الخميس

1446-11-03

|

2025-5-1

من معالم التمكين القرآنية .. الدستور العادل والمنهج التربوي والاهتمام بالعلوم المادية..

من كتاب (فقه النصر والتمكين)

بقلم الدكتور علي محمد الصلابي

الحلقة: الخامسة والعشرون

 

إن القرآن الكريم في قصة ذي القرنين وفي كل قصصه ركز على الدروس والعبر والحكم والسنن, ولم يهتم بكثير من القضايا التي لا تنفع الإنسان, ولذلك نجد في قصة ذي القرنين كثيرًا من المبهمات التي لا تفيد القارئ مثل: من هو ذو القرنين؟ وما شخصيته؟ وما حياته؟ وما الزمن الذي عاش فيه؟ والدولة التي حكمها, والحروب التي خاضها, والبلاد التي فتحها, ورحلته الأولى تجاه الغرب, وتحديد المنطقة التي وصل إليها, وتحديد المكان ذي العين الحمئة؟ وكيف وجد الشمس تغرب فيها, وأصل يأجوج ومأجوج, وتاريخهم, ومناطق سكنهم وإقامتهم بالضبط؟ وغير ذلك من التساؤلات (1).

معالم التمكين عند ذي القرنين:

أ- دستوره العادل:

إن المنهجية التي سار عليها ذو القرنين كحاكم مؤمن جعلته يلتزم بمعاني العدل المطلق في كل أحواله وسكناته, ولذلك سار في الناس والأمم والشعوب التي حكمها بسيرة العدل, فلم يعامل الأقوام التي تغلب عليها في حروبه بالظلم والجور والتعسف والتجبر والطغيان والبطش, وإنما عاملهم بهذا المنهج الرباني: " قَالَ أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُّكْرًا ` وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا" [الكهف: 88،87].

وهذا المنهج الرباني الذي سار عليه يدل على إيمانه وتقواه, وعلى فطنته وذكائه, وعلى عدله ورحمته؛ لأن الناس الذين قهرهم وفتح بلادهم ليسوا على مستوى واحد, ولا على صفات واحدة, ولذلك لا يجوز أن يعاملوا جميعًا معاملة واحدة؛ فمنهم المؤمن ومنهم الكافر, ومنهم الصالح, ومنهم الطالح فهل يتساوون في المعاملة؟

قال ذو القرنين: أما الظالم الكافر فسوف نعذبه لظلمه وكفره, وهذا التعذيب عقوبة له؛ فنحن عادلون في تعذيبه في الدنيا ثم مرده إلى خالقه لينال عذابه الأخروي.

إن الظالم والباغي الكافر في دستور ذي القرنين معذب مرتين؛ مرة في الدنيا على يديه, والأخرى يوم القيامة, حيث يعذبه الله عذابًا نكرًا, أما المؤمن الصالح فإنه مقرب من ذي القرنين, يجزيه الجزاء الحسن, ويكافئه المكافأة الطيبة, ويخاطبه بيسر وسهولة وإشراق وبر ومودة (2), لقد كان ميزان العدالة في حكمه بين الناس, هو التقوى والإيمان والعمل الصالح, ودائمًا يتطلع إلى مقامات الإحسان.

ب- منهجه التربوي في الشعوب:

إن الله تعالى أوجب العقوبة الدنيوية على من ارتكب الفساد في المجتمع وكلف أهل الإيمان ممن مكن لهم في الأرض أن يحرصوا على تنفيذ العقوبات للمفسد والظالم لكي تستقيم الحياة في الدنيا.

إن ذا القرنين يقدم لكل مسئول أو حاكم أو قائد منهجًا أساسيًا, وطريقة عملية لتربية الشعوب على الاستقامة والسعي بها نحو العمل لتحقيق العبودية الكاملة لله تعالى, قال سيد قطب -رحمه الله-: (وهذا دستور الحاكم الصالح, فالمؤمن الصالح ينبغي أن يجد الكرامة والتيسير والجزاء الحسن عند الحاكم, والمعتدي الظالم يجب أن يلقى العذاب والإيذاء.. وحين يجد المحسن في الجماعة جزاء إحسانه جزاءً حسنًا أو مكانًا كريمًا وعونًا وتيسيرًا, ويجد المعتدي جزاء إفساده عقوبة وإهانة وجفوة, عندئذ يجد ما يحفزهم إلى الصلاح والإنتاج, أما حين يضطرب ميزان الحكم, فإذا المعتدون المفسدون مقربون إلى الحاكم, مقدمون في الدولة, وإذا العاملون الصالحون منبوذون أو محاربون, فعندئذ تتحول السلطة في يد الحاكم سوط عذاب وأداة إفساد, ويصير نظام الجماعة إلى الفوضى والفساد) (3).

