الأربعاء

1446-11-02

|

2025-4-30

معنى العبادة وأبوابها ..

مختارات من كتاب (فقه النصر والتمكين)

بقلم الدكتور علي محمد الصلابي

الحلقة: الثانية والثلاثون

ينبغي لنا الإشارة إلى أن الأصل في العبادات المحضة المنع حتى يرد ما يدل على مشروعيتها, وأن أصل العادات العفو حتى يرد ما يدل على منعها, وذلك مبني على (أن تصرفات العباد من الأقوال والأفعال نوعان: عبادات يصلح بها دينه, وعادات يحتاجون إليها في دنياهم, فباستقراء أصول الشريعة نعلم أن العبادات التي أوجبها الله, أو أحبها لا يثبت الأمر بها إلا بالشرع, وأما العادات فهي ما اعتاده الناس في دنياهم مما يحتاجون إليه, والأصل فيه عدم الحظر, فلا يحظر منه إلا ما حظره الله سبحانه وتعالى, وذلك لأن الأمر والنهي هما شرع الله, والعبادة لابد أن يكون مأمورًا بها, فما لم يثبت أنه مأمور به, كيف يحكم عليه بأنه عبادة؟!.

وما لم يثبت من العبادات أنه منهي عنه, كيف يحكم عليه أنه محظور؟ والعادات الأصل فيها العفو, فلا يحظر منها إلا ما حرم) (1).

وهذا التقسيم في الحظر والإباحة لا يخرج شيئًا من أفعال الإنسان العادية من دائرة العبادة لله, ولكن ذلك يختلف في درجته ما بين عبادة محضة وعادة مشوبة بالعبادة, وعادة تتحول بالنية والقصد إلى عبادة, لأن المباحات يؤجر عليها بالنية والقصد الحسن إذا صارت وسائل للمقاصد الواجبة, أو المندوبة أو تكميلاً لشيء منهما) (3).

وقال النووي في شرحه لحديث «في بضع أحدكم صدقة» (4): (وفي هذا دليل على أن المباحات تصير طاعات بالنية الصادقة) (5).

ومن ذلك يتضح: (أن الدين كله داخل في العبادة, والدين منهاج الله جاء ليسع الحياة كلها, وينظم جميع أمورها من أدب الأكل والشرب وقضاء الحاجة إلى بناء الدولة, وسياسة الحكم, وسياسة المال, وشئون المعاملات والعقوبات, وأصول العلاقات الدولية في السلم والحرب.

إن الشعائر التعبدية من صلاة, وصوم, وزكاة, لها أهميتها ومكانتها ولكنها ليست العبادة كلها؛ بل هي جزء من العبادة التي يريدها الله تعالى.

إن مقتضى العبادة المطالب بها الإنسان, أن يجعل المسلم أقواله وأفعاله وتصرفاته وسلوكه وعلاقاته مع الناس وفق المناهج والأوضاع التي جاءت بها الشريعة الإسلامية, يفعل ذلك طاعة لله واستسلامًا لأمره..) (6).

والدليل على المفهوم الشامل للعبادة, من الكتاب والسنة وفعل الصحابة رضي الله عنهم: فأما من القرآن الكريم فقوله تعالى: " وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ" [الذاريات:56]، " وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ" [التوبة:31], " قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ` لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ" [الأنعام:163،162], " وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاَةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ القَيِّمَةِ" [البينة:5].

ومن السنة أحاديث كثيرة بعضها في عموم العادات بدون تخصيص وبعضها الآخر في أفراد السلوك العادي, وفي هذا الأخير دليل وتشبيه على المعنى العام المقصود إثباته هنا فمن ذلك:

قوله صلى الله عليه وسلم: «إن المسلم إذا أنفق على أهله نفقة, وهو يحتسبها كانت له صدقة» (7).

قوله صلى الله عليه وسلم: «كل ما صنعت إلى أهلك فهو صدقة عليهم» (8).

قوله صلى الله عليه وسلم: «دينار أنفقته في سبيل الله, ودينار أنفقته في رقبة, ودينار تصدقت به على المسكين, ودينار أنفقته على أهلك, أعظمها أجرًا الذي أنفقته على أهلك» (9).

