القدر على أربع مراتب (2)
الحلقة: التاسعة
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
شعبان 1441 ه/ أبريل 2020م
أولا: مرتبة الإرادة والمشيئة:
إن كل ما يجري في هذا الكون فهو بمشيئة الله، سبحانه وتعالى، فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، فلا يخرج عن إرادته الكونية شيء
ومن الأدلة في القرآن الكريم:
1 ـ قال تعالى: ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ [يس: 82]. أي: إنما يأمر بالشيء، أمراً واحداً لا يحتاج إلى تكرار. إذا ما أراد الله أمراً فإنما يقول له " كُنْ" قولة فيكون
2 ـ وقد ورد في القرآن الكريم ـ في الحديث عن بعض الأنبياء وغيرهم ـ تعليقهم كل أمر بمشيئة الله ـ سبحانه وتعالى ـ فنوح عليه الصلاة والسلام، لما قال له قومه:﴿فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ﴾ [هود: 32-33] ـ وشعيب عليه السلام ـ بعد ـ ما طلب منه قومه أن يعود إلى ملتهم بين أنه لا يمكن أن يعود إلى ملتهم بعد أن نجاه الله منها هو والمؤمنون معه ولا ينبغي لهم ذلك إلا إذا شاء الله ذلك فقال:﴿قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا﴾ [الأعراف: 89]، فعلق أعظم شيء وهو الإيمان والكفر على مشيئة الله. ـ ويوسف عليه السلام، قال لأهله بعد أن ألتقى بهم: ﴿ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ﴾ [يوسف: 99]. ـ وقال موسى عليه السلام ـ للعبد الصالح ﴿قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا﴾ [الكهف: 69] ـ والله سبحانه وتعالى وجه نبيه قائلاً: ﴿وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ ﴾ [الكهف: 23-24]. فهذه الآيات تدل على استقرار عقيدة المسلمين ويقينهم بهذه المرتبة من مراتب القدر .
3 ـ قال تعالى:﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [آل عمران: 26]، أي: أنت المعطي وأنت المانع، وأنت الذي ما شئت كان وما لم يشأ لم يكن .
4 ـ قـال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ [آل عمران: 6]، أي وهــو الذي يصور الخلق فـي الأرحام كيف يشاء ذكوراً وإناثاً، أشقياء وسعداء مختلفين في صفاتهم وأشكالهم، حسناً وقبحاً .
5 ـ قال تعالى: ﴿فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ﴾ [الأنعام: 125]، أي: ييسره له وينشطه ويسهله لذلك، ويوسع قلبه للتوحيد والإيمان به ﴿وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ﴾ أي يجعل صدره ضيقاً، لا يتسع لشيء من الهدى ولا يخلص إليه شيء ما ينفعه من الإيمان ولا ينفذ فيه .
6 ـ وقال تعالى:﴿وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ﴾ [السجدة: 13] .
7 ـ وقال تعالى: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى﴾ [الأنعام: 35].
8 ـ وقال تعالى: ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ [هود: 118].
9 ـ قوله تعالى ـ في معرض الحديث عن أهل الكتاب، ونهي النبي صلى الله عليه وسلم على أن يتبع أهواءهم، وأمره أن يلتزم الحكم بما أنزل الله، مبيناً أن لكل من الأمم الثلاثة: اليهود والنصارى، وأمة محمد، شريعة ومنهاجاً في كل من التوراة والإنجيل والقرآن،"وقد نسخ القرآن ما قبله" قال بعد ذلك: ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ﴾ [المائدة: 48]، أي: لجعلكم على شريعة واحدة، وكتاب واحد، ورسول واحد، لكن لما لم يشأ الله ذلك، بل شاء الأبتلاء والاختبار، فكنتم على الحالة التي أنتم عليها ، فمشيئة الله مطلقة، والنافذ هو ما يشاؤه ـ سبحانه وتعالى ـ فهذا دليل على مرتبة المشيئة .
أدلة هذه المرتبة من السنة:
1 ـ عن أبي موسى الأشعري ـ رضي الله عنه ـ قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جاءه السائل أو طلبت إليه حاجة قال: اشفعوا تؤجروا، ويقضي الله على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم ما شاء .
