الخميس

1446-11-03

|

2025-5-1

تمكين الله تعالى لموسى (عليه السلام)

من كتاب (فقه النصر والتمكين)

بقلم: د. علي محمد الصلابي

الحلقة: الخامسة عشر.

 

لقد حان وقت خلاص بنى إسرائيل من الظلم والاضطهاد والعسف والجور، وأكمل موسى عليه السلام مدته في أهل مدين، وعزم على التكليف الرباني بالرسالة والنهوض بالشعب المستضعف من قبل رب العالمين لموسى الكليم، وأمده المولى عَزَّ وَجَلَّ بالمعجزات الواضحة والبراهين الدامغة والأدلة الساطعة.

وأمره بالذهاب إلى القوم الفاسقين لإقامة الحجة على الفراعين وتخليص بنى إسرائيل من ظلم العبودية وظلم العباد وقسوة الفراعنة حتى يعبدوا الله أحرارًا، ولم يتردد موسى عليه السلام في طلب العون من مولاه وربه ومبتغاه، قال سيد قطب رحمه الله: لقد استجاب ربه رجاءه وشد عضده بأخيه، وزاده على ما رجاه البشارة والتطمين (وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا) [القصص: 35]، فهما لن يذهبا مجردين إلى فرعون الجبار، إنما يذهبان إليه مزودين بسلطان لا يقف له في الأرض سلطان، ولا تنالهما معه كف طاغية ولا جبار (فَلاَ يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا) [القصص: 35]، وحولكما من سلطان الله سياج ولكما منه حصن وملاذ، ولا تقف البشارة إلى هذا الحد ولكنها الغلبة للحق، والغلبة لآيات الله يجابهان بها الطغاة، فإذا هي وحدها السلاح القوي وأداة النصر والغلبة (بِآيَاتِنَا أَنتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ) [القصص: 35] (1).

إن موسى عليه السلام باشر في تنفيذ أمر ربه سبحانه وتعالى، وأيده بالمعجزات وصدع بكلمة الحق أمام فرعون الطاغية الجبار، وأقام عليه الحجة والبراهين، والأدلة على صدق رسالته وتعرّض فرعون وقومه بالأخذ بالسنين والنقص في الثمرات وابتلاهم الله بالقمل والضفادع والدم وغير ذلك.

ولم يؤمن الجبار العنيد؛ بل اتهم موسى الكليم بالسحر وقرّر أن يجمع كل السحرة للوقوف أمام دعوة الحق التي يقودها رسول الله موسى عليه السلام.

واجتمع الفريقان لميقات يوم معلوم، وبدأ السجال، وألقى السحرة إفكهم وخداعهم ثمّ عرج موسى عليه السلام على باطلهم بالحق المبين، بإلقائه العصا التي انقلبت إلى حية تسعى، فإذا هي تلقف ما يأفكون وكانت الجولة والصولة.

قال تعالى: (وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ ` فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ` فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانقَلَبُوا صَاغِرِينَ) [الأعراف: 117- 119].

قال صاحب الظلال:

(إنه الباطل ينتفش ويسحر العيون ويسترهب القلوب ويخيل إلى الكثيرين أنه غالب، وأنه جارف وأنه محق، وما هو إلا أن يواجه الحق الهادئ الواثق حتى ينفشئ كالفقاعة، وينكمش كالقنفذ، وينطفئ كشعلة الهشيم، وإذا الحق راجح الوزن ثابت القواعد عميق الجذور، والتعبير القرآني هنا يلقى هذه الظلال وهو يصور الحق واقعًا ذا ثقل (فَوَقَعَ الْحَقُّ) وثبت واستقر وذهب ما عداه فلم يعدله وجود (وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) وغلب الباطل والمبطلون وذلوا وصغروا وانكمشوا بعد الزهو الذي كان يبهر العيون (فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانقَلَبُوا صَاغِرِينَ) ولكن المفاجأة لم تختم بعد والمشهد ما يزال يحمل مفاجأة كبرى: (وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ ` قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ ` رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ) [الأعراف: 120- 122].

