كذلك بالسُّنح ستة أشهر، ثمَّ نزل إلى المدينة (ابن سعد في الطبقات، 3/186، وله شواهد، فإسناده حسنٌ لغيره).
ففي هذا الخبر بيان شيءٍ من أخلاق أبي بكرٍ الصِّدِّيق ـ رضي الله عنه ـ فهذا تواضعٌ كبيرٌ من رجلٍ كبيرٍ، كبيرٍ في سنِّه، وكبيرٍ في منزلته، وجاهه، حيث كان خليفة المسلمين، وكان حريصاً على ألا تغيِّر الخلافة شيئاً من معاملته للناس، وإن كان ذلك سيأخذ عليه وقتاً هو بحاجة إليه، كما أنَّ هذا العمل يدلُّنا على مقدار تقدير الصَّحابة ـ رضي الله عنهم ـ لأعمال البرِّ، والإحسان، وإن كلَّفتهم الجهد، والوقت (الطنطاوي، ص 186).
هذا أبو بكرٍ ـ رضي الله عنه ـ غلب بعزيمته الصادقة، وثباته العجيب الجزيرة العربيَّة، وأخضعها لدين الله، ثمَّ بعث بها، فقاتلت تحت ألويته الدَّولتين الكبيرتين على وجه الأرض، وغلبت عليها. أبو بكرٍ.. يحلب لجواري الحيِّ أغنامهنَّ، ويقول: أرجو ألا يغيِّرني ما دخلت فيه. وليس الذي دخل فيه بالأمر الهيِّن، بل هو خلافة رسول الله، وسيادة العرب، قيادة الجيوش التي ذهبت لتقلع من الأرض الجبروت الفارسي، والعظمة الرُّومانية، وتنشئ مكانهما صرح العدل، والعلم والحضارة، ثمَّ يرجو ألا يغيِّره هذا كلُّه، ولا يمنعه من حلب أغنام الحيِّ (شاكر، ص 8.
إنَّ من ثمار الإيمان بالله تعالى أخلاقاً حميدةً، منها خلق التَّواضع الذي تجسد في شخصية الصِّدِّيق في هذا الموقف، وفي غيره من المواقف، وكان عندما يسقط خطام ناقته ينزل ليأخذه، فيقال له: لو أمرتنا أن نناولك، فيقول: أمرنا رسول الله (ﷺ) ألا نسأل الناس شيئاً. لقد ترك لنا الصِّدِّيق مثالاً حيّاً في فهم وتطبيق خلق التواضع المستمدِّ من قوله تعالى: ﴿فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ﴾ [القصص: 40] ومن قوله (ﷺ): «ما نقصت صدقة من مالٍ، وما زاد الله عبداً بعفوٍ إلا عزّاً، وما تواضع أحدٌ لله إلا رفعه الله » (مسلم، رقم: 2588).
ولقد دفعه هذا الخلق إلى خدمة المسلمين، وبخاصة أهل الحاجة منهم، والضُّعفاء، فعن أبي صالحٍ الغفاريِّ أن عمر بن الخطاب كان يتعهَّد عجوزاً كبيرةً عمياء في بعض حواشي المدينة من اللَّيل، فيسقي لها، ويقوم بأمرها، فكان إذا جاءها وجد غيره قد سبقه إليها، فأصلح ما أرادت، فجاءها غير مرَّة كيلا يسبق إليها فرصده عمر، فإذا هو أبو بكرٍ الذي يأتيها، وهو يومئذٍ خليفة (الطنطاوي، ص 29).
وعن أنس بن مالكٍ ـ رضي الله عنه ـ قال: قال أبو بكرٍ ـ رضي الله عنه ـ بعد وفاة رسول الله (ﷺ) لعمر: انطلق بنا إلى أمِّ أيمن نزورها كما كان رسول الله (ﷺ) يزورها، فلمّا انتهيا إليها، بكت، فقالا لها: ما يبكيك؟ ما عند الله خيرٌ لرسوله (ﷺ)، فقالت: ما أبكي ألا أكون أعلم أنَّ ما عند الله خيرٌ لرسوله (ﷺ)، ولكن أبكي: أنَّ الوحي قد انقطع من السماء. فهيَّجتهما على البكاء، فجعلا يبكيان معها (مسلم، رقم: 2454).