إن التربية العملية للقيادة الراشدة هي التي تجعل الحوافز المشجعة هدية للمحسن ليزداد في إحسانه, وتفجر طاقة الخير العاملة على زيادة الإحسان وتشعره بالاحترام والتقدير, وتأخذ على يد المسيء لتضرب على يده, حتى يترك الإساءة وتعمل على توسيع دوائر الخير والإحسان في أوساط المجتمع وتضييق حلقات الشر إلى أبعد حدود وفق قانون الثواب والعقاب المستمد من الواحد الديان.

جـ- اهتمامه بالعلوم المادية وتوظيفها للخير:

نلاحظ من الآيات القرآنية أن ذا القرنين وظّف علومًا عدة في دولته القوية ومن أهم هذه العلوم:

1- علم الجغرافيا حيث نجد أن ذا القرنين كان على علم بتقسيمات الأرض، وفجاجها وسبلها، ووديانها وجبالها وسهولها، لذلك استطاع أن يوظف هذا العلم في حركته مع جيوشه شرقًا وغربًا، وشمالاً وجنوبًا، ولا يخلو أن الأمر أن يكون في جيشه متخصصًا في هذا المجال (4).

2- كان صاحب خبرة ودراية بمختلف العلوم المتاحة في عصره، يدل على ذلك حسن اختياره للخامات، ومعرفته بخواصها، وإجلادته لاستعمالها والاستفادة منها، فقد استعمل المعادن على أحسن ما خلقت له، ووظف الإمكانات على خير ما أتيح له: " آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا" [الكهف: 96] أمرهم بأن يأتوه بقطع الحديد الضخمة، فآتوه إياها، فأخذ يبني شيئًا فشيئًا حتى جعل ما بين جانبي الجبلين من البنيان مساويًا لهما في العلو، ثم قال للعمال: (انخفوا بالكير في القطع الحديدية الموضوعة بين الصدفين) (5). فلما تم ذلك وصارت النار عظيمة قال للذين يتولون أمر النحاس من الإذابة وغيرها: آتوني نحاسًا مذابًا أفرغه عليه فيصير مضاعف القوة والصلابة، وهي طريقة استخدمت حديثًا في تقوية الحديد، فوجد أن إضافة نسبة من النحاس إليه تضاعف مقاومته وصلابته (6).

3- كان واقعيًا في قياسه للأمور وتدبيره لها، فقد قدر حجم الخطر، وقدر ما يحتاجه من علاج، فلم يجعل السور من الحجارة، فضلاً عن الطين واللبن، حتى لا يعود منهارًا لأدنى عارض، أو في أول هجوم، ولهذا باءت محاولات القوم المفسدين بالفشل عندما حاولوا التغلب على ما قهرهم به ذو القرنين: +فَمَا اسْطَاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا" [الكهف:97], أي لم يتمكنوا من اعتلائه لارتفاعه وملاسته, وما استطاعوا أن يثقبوه لصلابته وثخانته.

لقد كان ذو القرنين على علم بأخبار الغيب التي جاءت به الشرائع, ومع ذلك لم يتخذ من الأقدار تكأة لتبرير القعود والهوان, فقد بنى السد وبذل فيه الجهد, مع علمه بأن له أجلاً سوف ينهدم فيه لا يعلمه إلا الله.

----------------------------------------

مراجع الحلقة الخامسة والعشرون:

(1) انظر: مع قصص السابقين في القرآن (6/244،242).

(2) مع قصص السابقين (2/331،330).

(3) في ظلال القرآن (4/2291).

(4) انظر: الحكم والتحاكم في خطاب الوحي (2/624). ​

(5) روح المعاني (16/40). ​​​​

(6) فتح القدير (3/313).

 

يمكنكم تحميل فقه النصر والتمكين

من الموقع الرسمي للدكتور علي محمد الصلابي

http://www.alsalabi.com/salabibooksOnePage/655


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022