ظروف تولي يزيد بن الوليد بن عبد الملك الخلافة
من كتاب الدولة الأموية عوامل الازدهار وتداعيات الانهيار (ج2):
الحلقة: 238
بقلم: د. علي محمد الصلابي
ذو القعدة 1442 ه/ يونيو 2021
هو يزيد بن الوليد بن عبد الملك بن مروان بن الحكم ، وأمه شاه افريد بنت فيروز بن يزدجرد ، اخر ملوك الفرس، وكان يجمع في أصوله بين الدم العربي والفارسي والرومي والتركي ، فجده لأبيه عبد الملك بن مروان ، وهو عربي ، وجده لأمه فيروز بن يزدجرد وهو فارسي، وجدة جده لأمه ابنة قيصر ، وأم جدته لأمه ابنة خاقان الترك ، فكان يفخر ويقول:
أنا ابنُ كسرى وأبي مروانُ وقيصرُ جَدِّي وجدِّي خاقانُ
أولاً: منهجه في الحكم:
لما وافت يزيد البشائر بخمود الفتن ، خرج إلى الجامع في موكب مشهود ، وألقى ما يسمّونه في العصور الحديثة خطاب العرش ، وقد ضمن فيه أصول سياسته في الحكم. وتعتبر خطبته أوفى صياغة لمشروعه ، فبعد أن حمد الله قال: أيها الناس ! والله ما خرجت أشراً ولا بطراً ، ولا حرصاً على الدنيا ولا رغبة في الملك ، وما بي إطراء نفسي وإني لظلوم لها ، ولقد خسرت إن لم يرحمني ربي. ولكني خرجت غضباً لله ودينه ، وداعياً إلى الله وسنة نبيه ، لما هُدمت معالم الهدى ، وأطفأى نور التقوى ، وظهر الجبار العنيد المستحل لكل حرمة ، والراكب لكل بدعة ، مع أنه والله ما كان يؤمن بيوم الحساب ، ولا يصدق بالثواب والعقاب ، وإنه لابن عمي في النسب وكفيء في الحسب ، فلما رأيت ذلك استخرت الله في أمره وسألته أن لا يكلني إلى نفسي ، ودعوت إلى ذلك من أجابني من أهل بيتي حتى أراح الله منه العباد ، وطهر منه البلاد بحول الله وقوته لا بحولي وقوتي.
أيها الناس إن لكم عليّ أن لا أضع حجراً على حجر ولا لبنة على لبنة ، ولا أكري نهراً ولا أكنز مالاً ، ولا أعطيه زوجاً ولا ولداً ، ولا أنقل مالاً من بلد إلى بلد حتى أسد فقر ذلك البلد وخصاصة أهله بما يغنيهم ، فإن فضَل فضْل نقلته إلى البلد الذي يليه ممن هو أحوج إليه منه ، وأن لا أجمّركم في ثغوركم فأفتنكم في أهليكم ، ولا أغلق بابي دونكم ، فيأكل قويكم ضعيفكم ، ولا أحمل على أهل جزيتكم ما أجليهم به عن بلادهم وأقطع نسلهم ، ولكم عندي أعطياتكم في كل سنة ، وأرزاقكم في كل شهر ، حتى تستدر المعيشة بين المسلمين فيكون أقصاهم كأدناهم ، فإذا أنا وفيت لكم فعليكم بالسمع والطاعة وحسن المؤازرة والمكاتفة ، وإن أنا لم أوفِ لكم فلكم أن تخلعوني ، إلا أن تستتيبوني ، فإن أنا تبت قبلتم مني ، وإن عرفتم أحداً يقوم مقامي ممن يعرف بالصلاح يعطيكم من نفسه مثل ما أعطيتكم فأردتم أن تبايعوه ، فأنا أول من بايعه ودخل في طاعته. أيها الناس ، لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. أقول قولي هذا ، وأستغفر الله لي ولكم.
وقد تضمنت هذه الخطبة العديد من الأمور التي تستحق التوقف أمامها:
1 ـ شرح للتبريرات التي دفعته للقيام بهذه الخطوة ، وفي المقدمة: أن هذا الخروج كان غضباً لله ودينه ، ودعوة إلى سنة نبيه ، نظراً لما فعله الوليد الجبار العنيد المستحل للحرمات وما جاء به من بدع منكرة ـ حسب رأيه.
2 ـ أنه يحدد برنامجه خطوة خطوة ، إذ إنه يتعهد أن لا يضع: حجراً على حجر ولا لبنة على لبنة ، ولا أكري نهراً ولا أكنز مالاً ولا أعطيه زوجاً ولا ولداً. إذ المعروف أن معظم الخلفاء الأمويين ، أنفقوا أموالاً كثيرة في بناء القصور ، خاصة في دمشق والبادية على حد سواء. كما أنهم عمروا الكثير من المساجد في المدينة والقدس ودمشق وسواهم ، وفي الطريق إلى الحج.. ولابد أن يضاف إلى ذلك كله أن الخلفاء والأمراء الأمويين قاموا بكري الأنهر لإحياء الأراضي الموات التي استصلحوها ، وأنفقوا في سبيل
ذلك الكثير من الأموال العامة ، وفيما كانت سياستهم في جانب منها تقوم على الإنفاق من بيت المال.
