أهوال يوم القيامة
الحلقة: العشرون
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
ذو القعدة 1441 ه/ يوليو 2020
يحدّثنا القرآن عن أهوالِ ذلك اليوم التي تَشْدَه الناسَ، وتشدُّ أبصارَهم، وتملِكُ عليهم نفوسَهم، وتزلزل قلوبَهم .
ومن أعظم تلك الأهوال ذلك الدمارُ الكونيُّ الشاملُ الرهيبُ الذي يصيبُ الأرضَ وجبالها، والسماءَ ونجومَها، وشمسَها وقمرَها، ومن أهوال ذلك اليوم :
1 ـ دكُّ الأرضِ ونسفُ الجبال:
قال تعالى: ﴿فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ *وَحُمِلَتِ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً *فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ *﴾ [الحاقة: 13 ـ 15] وقال تعالى: ﴿كَلاَّ إِذَا دُكَّتِ الأَرْضُ دَكًّا دَكًّا *﴾ [الفجر: 21] وعند ذلك تتحوّلُ هـذه الجبال الصلبة القاسية إلى رمل ناعم، كما قال تعالى: ﴿يَوْمَ تَرْجُفُ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلاً *﴾ [المزمل: 14] أي تُصْبِحُ ككثبان الرمل بعد أن كانت حجارةً صماءَ، والرمل المهيل: هو الذي إذا أخذتَ منه شيئاً تبعك ما بعده، يقال: أهلتُ الرمل أهيله هيلاً، إذا حركت أسفله انهال من أعلاه .
وأخبر في موضع اخر أنّ الجبال تصبحُ العهن، والعهنُ هو الصوف، كما قال
تعالى: ﴿وَتَكُونُ الْجِبِالُ كَالْعِهْنِ *﴾ [المعارج: 9] وفي نصٍّ اخر مثلها بالصوف المنفوش: ﴿وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ *﴾ [القارعة: 5] .
ثم إنّ الحقَّ تبارك وتعالى يزيلُ هـذه الجبال عن مواضعها، ويسوّي الأرضَ حتى لا يكونَ فيها موضعٌ مرتفعٌ ولا منخفضٌ، وعبّر القرآن عن إزالةِ الجبال بتسييرها مرة، وبنسفها مرة أخرى، قال تعالى: ﴿وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ *﴾ [التكوير: 3] ﴿وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا *﴾ [النبأ: 20] وقال في نسفه لها: ﴿وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ *﴾ [المرسلات: 10] .
ثم بين الحقُّ حال الأرض بعد تسيير الجبال ونسفها قال تعالى: ﴿وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى﴾ [الكهف: 47]، أي ظاهرةً لارتفاع فيها ولا انخفاض، كما قال تعالى: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا *فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا *لاَ تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلاَ أَمْتًا *﴾ [طـه: 105 ـ 107] .
2 ـ قبضُ الأرض وطيُّ السماءِ:
قال تعالى: ﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ *﴾ [الزمر: 67] وقال تعالى: ﴿يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ *﴾ [الأنبياء: 104] وقال رسول الله (ﷺ): «يقبِضُ اللهُ الأرضَ يومَ القيامةِ، ويطوي السماءَ بيمينه، ثم يقول: أنا المَلِكُ أينَ ملوكُ الأرض ؟!».
ومعنى الكلام أي على الكتاب بمعنى المكتوب.
3 ـ تفجير البحار وتسجيرها:
قال تعالى: ﴿وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ *﴾ [الانفطار: 3]
فُجّرت: فجر الله بعضها في بعض، وقيل: ذهبَ ماؤها، وقيل: اختلطَ عذبُها بمالحها، وقال تعالى: ﴿وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ *﴾ [الطور: 6] وقال تعالى: ﴿وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ *﴾ [التكوير: 6] أوقدت، فصارت ناراً تضطرِمُ، وقيل يَبِسَتْ. والمعنى المتحصّل من أقوالهم أنّها يفجِّرُ بعضُها في بعضٍ، فتمتلىءُ، ثم تسجَّرَ، فتصبِحُ ناراً، ثم يَذْهَبُ ماؤها .
