الخميس

1446-11-03

|

2025-5-1

شبهات حول عصمة الأنبياء (آدم عليه السلام)

الحلقة: الثانية عشر

بقلم الدكتور علي محمد الصلابي

ذو القعدة 1441 ه/ يونيو 2020

ما ورد في القران الكريم من نصوص تثبتُ لبعضهم بعضَ المخالفات ، وتنسِبُ إلى بعضهم الاخر الذنب والمعصية ، كادم ، ونوح ، وموسى عليهم السلام ، وغيرهم من الأنبياء والمرسلين ، كما في قوله تعالى في حق ادم عليه السلام: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى *} [طه : 121] وقوله سبحانه في حق نوح عليه السلام: {إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ *} [هود : 46] وقوله جل وعلا في حق سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح : 2]. فالجواب على ذلك أنّ هذه النصوص محمولةٌ على بعض الوجوه الاتية:
* أنها ليست معصية ، وإنما فِعْلُ خلاف الأولى.
* أنّها ليست معصية ، وإنّما هي خطأٌ في الاجتهاد ، والخطأُ في الاجتهادِ لا يتنافى
مع العصمة ، لأنَّ المعصية هي ارتكابُ المحرَّمِ عمداً ، والخطأ هو إبداءُ الرأي في أمر يخالِفُ الحقيقة الموجودة في علم الله تعالى ، أو هو تصرّفٌ على وجهٍ يكونُ له وجهٌ اخرُ أصحّ.
وعلى فرض أنّها مخالفة ومعصية فإنّها قد وقعت قبل النبوة، وإليك شيء من الإيضاح:
أ ـ ادم عليه السلام:
معصية ادم عليه السلام التي صرّح القران بها في قوله تعالى: {فَأَكَلاَ مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سُوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى *ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى *} [طه : 121 ـ 122] إنّما كانت هذه المخالفةُ والمعصيةُ قبل النبوة ، بدليل قوله تعالى: والاجتباءُ هو اصطفاءُ الله {ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ} ، فتكونُ المعصيةُ قد وقعت من ادم عليه السلام قبل النبوة.
وهناك قول اخر أنّ ادم عليه السلام ، إنّما أكلَ من الشجرة ناسياً ، بدليل قوله تعالى: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا *} [طه : 115]. وقيل: إنَّ ادم عليه السلام لما نهي عن الأكل من الشجرة بقوله تعالى: {وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ} [البقرة : 35]. ظنَّ أنَّ المرادَ عينُ هذه الشجرة لا جِنْسُها ، فأكل من شجرةٍ أخرى من جنسها فخالَفَ الأمر ، وكلُّ ذلك باجتهادٍ منه ، لا عن سابق تعمّدٍ وإصرارٍ على المخالفة.
، كما قال تعالى: {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِيْنَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة : 286] ولم يكن من ادم تعمّدٌ أو عزمٌ منه على المعصية ، بدليل الاية التي ذكرناها وذلك {فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا *} اختاره بعضُ المفسرين كالقرطبي وابن العربي.
أو نقول: إنّ المعصيةَ وقعتْ منه قبلَ النبوة ، وذلك ما اختاره صاحبُ تفسير المنار حيث قال: ... ولنا أن نقول: إنّ تلك مخالفة صدرت منه قبلَ أن يدرِكَهُ عزمُ النبوة ، كما قال جل شأنه {فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا *} والاتفاق إنّما هو على العصمة عن مخالفة الأوامر بعد النبوة ، وقد يكون الذي وقع من ادم نسياناً ، فسُمِّي تفخيماً لأمره عصياناً.. والنسيانُ والسهو ممّا لا ينافي العصمة.