فأوصى بالشفاعة وذلك فيما ليس بمجرم وضابطها: ما أذن في الشرع دون ما لم يأذن فيه ، ثم بين أن الله يقضي على لسان رسوله ما شاء، أي: يظهر على لسان رسوله بالوحي أو الإلهام ما قدره في علمه بأنه سيقع ، فهذا يدل على مرتبة المشيئة.
2 ـ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين، وإنما أنا قاسم والله يعطي، ولن تزال هذه الأمة قائمة على أمر الله لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله ، فقوله: من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين، فيه إثبات مرتبة الإرادة، وأن الأمور كلها تجري بمشيئة الله تعالى ـ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: وإنما أنا قاسم والله يعطي، أي: إنما اقسم ما أمرني الله بقسمته، والمعطي حقيقة هو الله ـ تعالى ـ فالأمور كلها بتقدير الله تعالى، والإنسان مصرف مربوب،
3 ـ ومن الأحاديث الدالة على الإرادة حديث حذيفة بن أسيد الغفاري صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، رفع الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن ملكاً موكلاً بالرحم، إذا اراد الله أن يخلق شيئاً بإذن الله لبضع وأربعين ليلة... الحديث . فالله هو المريد الخلق الآدمي، والأحاديث الدالة على مرتبة المشيئة والإرادة كثيرة جداً .
4 ـ وعن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: ما شاء الله وشئت، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: أجعلتني والله عدلاً، بل ما شاء الله وحده ، والحديث واضح الدلالة على إثبات مرتبة المشيئة، وأن الله تعالى له المشيئة المطلقة، وأن للعباد مشيئة خاضعة لمشيئة الله ـ تعالى ـ، والنهي في الحديث إنما هو عن قرن مشيئة الله بمشيئة الرسول صلى الله عليه وسلم، حيث عطفها بالواو والتي هي لمطلق الجميع من غير ترتيب ولا تعقيب، والرسول مثل غيره من العباد، فالكل خاضعون لمشيئة الله، ومشيئتهم تابعة لمشيئة الله.
5 ـ وعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا يقل أحدكم: اللهم اغفر لي إن شئت أرحمني إن شئت، أرزقني إن شئت، وليعزم مسئلته أنه يفعل ما يشاء لا مكره له .
ففيه إثبات المشيئة لله ـ تعالى ـ فهو الغفور الرحيم، والرازق إذا شاء، وهو سبحانه يفعل ما يشاء، لا مكره له، والحديث فيه الحث على العزم في المسألة والجزم فيها، دون ضعف أو تعليق على المشيئة، وإنما نهى عن التعليق على المشيئة لأنه لا يتحقق استعمال المشيئة إلا في حق من يتوجه إلى الإكراه، والله ـ سبحانه وتعالى ـ لا مكره له، كما نص عليه الرسول صلى الله عليه وسلم هنا .
6 ـ وعن عبد الله بن عمرو بن العاص ـ رضي الله عنهما ـ أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن قلوب بني آدم كلها بين أصبعين من أصابع الرحمن، كقلب واحد يصرفه حيث يشاء، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك . والشاهد قوله: "كقلب واحد يصرفه حيث يشاء"، ومعناه أنه سبحانه وتعالى متصرف في قلوب عباده كلهم، فيهدي ويضل كما يشاء، ففيه دلالة على مرتبة المشيئة .
7 ـ وقد أقر النبي صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ حين أجابه بعد سؤاله له هو وفاطمة بقوله: "ألا تصليان؟" فأجابه بقوله: أنفسنا بيد الله فإذا شاء أن يبعثنا بعثنا.
قال علي: فانصرف حين قلت له ذلك، ولم يرجع إلي شيئاً، ثم سمعته وهو مُوَلِّ يضرب فخذه وهو يقول: ﴿وَكَانَ الْإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا﴾ . ففي هذا الحديث إثبات لمشيئة الله ـ تعالى ـ وأن العبد لا يفعل شيئاً إلا بإرادة الله وأما انصراف النبي صلى الله عليه وسلم وضربه فخذه، واستشهاده بالآية، فمعناه أنه تعجب من سرعة من جوابه وعدم موافقته له على الاعتذار بهذا، ولهذا ضرب فخذه .