ب ـ نصحه لامرأةٍ نذرت ألا تحدِّث أحداً:
كان أبو بكرٍ ـ رضي الله عنه ـ ينهى عن أعمال الجاهليَّة، والابتداع في الدِّين، ويدعو إلى أعمال الإسلام، والتمسُّك بالسُّنَّة (السيد، ص 140)، فعن قيس بن أبي حازم: دخل أبو بكرٍ على امرأة من أحمس، يقال لها: زينب، فراها لا تتكلَّم، فقال أبو بكرٍ: ما لها لا تتكلَّم ؟ قالوا: نوت حجَّة مصمتةً. فقال لها: تكلَّمي، فإنَّ هذا لا يحلُّ، هذا من عمل الجاهليَّة . قال: فتكلَّمت، فقالت: من أنت ؟ قال: أنا امرؤ من المهاجرين . قالت: أيُّ المهاجرين ؟ قال: من قريش . قالت: من أيِّ قريش أنت ؟ قال: إنَّك لسؤولٌ، أنا أبو بكرٍ . قالت: يا خليفة رسول الله! ما بقاؤنا على هذا الأمر الصَّالح الذي جاء الله به بعد الجاهليَّة؟ فقال: بقاؤكم عليه ما استقامت به أئمَّتكم . قالت: وما الأئمَّة ؟ قال: أما كان لقومك رؤوسٌ، وأشرافٌ يأمرونهم، فيطيعونهم ؟ قالت: بلى! قال: فهم أولئك على الناس (البخاري، رقم: 3834).
قال الخطابيُّ ـ رحمه الله ـ: كان من نسك الجاهلية الصَّمت، فكان أحدهم يعتكف اليوم، والليلة، ويصمت، فنهوا عن ذلك، وأمروا بالنُّطق بالخير، وقد استدلَّ بقول أبي بكرٍ هذا مَنْ قال
بأنَّ من حلف ألا يتكلَّم استحبَّ له أن يتكلَّم، ولا كفارة عليه؛ لأنَّ أبا بكرٍ لم يأمرها بالكفّارة، وقياسه: أنَّ من نذر ألا يتكلَّم لم ينعقد نذره؛ لأنَّ أبا بكرٍ أطلق: أنَّ ذلك لا يحلُّ، وأنَّه من فعل الجاهلية، وأنَّ الإسلام هدم ذلك، ولا يقول مثل هذا إلا عن علمٍ من النبيِّ (ﷺ)، فيكون من حكم المرفوع.
وقال ابن حجر: وأمّا الأحاديث الواردة في الصَّمت، وفضله، فلا يعارض لاختلاف المقاصد في ذلك، فالصَّمت المرغَّب فيه: ترك الكلام بالباطل، وكذا المباح إنْ جرَّ إلى شيءٍ من ذلك، والصَّمت المنهيُّ عنه ترك الكلام في الحقِّ لمن يستطيع، وكذا المباح المستوي الطَّرفين. والله أعلم (فتح الباري، 7/150).
المراجع:
1. الطنطاوي، علي، أبو بكرٍ الصِّدِّيق، دار المنارة، جدَّة، السُّعوديَّة، الطبعة الثَّالثة 1406هـ 1986م.
2. شاكر، محمود، التَّاريخ الإِسلاميُّ، الخلفاء الرَّاشدون، المكتب الإِسلاميُّ، الطَّبعة الخامسة 1411هـ 1990م.
3. السيد، مجدي فتحي، صحيح التوثيق في سيرة حياة الصِّدِّيق.
 #كتب_الدكتور_علي_الصلابي
----


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022