وقال صلى الله عليه وسلم: «كل سُلامي من الناس عليه صدقة, كل يوم تطلع فيه الشمس تعدل بين الاثنين صدقة, وتعين الرجل على دابته فيحمل عليها, أو ترفع له متاعه صدقة, والكلمة الطيبة صدقة, وكل خطوة تخطوها إلى الصلاة صدقة, ودل الطريق صدقة, وتميط الأذى عن الطريق صدقة» (10).

وأما الاستدلال على عموم العبادة وشمولها لحياة الإنسان بفعل السلف وفهمهم ففيما روى البخاري في صحيحه عن أبي بردة (11) في قصة بعث أبي موسى ومعاذ إلى اليمن, وفي آخره قال أبو موسى لمعاذ: فكيف تقرأ أنت يا معاذ؟ قال: «أنام أول الليل فأقوم وقد قضيت جزئي من النوم فأقرأ ما كتب الله لي, فأحتسب نومتي كما أحتسب قومتي» (12). وفي كلام معاذ رضي الله عنه, دليل أن المباحات يؤجر عليها بالقصد والنية.

وهذا الفهم يجعل المسلم يقبل على شئون الحياة كلها وكله حرص على إتقانها لكونها عبادة لله تعالى ملتزمًا بالشروط الآتية:

1- أن يكون العمل مشروعًا في نظر الإسلام, أما الأعمال التي ينكرها الدين

فلا تكون عبادة بأي حال من الأحوال, قال الرسول ×: «.. إن الله تعالى طيب لا يقبل

إلا طيبًا..» (13).

2- أن تصحبه النية الصالحة, فينوي المسلم إعفاف نفسه, وإغناء أسرته, ونفع أمته, وعمارة الأرض كما أمره الله رب العالمين.

3- أن يؤدي العمل بإتقان وإحسان, قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله كتب الإحسان على

كل شيء..» (14).

4- أن يلتزم في عمله حدود الله تعالى, فلا يظلم, ولا يخون, ولا يغش, ولا يجور.

5- ألا يشغله عمله لمعاشه عن واجباته الدينية. قال تعالى: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَمَن يَّفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ"[المنافقون:9].

----------------------------------------

مراجع الحلقة الثانية والثلاثون:

(1) مجموع الفتاوى (29/116-117).

(2) انظر: حقيقة البدعة وأحكامها للغامدي (1/19).

(3) رواه مسلم, كتاب الزكاة, باب أن اسم الصدقة يقع على كل نوع من المعروف (1/697).

(4) شرح النووي مع مسلم, كتاب الزكاة, باب كل نوع من المعروف صدقة (7/97).

(5) مقاصد المكلفين, د. عمر الأشقر ص46-47.

(6) رواه البخاري, كتاب الإيمان, باب: ما جاء أن الأعمال بالنيات (1/24) رقم 55.

(7) سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني (3/22).

(8) رواه مسلم, كتاب الزكاة, باب: النفقة على العيال والمملوك (1/191).

(9) رواه البخاري, كتاب الصلح, باب: فضل الإصلاح بين الناس (3/227) رقم 2707.

(10) هو التابعي الثقة أبو بردة حارث, وقيل عامر بن أبي موسى عبد الله بن قيس الأشعري, ثقة كثير الحديث, تولى قضاء الكوفة للحجاج, ثم عزله, ت107هـ، انظر: سير أعلام النبلاء (4/343).

(11) البخاري, كتاب المغازي, باب: بعثة أبي موسى ومعاذ إلى اليمن (5/156) رقم 43،42.

(12) مسلم, كتاب الزكاة, باب: قبول الصدقة من الكسب الطيب (2/703).

(13) مسلم شرح النووي, كتاب العبد, باب: الأمر بإحسان الذبح (مجلد5) ج13, ص106.

(14) انظر: العبادة في الإسلام, د. القرضاوي, ص 63،62.

 

يمكنكم تحميل فقه النصر والتمكين

من الموقع الرسمي للدكتور علي محمد الصلابي

http://www.alsalabi.com/salabibooksOnePage/655


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022