وأبو بكر ابن العربي المالكي قد رجّح الأول ، وذهبَ إلى أنَّ المخالفة وقعت من ادم عليه السلام بسبب النسيان ، فقد جاء في كتاب (أحكام القران) ما نصّه: كم قال في تنزيه الأنبياء عن الذي لا يليق بمنزلتهم مما يَنْسِبُ الجهلةُ إليهم ـ من وقوعهم في الذنوب عمداً منهم إليها ، واقتحاماً لها مع العلم بها ، وحاشا لله ـ فإنّ الأوساط من المسلمين يتورّعون عن ذلك ، فكيف بالنبيين ، ولكنّ الباري سبحانه بحكمه النافذ ، وقضائه السابق ، أسلم ادم إلى المخالفة ، فوقع فيها متعمداً ناسياً فقيل في تعمده: {وعصى آدم ربه} وقيل في بيانِ عذره { وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا *} [طه : 115]. ونظيرُها: أن يحلفَ الرجلُ لا يدخل داراً أبداً ، فيدخلها متعمّداً ناسياً ليمينه ، أو مخطئاً في تأويله ، فهو عامدٌ ناسٍ ، ومتعلَّق العمدِ غير متعلَّقِ النسيان.. وجاز للمولى أن يقول في عبده (عصى) تعذيباً ، ويعود عليه بفضله فيقول: (نسَي) تنزيهاً.
ثم قال: ولا يجوز لأحدٍ منا اليوم أن يخبرَ بذلك (أي بعصيان ادم) إلا إذا ذكرناه في أثناء قوله تعالى عنه ، أو قول نبيه صلى الله عليه وسلم ، فأمّا أن يبتدأى ذلك من قبل نفسه ، فليس بجائزٍ لنا في ابائنا الأدنَيْنَ المماثلين لنا ، فكيف في أبينا الأقدم الأعظم الأكرم ، النبي المقدم ، الذي عذره الله ، وتاب عليه وغفر له.
ومن خلال أقوال العلماء والمفسّرين أنّ ادم عليه السلام لم يتعمّد مخالفة أمر الله عز وجل ، وإنّما أكل من الشجرة متأوّلاً ، بطريق الاجتهاد ، أو ناسياً لأمر الله تبارك وتعالى ، فعاتبه ربُّه بإخراجه من الجنة ، وإنزاله إلى الأرض ، وذلك لحكمةٍ إلهيةٍ سابقةٍ ، فلا يجوزُ لنا أن نرميَه بالعصيان ، مع أنَّ ما وقع منه لم يكن إلا بسبب النسيان ، ولا أن نسيءَ الأدبَ ، ولا سيّما بعد أن نزل القران بقوله تعالى: {ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى *} [طه : 122].
إنّ ادم عليه السلام أكلَ من الشجرةِ ناسياً ، ولم يكن عازماً ولا عامداً ولا قاصداً ، فمعنى لم نجدْ له قصداً {وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا *} تعمُّداً للأكل من الشجرة ، ولم يعزم على الأكل ، ولم يتعمّد المخالفة ، ولم يصرّ على ارتكاب المحظور ، لم نجد له عزماً على المخالفة ، لأنّه أكل من الشجرة ناسياً ، والنسيانُ ينفي عنه القصدَ والتعمّد ، وفي الاية ـ على هذا الفهم والتفسير ـ توجيهٌ لمعصية ادم في أكله من الشجرة ، بأنّه كان في حالةِ نسيانٍ منه تعهده لله ، وعدم تذكره ، ولو كان ذاكراً لعهد الله لما أكل من الشجرة ، وهذا النسيان نفيٌ للعزم والتعمد والتصميم والإصرار ، وكأن جملة توجيهٌ لأكل ادم من {وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا *} ، وتحليلٌ لذلك الفعل ، سيق ليكونَ مثل اعتذارٍ له ، وشهادة له ، بأنّه لم يتعمّد ولم يقصد ولم يعزمْ على المخالفة.
ولمّا تذكّرَ ادمُ عهدَ الله بعدَ الأكل ـ كان ذلك بعد بُدُو السوءات ـ عرف أنه خالفَ عهد الله ، وارتكب المحظور ، وأنّه بذلك عصى ، فسارعَ بالتوبة والإنابة والاستغفار ، وطلبَ من الله أن يغفرَ له ، فتاب الله عليه ، وغفر له ، وقد انطبق على أبي البشر عليه السلام قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ *} [الاعراف : 201].
فمجرّد أنْ تذكّرَ ادم تاب إلى الله ، فتاب الله عليه {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْ


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022