8 ـ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رفع رأسه من الركوع يقول: ربنا لك الحمد ملء السماوات والأرض وملء ما شئت من شئ بعد، أهل الثناء والمجد، أحق ما قال العبد، وكلنا لك عبد، اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد .
وهذا تحقيق لوحدانيته لتوحيد الربوبية خلقاً وقدراً وبداية وهداية هو المعطي المانع لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع ولتوحيد الإلهية شرعاً وأمراً ونهياً . وفي هذا الحديث: فيه من التفويض إلى الله تعالى والإذعان له والاعتراف بوحدانيته والتصريح بأنه لا حول ولا قوة إلا به وأن الخير والشر منه والحث على الزهادة في الدنيا والإقبال على الأعمال الصالحة .
9 ـ وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كلٍ خير، احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شئ فلا تقل: لو أني فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان .ففي الحديث حث رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإيمان بمقادير الله وبمشيئة الله وإرجاع ما يقع للعبد إلى مشيئة الله: "وما شاء فعل" فيه إثبات المشيئة لله تعالى .
10 ـ وعن ابن عباس رضي الله نهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل على أعرابي يعوده فقال: لا بأس عليك طهور إن شاء الله، قال الأعرابي: طهور، بل هي هي حمى تفور على شيخ كبير، تُزيره القبور، قال النبي صلى الله علي وسلم: فنعم إذاً .
وهذا الحديث استدل به البخاري في صحيحه في كتاب التوحيد علي إثبات مشيئة الله عز وجل، كما هو واضح في تخريج الحديث، حيث بوّب له باب: في المشيئة والإرادة. والشاهد منه قوله صلى الله عليه وسلم: إن شاء الله. فجعل كون هذا المرض الذي أصيب به المريض طهوراً من ذنوبه ومكفراً لها مقيداً بمشيئة الله تعالى وفوض ذلك فإن شاء الله تعالى جعله كفارة وطهوراً فهو يفعل ما يشاء وهو على كل شئ قدير.
11 ـ وفيما يقال عند دخول القبور ما ورد عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كلما كان ليلتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج من آخر الليل إلى البقيع فيقول: السلام عليكم دار قومٍ مؤمنين وأتاكم ما توعدون غداً مؤجلون وإنا إن شاء الله بكم لاحقون اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد .
والأحاديث الدالة على مرتبة المشيئة والإرادة كثيرة جداً.
ثانياً: مرتبة الخلق:
وهو الإيمان بأن الله سبحانه وتعالى خالق كل شئ، فهو خالق كل عامل وعمله، وكل متحرك وحركته، وكل ساكن وسكونه، وما من ذرّة في السماوات وفي الأرض إلا والله سبحانه وتعالى خالقها وخالق حركتها وسكونها، سبحانه لا خالق غيره ولا ربّ سواه .
ومن الأدلة من القرآن.
1 ـ قال تعالى: ﴿قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ﴾ [الصافات: 95-96]. أي خلقكم وعملكم، فتكون ما مصدرية، وقيل: إنها بمعنى الذي، فيكون المعنى: والله خلقكم وخلق الذي تعملونه بأيديكم وهو الأصنام .
وقد ذكر ابن كثير القولين ثم قال: وكلا القولين متلازم والأول أظهر ، وقد علل ذلك بما يؤيده من رواية البخاري في أفعال العباد عن حذيفة ـ رضي الله عنه ـ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله يصنع كل صانع وصنعته وتلا بعضهم عند ذلك ﴿وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ﴾ فأخبر الصناعات وأهلها مخلوقة ، فالله ـ تعالى ـ خالق الخلق وأفعالهم كما دلت على ذلك، الآية والحديث .
2 ـ قال تعالى:﴿اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ﴾[الرعد: 16]، وفي آية أخرى: ﴿ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ﴾ [غافر: 62].