3 ـ يؤكد يزيد أن كل منطقة من أجزاء الدولة الإسلامية ستنفق مداخيلها على شؤونها ، وهذا بمثابة تطور هام ، كان له أوليات في عهد عمر بن عبد العزيز؛ إذ إن ما أشرنا إليه عن إرساله الأموال من الشام إلى العراق ، كان انقلاباً نوعياً في العلاقات المالية بين المركز والأطراف. هنا نلمح خطوة إلى الأمام في إنفاق الواردات في أماكن جبايتها الأصلية؛ علماً أن الخلفاء الأمويين كانوا يضطرون إلى إرسال الأموال للإنفاق على الجنود والجيوش لقمع الانتفاضات والثورات. أما الان فالأمر قد اختلف كلياً ، إذ إنه في حال توافر فائض يمكن استعماله لسد حاجات المناطق المجاورة وليس لملء خزائن السلطة المركزية.
4 ـ إنه يتعهد بالامتناع على إطلاق حملات عسكرية تؤدي إلى بقاء الجيوش بعيداً عن منازلها لمدد طويلة ، وهو ما يسمى بتجمير الجيش ، وهو ما مثَّل قضية خلال خلافة عمر ومن بعده من الخلفاء. ولا ننسى أن ثورة ابن الأشعث كانت في جانبها الأبرز تعبيراً عن رفض بقاء الجنود بعيدين عن مواطنهم ، حتى إن المهلب بن أبي صفرة نصح الحجاج بعدم التصدي لهم ، لأنهم لدى عودتهم سيكونون مندفعين كالسيل. على أن هذه القضية كانت أشد تأثيراً لدى جند الشام من العراقيين ، باعتبار أن الأولين باتوا قوة متفرغة للقتال سواء في الصوائف ، أو لقمع الثورات التي تنشب هنا أو هناك ، والتي شملت أجزاء الدولة في مراحل متلاحقة من دون استثناء. إذن نحنُ إزاء قضية تملك حساسية خاصة بالنسبة للجند الشاميين الذين باتوا قوة قمع كاملة المواصفات. ولما كانت أعطيات هؤلاء تتأخر ، فهو يعد بالأعطيات سنوياً والأرزاق شهرياً.
5 ـ يتوجه في خطابه أيضاً لأهل الجزية ، أو الشعوب المغلوبة في المشرق والمغرب، ويعدهم بمعاملة منصفة ، وهذه المعاملة المنصفة ستدفعهم إلى البقاء في قراهم وعلى خدمة أراضيهم ، من دون أن يضطروا إلى مغادرتها نحو المدن والمراكز ، ومن شأن هذه العدالة أن تحافظ عليهم في بلادهم وتحافظ على ذراريهم ، إذ إن تعرضهم للقهر عبر منوعات الضرائب التي كانت سارية؛ من شأنها تهجيرهم وإفناؤهم.
6 ـ إن هذه السياسات من شأنها أن تردم الهوة بين المسلمين.
والهوة المقصودة هنا هي هوة اجتماعية واقتصادية بطبيعة الحال. واستعمال مصطلح المسلمين وليس العرب له دلالته؛ إذ إنه يدخل عملياً في هذا الموالي المسلمين بما يزيل الدونية التي عانوا منها؛ مما يعني هناك نقلة نحو المساواة التي كان عمر بن عبد العزيز قد خطا نحوها.
7 ـ إن هذا البرنامج الذي يلتزم به أمامهم هو العقد الذي يرتبط به معهم ، وكما أنه يتعهد بالإيفاء ، فـإن هذا يتطلب منهم السمع والطاعـة وحسن المؤازرة والمكاتفـة ، أما إذا لم يف فإن لهم خلعه. هـذا العقد الذي تتحدد فيه بدقـة الحقوق والواجبات بين الحاكم والمحكوم ، تنسف عملياً كل ادعاءات السلطة المطلقة... وهو فكر يجزم أن أمير المؤمنين وإن كان يتمتع بسلطة ، إلا أنها ليست مطلقة ، إذ إنها تخضع لموافقة المجتمع عليها ، فإن أساء استعمال الصلاحيات التي يخولها له موقعه كان ذلك مبرراً لخلعه.
وأهمية هذه النقاط أنها في كل واحدة منها تقدم جواباً على واحدة من إشكاليات الدولة الأموية ، إلا أن الجانب النظري شيء والتطبيق العملي قضية أخرى. فالخليفة الثائر لم يستطع أن يفي بوعوده للناس ، واضطر أن يحابي اليمنيين الذين ساعدوه في الوصول إلى الخلافة ، وأن يغدق عليهم الأموال ، فأدى ذلك إلى نضوب في بيت المال ، مما اضطره إلى إنقاص أعطيات الجند ، فسموه الناقص ، وهي تسمية لها دلالتها ، كما أن القبائل المضرية نفرت منه لموالاته لليمنيين ، فهبت في وجهه ثورات المضرية قضى مدة خلافته القصيرة في قمعها.
يمكنكم تحميل كتاب الدولة الأموية عوامل الازدهار وتداعيات الانهيار
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي:
الجزء الأول:
http://alsallabi.com/uploads/file/doc/BookC9(1).pdf
الجزء الثاني:
http://alsallabi.com/uploads/file/doc/BookC139.pdf
كما يمكنكم الاطلاع على كتب ومقالات الدكتور علي محمد الصلابي من خلال الموقع التالي:
http://alsallabi.com