الأربعاء

1446-11-02

|

2025-4-30

(اللياقة البدنية العالية لنور الدين زنكي)

من كتاب عصر الدولة الزنكية ونجاح المشروع الإسلامي بقيادة نور الدين الشهيد في مقاومة التغلغل الباطني والغزو الصليبي

الحلقة: 93

بقلم: د.علي محمد الصلابي

جمادى الآخرة 1444ه/ ديسمبر 2022م

 

تطلبت حياة نور الدين محمود الحافلة بالعمل المتواصل، والجهاد المضني، جسداً قوياً قادراً على تحمُّل الأعباء، والمشقات، ولا يتمّ بناء الجسم القوي إلا بممارسة الرياضة ؛ ولذلك كان نور الدين مواظباً على ممارسة الألعاب الرياضية المعروفة في زمانه، بما يتعلق بالفروسية، وأعمال القتال، وكان بشكل خاص مولعاً بلعبة الكرة أو الصولجة، التي تدعى في هذه الأيام بلعبة البولو(1).

ويصفه ابن الأثير بقوله:«من أحسن الناس لعباً بالكرة وأقدرهم عليها، ولم يُر جوَكانه يعلو رأسه وكان ربما ضرب الكرة، فتعلو، فيجري الفرس، ويتناولها بيده من الهواء ويرميها إلى اخر الميدان، وكانت يده لا ترى والجوكان فيها، بل تكون في كم قبائه استهانة باللعب»(2)، وعندما احتجَّ عليه أحد الزاهدين من أصحابه؛ لأنه يلهو، ويعذب الخيل لغير فائدة دينية؛ قال: «والله ما حملني على اللعب بالكرة اللهو، والبطر، وإنما نحن في ثغر، والعدو قريب منا، وبينما نحن جلوس؛ إذ يقع صوت فنركب في الطلب، ولا يمكننا أيضاً ملازمة الجهاد ليلاً ونهاراً، شتاءً وصيفاً؛ إذ لا بد من الراحة للجند، ومتى تركنا الخيل على مرابطها صارت جماماً لا قدرة لها على إدمان السير في الطلب، ولا معرفة لها أيضاً، بسرعة الانعطاف في الكرِّ، والفرِّ في المعركة، فنحن نركبها، ونروضها بهذا اللعب، فيذهب جمامها، وتتعود سرعة الانعطاف والطاعة لراكبها في الحرب، فهذا والله الذي يبعثني على اللعب بالكرة»(3).

وقد فسر نور الدين بكلامه هذا الممارسة الرياضية تفسيراً إسلامياً رائعاً في جوابه على اعتراض أحد إخوانه الزُّهاد عندما كتب له(4)، ففي هذا التفسير المنطقي والتحليل التفصيلي للعبة البولو كشفٌ، وتوضيحٌ لنفسية نور الدين، فهو لا يلعب الكرة للعبث، وإهدار الوقت، وإنما لتحقيق العديد من الفوائد التي هي في الحقيقة استعداد، وتحضير للجهاد، تحضير لأجسام اللاعبين، ولأجسام خيولهم، وإشغال: أوقات الفراغ، بما هو مفيد إضافةً إلى ما تقتضيه الرياضة من راحة نفسية، واستجمام، وصفاء التفكير، وذهاب الهمِّ للجنود والقادة، وفي هذا الجواب لصاحبه الزاهد تظهر روح نور الدين الريّاضية في أعلى درجاتها، فهو يخاطب الزاهد حسب مستواه من العلم، والمعرفة، ويأتيه من الباب الذي يقنعه، دون أن يجرح شعوره باتهامه بقلة المعرفة، أو التزمت، أو التعصب(5).

وبهذا الموقف يبيِّن لنا نور الدين فهمه للإسلام بالمنظور الشمولي الذي كان عليه رسول الله وأصحابه، فقد روى البخاري في صحيحه عن أبي بردة في قصة بعث أبي موسى، ومعاذ إلى اليمن، وفي آخره قال أبو موسى لمعاذ: فكيف تقرأ أنت يا معاذ؟ قال: أنام أوَّل الليل، فأقوم وقد قضيت جزئي من النوم، فأقرأ ما كتب الله لي، فأحتسب نومتي كما أحتسب قومتي(6). وفي كلام معاذ ـ رضي الله عنه ـ دليل على أن المباحات يؤجر عليها بالقصد والنية. وهذا الفهم يجعل المسلم يقبل على شؤون الحياة كلها، وكلُّه حرص على إتقانها لكونها عبادة(7) لله.

إن من أخطر الانحرافات، التي وقعت فيها الأجيال المتأخرة من المسلمين، انحرافهم عن تصور مفهوم العبادة، وحين يعقد الإنسان مقابلة بين المفهوم الشامل للعبادة الواسع العميق، الذي كان يمارسه نور الدين، وانعكاسه على جنوده وشعبه ودولته، والمفهوم الهزيل الضئيل، الذي تفهمه الأجيال المعاصرة؛ لا يستغرب كيف هوت هذه الأمة من عليائها لتصبح في هذا الحضيض، الذي نعيشه اليوم، وكيف هبطت من مقام الريادة والقيادة للبشرية كلها؛ لتصبح ذلك الغثاء الذي تتداعى عليه الأمم تنهشه من كل جانب كما تنهش الفريسة الذئاب.