وهذه نصوص واضحة في الدلالة على مرتبة الخلق، وقد جاءت الآية الأولى في معرض إنكار أن يكون للشركاء خلق كخلقه ـ سبحانه وتعالى ـ فنفي ذلك سبحانه آمراً رسوله أن يقرر هذه الحقيقة التي تفصل في الأمر، وتدل على وحدانية الله ـ تعالى ـ وانفراده بالخلق والرزق ﴿قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ﴾ [الرعد: 16]، وفي موضع آخر جاءت هذه الآية لبيان قدرة الله ـ تعالى ـ وكماله ودلائل وحدانيته ﴿اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ﴾ [الزمر: 62]" اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ" (الزمر : 62) ، أما الآية الثانية فقد جاءت أيضاً لبيان قدرة الله التامة، حيث جعل لعباده الليل والنهار ثم بين سبحانه أنه خالق كل شئ .
3 ـ وقال تعالى: ممتناً على الصحابة ـ رضوان الله تعليهم ـ بعد أن أمرهم بالتثبت في خبر الفاسق قال تعالى: "وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ" (الحجرات : 7) . والشاهد قوله: " وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ....." فهو سبحانه هو الذي حسنه بتوفيقه وقربه منكم، وهو الذي جعل ما يضاد الإيمان من الكفر والفسوق والعصيان مكروهاً عندكم وذلك بما أودع في قلوبكم من كراهة الشر وعدم إرادة فعله، فالفاعل في كل ذلك هو الله تعالى .وهناك آيات كثيرة تدل على أن الله ـ تعالى ـ هو المضل والهادي، والمؤيد لعباده المؤمنين، والهازم لأعدائهم وأنه المضحك والمبكي، والمميت والمحيي، وكل ذلك دليل مرتبة الخلق.
وقد أورد الحافظ ابن كثير هذا الدعاء في تفسيره آية الحجرات السابقة " وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ" قال لمّا كان يوم أحد وإنكفأ المشركون قال صلى الله عليه وسلم: "استووا حتى أثنى على ربيِّ" فصاروا خلفه صُفُوفاً: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اللهم لك الحمد كله، اللهم لا قابض لما بسطت، ولا باسط لما قبضت، ولا هادي لما أضللت، ولا مضل لمن هديت، ولا معطي لما منعت، ولا مانع لما أعطيت، ولا مقرب لما بعدت، ولا مباعد لما قربت، اللهم أبسط علينا من بركاتك ورحمتك وفضلك ورزقك اللهم إني أسألك النعيم المقيم الذي لا يحول ولا يزول، اللهم إني أسألك النعيم يوم العيلة، والأمن يوم الخوف، اللهم إني عائذ بك من شر ما أعطيتنا وشر ما منعت، اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين، اللهم توفنا مسلمين، وأحيينا مسلمين وألحقنا بالصالحين، غير خزايا ولا مفتونين، اللهم قاتل الكفرة الذين يكذبون رسلك، ويصدون عن سبيلك، واجعل عليهم رجزك وعذابك، اللهم قاتل الكفرة الذين أوتوا الكتاب إله الحق . فترى في هذا الحديث الإقرار بأن الله ـ تعالى ـ هو الفاعل لهذه الأمور، وهذا دليل على مرتبة الخلق .
ـ أدلة هذه المرتبة من السنة:
1 ـ عن زيد بن أرقم ـ رضي الله عنه ـ قال: لا أقول لكم إلا كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: كان يقول: اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل، والجبن والبخل، والهرم وعذاب القبر، اللهم آت نفسي تقواها وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها .
والشاهد قوله:" اللهم آت نفسي تقواها وزكاها..، فالفاعل هو الله ـ تعالى ـ فهو الذي يطلب منه ذلك، ولفظ "خير" ليس للتفضيل، بل لا مزكي للنفس إلا الله، ولهذا قال بعد ذلك أنت وليها ومولاها ، فهو سبحانه الملهم للنفس الخير والشر. قال تعالى:" فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا" (الشمس: 8) . قال سعيد بن حبير في تفسير هذه الآية " فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا" أي: فالخلق لله والإنسان قادر على سلوك أيهما شاء ومخير فيه، وقال ابن زيد في معنى الآية: جعل ذلك فيها بتوفيقه إياها للتقوى، وخذلانه إياها بالفجور .
