الأحد

1446-11-06

|

2025-5-4

من كتاب كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي(ج1)
خطة بيجو الجديدة و الزحف الشامل
الحلقة: الثامنة والأربعون
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
ربيع الأول 1442 ه/ نوفمبر 2020
 
أصبحت الإمدادات تتوالى من فرنسا على قواتها في الجزائر، وعقد الجنرال بيجو مجلساً عسكرياً وخاطب قواته قائلاً: إن الأمير عبد القادر كما ترون قد نزل بجيوشه من جبال وانشريس وأصبح قرب التلال، وقد استعاد سائر بلاد الشلف ونهر مينة الجنوبية، وأصبحت في قبضته وجميع من يحاذيها من عرب وبربر لم يخرجوا عن طاعته ؛ لذا يجب علينا الخروج دفعة واحدة من قواعدنا في مدينة الجزائر، واحتلال المدن والحصون مهما كلفنا ذلك من خسائر، وبعث بيجو بالرسائل إلى زعماء القبائل، فجاءه رد من زعماء الشراقة والغرابة، كبني شقران وبني غدوة وهذا نصُّ الجواب:
إلى من اتبع الهدى:
لقد وصلنا تحريرك وفهمنا مرادك، وهو دعوتنا إلى طاعتكم على أن تجعلوا بلادنا سعيدة مباركة. ونحن نجيبك أن لا سعادة توازي سعادتنا بالجهاد، وحماية الوطن، والثبات في وجه مخططاتكم، وإن ديننا يأمرنا بالدفاع عن البلاد، ويعدنا بالجنة عند الاستشهاد، ويجب أن تنظروا إلى سلطاننا كما ننظر له نحن، فهو يقاتلكم بقوات قليلة العدد والعدة، فلا مزية لكم علينا، وأنتم تملكون خزائن الذهب ودولتكم قديمة منذ ألف سنة، وهي تجمع الأموال وتهيأئ الجيوش، وجئتمونا بأعداد من الجنود بعدد نفوسنا وأشجارنا ومواشينا وجبالنا، فلا مزية لكم ولا فخر بأن تخرجونا من دورنا وتحرقوا أغلالنا وتغتصبوا أراضينا، ومهما طال الزمن فالنصر لنا، لأن حربكم ظالمة لا تكافؤ فيها، ثم تعدوننا بأموال الدنيا والله سبحانه وتعالى وعدنا بالجنة في الاخرة، هذا جوابنا: حُرر في العشرين من ربيع ثان والحادي عشر من حزيران في سنة (1841م).
وفي منتصف ذلك العام وصلت الحشود الهائلة من فرنسا، واجتمع بيجو بهيئة حربه وقال لهم ما خلاصته:
ـ نستولي على سهولهم التي ترعى فيها ماشيتهم ويزرعونها.
ـ نختار النقاط الاستراتيجية، ونبني فيها مراكز تشرف على الطرق التي تتنقل عبرها.
ـ نضع وحدات قوية في الحدود الفاصلة بين المناطق.
ـ لابد أن يتعلم ضباطنا العربية.
أمر بتقوية التحصينات وبناء تحصينات جديدة حول المناطق التي يحتلونها مثل متيجة، وأمر لاموريسيير في تطبيق الإبادة «الرازية» على القبائل، كان يأخذ من القبائل كل ما تملك: المواشي، النساء، الأطفال، وكان يستخرج من المطامير الحبوب المخزنة، ويأخذها أو يتلفها. عيّن المارشال بيجو على الجهة الشرقية الجنرال بركو باي ديلي، والجنرال بارتسمي على منطقة الجزائر، وتوجه بالقسم الأكبر من الجيش إلى مستغانم يرافقه دتيمور والدوق دومال، وبعد إقامته أياماً في مستغانم غادرها نحو قلعة تاكدمت عن طريق مجاهر، فأمر الأمير عبد القادر أهلها بالجلاء عنها حاملين ما خف من الذخيرة الحربية والمؤن، وكانت وحدات فرسان الأمير تناوشه على طول الطريق. ودخلها في (25/5/1841م) فوجدها خالية، ثم توجه منها إلى معسكر التي أخلاها سكانها أيضاً، ثم عاد إلى مستغانم، وفي عودته ترصد له الأمير عند فج عقبة خده وفج فرقوف، ودارت معركة في الفج الأول طوال النهار، خسر فيها الطرفان العديد من القتلى والجرحى، واستغل بيجو سقوط الظلام وانسل عبر الفجين.