إنها صولة الحق في الضمائر، ونور الحق في المشاعر، ولمسة الحق للقلوب المهيأة لتلقى الحق والنور واليقين) (2).

لقد احتج فرعون على إيمان السحرة وأرغى وأزبد، لأنهم آمنوا بدون إذنه: (آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَن آذَنَ لَكُمْ) [الأعراف: 122]، كأنما كان عليهم أن يستأذنوه في أن تنتفض قلوبهم للحق، وهم أنفسهم لا سلطان لهم عليها، أو يستأذنوه في أن ترتعش وجداناتهم وهم أنفسهم لا يملكون من أمرها شيئًا، ولكنه الطاغوت جاهل غير مطموس، وهو في الوقت ذاته متعجرف متكبر مغرور.

ثم إنه الفزع على العرش المهدد والسلطان المهزوز، والمسألة واضحة المعالم إنها دعوة موسى إلى رب العالمين هي التي تزعج وتخيف، إنه لا بقاء ولا قرار لحكم الطواغيت مع الدعوة إلى رب العالمين، وهم إنما يقوم ملكهم على تنحية ربوبية الله للبشر بتنحية شريعته وإقامة أنفسهم أربابًا من دون الله؛ يشرعون للناس ما يشاءون ويعبدون الناس لما يشرعون، إنهما منهجان لا يجتمعان، أو هما دينان لا يجتمعان, أو هما ربان لا يجتمعان. وهكذا أطلق فرعون ذلك التوعد الوحشي الفظيع: (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ` لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلاَفٍ ثُمَّ لأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ) [الأعراف: 124،123].

إنه التعذيب والتشويه والتنكيل وسيلة الطواغيت في مواجهة الحق الذي لا يملكون دفعه بالحجة والبرهان، وعدة الباطل في وجه الحق الصريح.

ولكن النفس البشرية حين تستعلي فيها حقيقة الإيمان تستعلي على قوة الأرض وتستهين ببأس الطغاة، وتنتصر فيها العقيدة على الحياة، وتختصر الفناء الزائل إلى جوار الخلود المقيم، إنها لا تقف لتسأل ماذا ستأخذ وماذا ستدع، ماذا ستقبض وماذا ستدفع، ماذا ستخسر وماذا ستكسب، وماذا ستلقى في الطريق من صعاب وأشواك وتضحيات؛ لأن الأفق المشرق الوضئ أمامها هناك، لا تنظر إلى شيء في الطريق (3).

(قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ ` وَمَا تَنقِمُ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ) [الأعراف: 125، 126]، لقد أقام موسى عليه السلام الحجج الدامغة والبراهين الساطعة، على فرعون الطاغية المتكبر وطلب منه أن يرسل معه بنى إسرائيل، فامتنع وشرع للكيد لموسى وقومه، وكانت النتيجة أن تمكن الإيمان من قلب السحرة وأعلنوها صيحة مدوية في آفاق الأرض: (فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ

الدُّنْيَا ` إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى) [طه: 72].

لقد انتقم فرعون من السحرة الذين آمنوا وصلبوا في جذوع النخل وقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، وتشاور الملأ من القوم مع زعميهم الطاغية، وقرر الأخير مضاعفة العذاب والانتقام من الشعب المستضعف الذي بدأ يزحف نحو النور والحرية والكرامة والتوحيد الصحيح.

-------------------------------------------

مراجع الحلقة الخامسة عشر:

(1) في ظلال القرآن (5/2693).

(2) في ظلال القرآن (3/1350).

(3) المصدر السابق (3/1351، 1352).

 

يمكنكم تحميل فقه النصر والتمكين

من الموقع الرسمي للدكتور علي محمد الصلابي


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022