إن من شروط النهوض، التي نتعلمها من دراستنا لسيرة نور الدين الشهيد أن يكون مفهوم العبادة في حسِّ جيلنا: أن عبادة الله هي غاية الوجود الإنساني كله، كما نفهم من قول الله تعالى ﴿وَمَا خَلَقۡتُ ٱلۡجِنَّ وَٱلۡإِنسَ إِلَّا لِيَعۡبُدُونِ ٥٦﴾ [الذاريات: 56] وبهذا الفهم لمفهوم العبادة عند نور الدين وجيله تحققت انجازات رائعة في كل اتجاه خاضته الدولة النورية.

قال ابن الأثير: «في حديثه عن نور الدين محمود: وكان ـ رحمه الله ـ لا يفعل فعلاً إلا بنية حسنة، ثم ذكر قصة اعتراض الزاهد على لعبه بالخيل والكرة التي ذكرتُها انفاً، ثم علق ابن الأثير بعد نهاية القصة، فقال: فانظر إلى هذا الملك المعدوم النظير، الذي يقلُّ في أصحاب الزوايا المنقطعين إلى العبادة مثله، فإن من يجيء إلى اللعب يفعله بنية صالحة؛ حتى يصير من أعظم العبادات، وأكثر القربات، يقلُّ في العالم مثله، وفيه دليل على أنه كان لا يفعل شيئاً إلا بنية صالحة. وهذه أفعال العلماء الصالحين العاملين»(8).

والملاحظ في حياة نور الدين صياغة حياته ودولته كلها صياغة إيمانية ربانية ملتزمة بمنهج رب العالمين، وامتثالاً، وتحقيقاً لقول الله تعالى: ﴿قُلۡ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحۡيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ ١٦٢﴾ [الأنعام :162]

إن من أسباب ضياع الأمة، وضعفها، وانهزامها أمام أعدائها فقدَها لشرط مهم من شروط النهوض والتمكين، ألا وهو تحقيق العبودية بمفهومها الشامل الصحيح(9).

وهكذا كان نور الدين محمود لا يغيب عنه مفهوم العبادة الشامل في لهوه، ولعبه، وجده، وكان يمارس ألعاب أخرى تشبه في مغزاها وفائدتها لعبة البولو كلعبة طعن الحلق، ورمي القبق(10) فكانت رحلات الصيد الممتعة من رياضته الأخرى، تحمل من الجدّ جنب متعتها البريئة ما يجعلها من بين المهارات الفروسية، التي يتقنها ويتعشقها يومذاك الفارس، والمجاهد، ولقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في تفسير قوله تعالى: ﴿وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا ٱسۡتَطَعۡتُم مِّن قُوَّةٖ٦٠ ﴾ [الأنفال :60] ألا إنَّ القوة الرمي، ألا إنَّ القوة الرمي(11)، ألا إنَّ القوة الرمي». وقال: «من تعلم الرمي ثم تركه فليس منا(12)».

وليس مهارات الصيد ـ في نظر نور الدين محمود زنكي ـ سوى محاولة من بين عديد من المحاولات لتركيز القدرة على الرمي، وحمايتها من التبدد والنسيان. وحكى أسامة بن منقذ في كتابه (الاعتبار) عن ممارسة نور الدين لرياضة الصيد: وظل نور الدين يمارس رياضة الصيد، ويتعشق لعب الكرة، والرماية؛ حتى مرضه الأخير، الذي أودى به بعد أيام قلائل من ذلك اليوم الحافل، الذي قرّر فيه ختان ولده الملك الصالح إسماعيل حيث أقيمت الاحتفالات، ورددت الأناشيد، وخرج الرجل مع بعض أصحابه إلى الميدان الأخضر شمالي دمشق لممارسة العديد من ألعاب الفروسية، كطعن الحلق، ورمي القبق، كما يقول العماد الأصفهاني. فما غادر الساحة إلا وهو يعاني ألماً حاداً، وسرعان ما أودى بحياته بعد قليل(13).

 

مراجع الحلقة الثالثة والتسعون:

(1) دور نور الدين محمود في نهضة الأمة ص 134.

(2) الجوكان هو العصا التي تضرب بها الكرة.

(3) الباهر ص 168 ـ 169.

(4) نور الدين محمود الرجل والتجربة ص 33.

(5) دور نور الدين محمود في نهضة الأمة ومقاومة غزو الفرنجة ص 134.

(6) البخاري، كتاب المغازي، باب بعثة أبي موسى الأشعري رقم 42.

(7) فقه النصر والتمكين ص 197.

(8) عيون الروضتين (1/360).

(9) فقه النصر والتمكين ص 190.

(10) القبق: لعبة القبق عبارة عن خشبة عالية في أعلاها خشبة مستديرة، توضع الخشبة في أرض مستوية ويتم رمي السهام عليها.

(11) مسلم رقم 1917.

(12) مسلم رقم 1919.

(13) البرق ص 150 ـ 154.

 

يمكنكم تحميل كتاب عصر الدولة الزنكية ونجاح المشروع الإسلامي بقيادة نور الدين الشهيد في مقاومة التغلغل الباطني والغزو الصليبي

من الموقع الرسمي للدكتور علي الصَّلابي

http://www.alsallabi.com/salabibooksOnePage/40

 


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022