4 ـ موران السماء وانفطارها:
قال تعالى: ﴿فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ *﴾ [الرحمـن: 37] فهي في أشدِّ ما تكونُ من الوهن، وقال تعالى: ﴿وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ *﴾ [الحاقة: 16] وذلك أنها تضطربُ اضطراباً مَهُولاً، وقال تعالى: ﴿يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ﴾ [الطور: 9] تتحرّك تحريكاً هو تشقُّقها، تدور دوراً، وقيل استدارتها وتحرُّكها لأمر الله، وموجُ بعضها في بعض، ثم إنَّها تتشقَّق وتنفطِرُ وتنفرجُ، قال تعالى: ﴿إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ *وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ *﴾ [الانشقاق: 1-2] وقال تعالى: ﴿فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا *السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً *﴾ [المزمل: 17-18] وقال تعالى: ﴿إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ*﴾ [الانفطار: 1] وقال تعالى: ﴿وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ *﴾ [المرسلات: 9] وقال تعالى: ﴿فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ *﴾ [الرحمـن: 37] يعني الدهان، فشبّه السماءَ في تلوُّنها بالدُّهن في اختلافِ ألوانه، وهو كقوله تعالى: ﴿يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ *﴾ [المعارج: 8] وهو دَرْدِيُّ الزيت.
5 ـ تكويرُ الشمس:
قال تعالى: ﴿إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ *وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ*﴾ [التكوير: 1 ـ 2] قال ابنُ جريرِ: والصوابُ عندنا من القولِ في ذلكَ أنّ التكويرَ جمعُ الشيءِ بعضُه على بعضٍ، ومنه تكوير العمامة، وجمع الثيابُ بعضُها على بعض، فمعنى قوله تعالى: جُمِعَ بعضُها إلى ﴿كُوِّرَتْ *﴾، ثم لُفَّت فرُميَ بها، وإذا فُعِلَ بها ذلك ذهبَ ضوؤها
6 ـ خسف القمر:
قال تعالى: ﴿وَخَسَفَ الْقَمَرُ *وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ *﴾ [القيامة: 8 ـ 9] خسف: أظلمَ وذهبَ نوره وضوؤه، وقوله تعالى: ﴿بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ*﴾ [القيامة: 9] فسّره النبيُّ (ﷺ) كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبيِّ (ﷺ) قال: الشمسُ والقمرُ مكوّران يومَ القيامةِ، يعني مجموعان مظلمان .
7 ـ تناثر النجوم:
والنجوم والكواكب ينفرط عقدُها فتنتثر، ويذهب ضوءُها فتطمسَ، قال تعالى: ﴿وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ *﴾ [التكوير: 2] يعني انتثرت، وانفرطَ عِقْدُها، وتساقطت على أهل الأرض، وهو كقوله تعالى: ﴿وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ *﴾ [الانفطار: 2] وقال تعالى: ﴿فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ *﴾ [المرسلات: 8] يعني ذهبَ ضوؤها .
8 ـ بديلُ الأرضِ:
تبدَّلُ هـذه الأرض، وتتغيَّرُ صفاتُها، ويكونُ عليها الحشرُ الأول، ثم تذهبُ هـذه الأرضُ تماماً يوم يُحشَرُ الناسُ لمكانِ الحسابِ أمام الجسر، قال تعالى: ﴿يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ *﴾ [إبراهيم: 48] وجاء في ( الصحيحين ) عن سهل بن سعد قال: قال رسول الله (ﷺ): « يُحْشَرُ الناسُ يومَ القيامةِ على أرضٍ بيضاءَ عفراءَ كقُرصة النقي، ليس فيه معلمٌ لأحدٍ» .
