الأربعاء

1446-11-02

|

2025-4-30

تأملات في الآية الكريمة

﴿وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا﴾

من كتاب النبي الوزير يوسف الصديق عليه السلام للدكتور علي محمد الصلابي

الحلقة: 72

بقلم الدكتور علي محمد الصلابي

- ﴿وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا﴾: أثبتتْ الآية همَّ امرأة العزيز وقصدها الفاحشة، وعزمها عليها، ونفت همّ يوسف عليه السلام، فما همَّ بالفاحشة، ولا قصد إليها ولا عزم عليها.

﴿وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ﴾: أكّدت الآية همّ المرأة باللام الموطِّئة للقسم، وبــــ: (قد) الدّالة على التحقيق والتوكيد، وعندما تحدّثت الآية عن يوسف نفت همّه: ﴿وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ﴾ فلم يهمّ بها عليه السلام، ولم يقع منه أيّ قصد للفاحشة والمعصية؛ لأنّه رأى برهان ربه، وكان عليه السلام حاضر القلب والنفس، مع الله وكان في مرتبة الإحسان الّتي أشرنا سابقاً إليها عند قوله تعالى: ﴿وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ﴾ [يوسف: 22] والتي وصفها سيدنا رسول الله ﷺ بقوله: "أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك".(1) والآية بينت فضله سبحانه على يوسف، وتثبيته له في محنته فلولا أن رأى برهان ربه لهم به. و (لولا) حرف يدلّ على امتناع شيء لوجود غيره، وهمّ يوسف عليه السلام لم يقع، ولم يوجد، لوجود برهان الله تعالى، وجواب (لولا): هنا مقدم، أو مقدر محذوف دلّ عليه ما قبلها كما يقال: قد كنت من الهالكين لولا أن فلاناً خلّصك. وما زعمه بعض علماء اللغة من أنّ تقدّم جواب (لولا) شاذ وغير موجود في الكلام الفصيح، غير صحيح، فالقرآن الكريم هو أفصح كلام عربي، كما مرّ معنا في أوّل السّورة: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [الحجر: 9]، فهو الكلام الّذي يُحتجّ به على غيره، ولا يُحتجُّ بغيره عليه أبداً.

وقد تكرّر مثل هذا في القرآن الكريم في قوله: ﴿إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [القصص: 10]، فلولا تثبيت الله لأمّ موسى وربطه على قلبها، لكادت أن تكشف أمره، وكذلك هنا لولا تثبيت الله تعالى ليوسف لهمّ بها، فالأمر خطير والمحنة شديدة، وعناية الله تعالى ورعايته كانت مع يوسف عليه السلام تثبّته وتحفظه، فما همَّ وما عزم. ومثله أيضاً قوله تعالى: ﴿إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا﴾ [الفرقان: 42].

والهمّ والعزم من أعمال القلب، وقلب يوسف عليه السلام كان ممتلئاً بذكر الله تعالى، فلا يجتمع فيه النقيضان، دلّ عليه ما حكاه سبحانه عنه فيما سبق: ﴿قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إنّه رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إنّه لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ﴾ [يوسف: 23]، ولهذا قال رسول الله ﷺ: "لا يزني الزاني حين يزني، وهو مؤمن".(2) فلا يلتفت إلى بعض الروايات المنسوبة إلى بعض الصحابة والتابعين، والتي ذكرها بعض المفسرين، فهي واضحة البطلان، ظاهرة الفساد، بعضها بقول:

- جلس يوسف منها مجلس الرجل من المرأة.

- بعضها شطح بخياله إلى شيء من التفصيل فقال: استلقت وجلس بين جليها، ينزع ثيابه ويحل التُّكة – رباط السروال- كأنهم كانوا حاضرين معهما، وغفلوا عن الكلمة الصريحة المعلنة الّتي هتف بها لسانُ يوسف وقلبه: ﴿معاذ الله﴾.(3) ولقد قامت الأستاذة رحمة بن سعد - بالجزائر في كلية جامعة أبي بكر بقايد بتلمسان في كلية العلوم الإنسانية والعلوم الاجتماعية - بتقديم رسالة ماجستير في (قصّة يوسف عليه السلام دراسة استقرائيّة نقديّة)، أفادت وأجادت وبيّنت بطلان الكثير من الرّوايات الإسرائيليات الّتي سار خلفها بعض المفسرين والرّواة الّذين تأثروا بالأساطير الملفّقة والموضوعة والمدسوسة والخطيرة؛ المناقضة للشرع في قصّة يوسف عليه السلام وما نسب له في الهمّ والبرهان الّذي رآه، فقد كانت اعتداء صريحاً على عصمته عليه السلام.(4)