2 ـ وعن البراء بن عازم ـ رضي الله عنه ـ قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يوم الخندق ينقل معنا التراب وهو يقول:
والله لولا الله ما اهتدينا ولا صمنا ولا صلينا
فأنزلن سكينة علينا وثبت الأقدام إن لاقينا
والمشركون قد بَغَوْا علينا إذا أرادوا فتنة أبينا
وفي رواية أخرى للبخاري: ولا تصدقنا ولا صلينا ، بدل: ولا صمنا ولا صلينا، وبهذه الرواية يستقيم الوزن، قال ابن حجر: وهو المحفوظ . ودليل هذه المرتبة قوله: لولا الله ما اهتدينا، ولا تصدقنا ولا صلينا، فإنها دليل على أن الله هو خالق العباد وأفعالهم ومنها: الهداية، والصدقة، والصلاة .
3 ـ وعن ورّاد مولى المغيرة بن شعبة قال: كتب معاوية إلى المغيرة: أكتب إليّ ما سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول خلف الصلاة، فأملى عليّ المغيرة قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول خلف الصلاة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد . والشاهد قوله : اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت فالمعطي والمانع هو الله ـ تعالى ـ، فهو الفاعل لهما، وهذا يدل على أن الخالق هو الله ـ سبحانه وتعالى ـ .وقوله :"ولا ينفع ذا الجد منك الجد" أي: لا ينفع ذا الغنى منك غناه، أو لا ينجيه حظه منك، بل ينفعه عمله الصالح .
4 ـ وقد قال صلى الله عليه وسلم لأبي موسى الأشعري ـ رضي الله عنه ـ :يا عبد الله ابن قيس، ألا أدلك على كنز من كنوز الجنة، فقلت: بلى يا رسول الله، قال: قل: لا حول ولا قوة إلا بالله . والشاهد قوله: لا حول ولا قوة إلا بالله، ففيها الاعتراف بأنه لا صانع غير الله، ولا راد لأمره وأن العبد لا يملك من أمره شيئاً، فمعناها: لا حركة ولا أستطاعة ولا حيلة إلا بمشيئة الله تعالى، وقيل معناه لا حول في دفع شر ولا قوة في تحصيل خير إلا بالله، وقيل: لا حول عن معصية الله إلا بعصمته، ولا قوة على طاعة الله إلا بمعونته، وحُكِيَ هذا عن ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ وكله متقارب ، والكنز هنا: معناه ثواب مُدَّخر في الجنة عند الله وهو ثواب نفيس .
5 ـ وعن علي بن أبي طالب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه كان إذا قام إلى الصلاة قال: وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين وإذا سجد قال: اللهم لك سجدت وبك آمنت ولك أسلمت سجد وجهي للذي خلقه وصوره وشق سمعه وبصره تبارك الله أحسن الخالقين . ففي الحديث: دلالة على أن الله فطر السموات والأرض أي خلقهن وأبدعهن وأتقن صنعهن وأوجدهن من العدم على غير مثال سابق، فخلقه سبحانه لهذا الكون من أرض وسموات وما فيهن من رطب ويابس ومخلوقات عجيبة أكبر دليل على هذه المرتبة وأن الله يخلق الخلق بقدرته على ما اقتضاه علمه السابق ومشيئته النافذة .
6 ـ قال صلى الله عليه وسلم: سيد الاستغفار أن تقول: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما أستطعت أعوذ بك من شر ما صنعت أبوء لك بنعمتك علي وأبوء لك بذنبي، فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، قال: ومن قالها من النهار موقناً بها فمات من يومه قبل أن يمسي فهو من أهل الجنة ومن قالها من الليل وهو موقن بها فمات قبل أن يصبح فهو من أهل الجنة .
والحديث يدل على شيء مما خلق الله تعالى وهو خلق الإنسان وما احتواه هذا المخلوق من أعضاء وأجهزة يعجز الإتيان بمثلها إلا من هو خالق كل شيء سبحانه فالناظر في نفسه ودقة تكوينها وعجيب خلقتها يؤمن بأن الله خالق كل شيء ، فتضمن هذا الاستغفار الاعتراف من العبد بربوبية الله وإلهيته وتوحيده والاعتراف بأنه خالقه، العالم به إذ انشأه نشأة تستلزم عجزه عن أداء حقه وتقصيره فيه .
يمكنكم تحميل سلسلة كتب الإيمان كتاب :
الإيمان بالقدر
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/Book96.pdf