ثم بعد ذلك تنتقل الخلائق إلى أرض الحساب، عن عائشة رضي الله عنها قالتْ: سألتُ رسولَ اللهِ (ﷺ) عن قوله عزّ وجل: فأين يكونُ الناسُ يومئذٍ ﴿يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ﴾ رسول الله؟ فقال: « على الصراط » .
وعن ثوبان مولى رسول الله (ﷺ) قال: كنتُ قائماً عندَ رسولِ اللهِ (ﷺ) فجاءَ حَبْرٌ من أحبارِ اليهودِ فقال: السلامُ عليكم يا محمَّد، فدفعتُه دفعةً كادَ يصرعُ منها، فقال: لم تدفعُني ؟ فقلت: ألا تقول يا رسولَ اللهِ ؟ فقال اليهوديُّ: إنّما ندعوه باسمه الذي سمّاه به أهلهُ، فقال رسول الله (ﷺ): « إنَّ اسمي محمَّدٌ الذي سمّاني به أهلي » فقال اليهوديُّ: جئتُ أسألكَ، فقال له رسول الله (ﷺ): « أينفعُكَ شيءٌ إنْ حدَّثْتُكَ؟ » قال: أسمع بأذني، فنكتَ رسولُ الله (ﷺ) بعودٍ معه فقال: « سل » . فقال اليهوديُّ: أين يكون الناسُ ﴿يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ﴾ ؟ فقال رسول الله(ﷺ): « هُمْ في الظُّلْمَةِ دونَ الجِسْرِ ... »
وبهـذا يتّضحُ أن تبديلَ الصفات في الحشر الأول إلى أرض المحشر عندما تُنْسَفُ الجبالُ والمرتفعاتُ، وتسوّى الأرضُ، فلا يبقى في تلك الأرض معلمُ لأحدٍ، وأما ذهابُ الأرضِ بالكلية ففي الحشر الثاني إلى أرضِ الحساب قبل جسر جهنم، والله تعالى أعلم
9 ـ سجودُ الخلائق لله سبحانه عند إتيانه للفصل بين العالمين ونزول الملائكة:
بعد بعثِ الناسِ من قبورِهم، وحشرِهم لأرضِ المحشرِ، وحصولِ أهوالِ يوم القيامةِ، وتبديلِ هـذه الأرض، وحشرِ الناسِ لأرضِ الحسابِ عند الجسرِ، تنزلُ الملائكةُ صفوفاً، قال تعالى: ﴿وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلاَئِكَةُ تَنْزِيلاً *﴾ [الفرقان: 25] .
وقال تعالى: ﴿يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلاَئِكَةُ صَفًّا لاَ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَانُ وَقَالَ صَوَابًا *ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا *﴾ [النبأ: 38 ـ 39 ] والمقصود بالروح جبريل عليه السلام .
وقال تعالى: ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلاَئِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ *﴾ [النحل: 33] ومن هـذه الملائكةِ هنالك ثمانيةُ أملاكٍ تحملُ عرشَ الرحمنِ سبحانه وتعالى: ﴿وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ *﴾ [الحاقة: 17] .
ويأتي رب العزة للفصل بين العباد ﴿وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا *﴾ [الفجر: 22] أي والحالُ أنَّ الملائكةَ صفوفاً، وقال سبحانه: ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلاَئِكَةُ وقُضِيَ الأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ *﴾ [البقرة: 210] وقال تعالى: ﴿وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ *﴾ [الأنعام: 30] .
وعندئذٍ تشرقُ الأرضُ بنور ربها، ويُؤتى بصحفِ الأعمال وبالشهود، ويبدأُ الحساب، قال تعالى: ﴿وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ *وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ *﴾ [الزمر: 69 ـ 70] .
يمكنكم تحميل -سلسلة أركان الإيمان- كتاب:
الإيمان باليوم الآخر
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي
http://alsallabi.com/uploads/file/doc/Book173.pdf