فالتحذير من تلك الأكاذيب واجب كالتي صوّرت له هيئة أبيه يعقوب في سقف المخدع عاضّاً على إصبعه بفمه، وصوّرت له لوحات كتب عليها آيات من القرآن الكريم – أي نعم من القرآن- تنهى عن مثل هذا المنكر، وهو لا يرعوي حتّى أرسل الله جبريل يقول له: أدرك عبدي. فجاء فضربه في صدره... إلى آخر هذه التصوّرات الأسطوريّة الّتي سار وراءها بعض الرواة وهي واضحة التلفيق والاختراع.(5)

إنّ الرّوايات الإسرائيلية حول البرهان الّذي رآه يوسف عليه السلام والردّ عليها، لا يقل شأناً عن مثيلاتها الّتي حكت زوراً وبهتاناً عن همْ يوسف عليه السلام، فكان الردّ عليها من الأوجه التالية:

- الاضطراب الفاحش في هذه الروايات من حيث السند، والتناقض من حيث المتن حيث يتعذر الجمع بينهما فضلاً عن قبولهما، فكيف نوفّق بين نداء جبريل ليوسف عليه السلام وتوبيخه له، مع ما رآه من صورة أبيه عاضّاً على إصبعه؟! وما زعموه من رؤية الآيات القرآنية الناهية عن الزنا، يؤكد أنّ الجمع بين هذه الروايات مستحيلاً.

- بل إنّ الرّواية الواحدة في حدّ ذاتها تفوح كذباً واختلاقاً لما فيها من ركاكة في العبير فضلاً عن معناها الّذي تحويه، فهل يعقل أن يكون الأنبياء وهم صفوة الخلق الّذين اصطفاهم الله سبحانه وتعالى للنبوة، هل يعقل أن يسوى بينهم وبين سائر الخلق ويكونوا عرضة للتوبيخ من الملائكة؟ فما فائدة الاصطفاء؟ بل كيف نتوقع امتناع يوسف عن الزنا - على حسب مروياتهم المفتراة - زجراً من أبيه، فأيّ فضل ليوسف إذا وهو النبيّ من سلالة الأنبياء وهم المعصومون بعصمة الله لهم.(6)

وذكر صاحب زاد المسير مستنكراً هذه الروايات على أنّها من أعمال القصاص بقوله: وقد أشرت إلى فسادها في كتاب: (المغني في التفسير)، وكيف بنبي كريم أن يخوَّف ويُرعب ويضطر إلى ترك هذه المعصية وهو مصرّ؟ هذا في غاية القبح.(7)

وعلّق الماوردي على الأقوال في (البرهان) بأنّ أغلبها من الإسرائيليات، الّتي لم يعرف لها سند ثابت صحيح، ولم يعرف بين الروايات الّتي ذكرت رواية مرفوعة يمكن الركون إليها.(8)بل هذه روايات المنحرفين من علماء بني إسرائيل الّتي فيها مطاعن على أنبياء الله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، وأمّا ما يخصّ ما ذكر من آيات قرآنيّة كانت زاجرة له، فإنّ المسلّم به والمقطوع به أنّ الآيات بذلك اللفظ العربي والأسلوب القرآني لم تنزل على نبي قط قبل النبيّ محمّد ﷺ. (9)

مراجع الحلقة الثانية والسبعون:

رواه البخاري، رقم: 50.

2 رواه مسلم، رقم: 57.

3 التفسير الموضوعي، (4/157).

4 الروايات الإسرائيلية في قصة يوسف، رحمة سعد، رسالة ماجستير، جامعة أبي بكر بلقايد، الجزائر، ص 17.

5 في ظلال القرآن، (4/1981).

6كلية العلوم الإنسانية والعلوم الاجتماعية، ص 57.

7 زاد المسير في علم التفسير، أبو الفرج ابن الجوزي، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى، 1422ه، (2/210).

8 الروايات الإسرائيلية في قصّة يوسف، ص 57.

9 المصدر السابق نفسه، ص 58.

يمكنكم تحميل كتاب النبي الوزير يوسف الصديق عليه السلام

من الموقع الرسمي للدكتور علي محمد الصلابي http://www.alsalabi.com/salabibooksOnePage/668


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022