أرسل الأمير عبد القادر إلى بيجو رسالة قال فيها: إني أراك أيها الحاكم تبذل جهدك في تعطيل مواسمنا لتقل الحبوب عندنا، ظناً منكم أن ذلك أقوى سبب لخضوع أهل البلاد، والحال أن هذا ليس بشيء عندهم، فإن هممهم ليست متعلقة بلذائذ الأطعمة والأشربة مثلكم، بل يكفيهم ما يسدون به رمقهم، ويقيم أودهم، على أنه يوجد عندهم من صنوف الحبوب المحفوظة في الابار المعدة لها ما يكفيهم سبع سنين اتية، وما تأخذونه أنتم فهو جزء من جملة أجزاء، ولا أراكم في هذا إلا كمن ملأ قدحه من البحر. وبالجملة فنحن لا نترك قتالكم ما دمتم في طغيانكم، والحروب قد تربينا عليها، فنحن أهلها من المهد إلى اللحد، وحروبنا كما علمتم لا نرجع فيها إلى قانون يحصرها، بل نحن فيها مخيرون مطلقون نصرفها كيفما شئنا. آخر («يونيو» حزيران 1841م).
بعد أن قضى بيجو أسابيع بمستغانم إثر عودته من واقعة عقبة خدة خرج بجيوشه بين (19/9/و 19/11)، إلى شمال ولاية معسكر فتفقد قبائل أولاد خليف وصبح غيرها التي دانت له بالطاعة، ثم قصد قبيلة هاشم بسهل إيغرس فدمر منازلها وأحرق مزارعها، ثم قصد سعيدة التي خطها الأمير وأسكن فيها مهاجري مستغانم، ودخلها فوجدها خالية فقد أخلاها أهلها، فدمرها وأخضع القبائل القريبة منها كأولاد إبراهيم والحساسنة والجعافرة، وحاول فرض باي من طرفه على القبائل، لكنه فشل، وتجنب الأمير مقاتلة بيجو فتوجه إلى قبائل الدوائر الزمالة قرب وهران العميلة للعدو فحاربها وغنم منها، وعلم بيجو ذلك فعاد إلى وهران، وكتب بيجو رسالة إلى رؤساء قبائل الشراقة والغرابة وبني شقرون وبني غدو يدعوهم إلى الطاعة، فأجابوه برسالة طويلة جاء فيها: من القبائل المتمسكين بدينهم الإسلامي الوثيق العرى إلى النصراني بيجو.. قد وصلنا مكتوبك الذي تركته في موضع نزولك من بساتين بني يخلف.. وأما بلدنا فليس لكم في الاستيلاء عليها نتيجة، وهب أنكم استوليتم عليها، وأقمتم فيها ثلاثمئة سنة مثل من ملكها قبلكم، فإنكم لابد وأن تخرجوا منها كما خرجوا، وتمسوا كأمس الذاهب. في (20/6/1841م).
1 ـ سقوط مدينة تلمسان:
كان عام (1842م) عاماً ساخناً مليئاً بالأحداث الخطيرة المؤسفة، فقد أخذ ميزان القوى يختلّ بشكل كبير يوماً بعد يوم، بعد ذلك الجسر البحري الذي امتد عبر المتوسط، من فرنسا إلى ميناء مدينة الجزائر المحتلة، حاملاً الجنود المدربين والعتاد وأجهزة الدمار، وأدرك المجاهدون الخطر الذي يواجههم، وعلم الأمير أن المدن وقواعده المحصنة تكاد تصبح مهددة، وفي التاسع من شهر كانون حملت إليه رياح الحرب أخبار حملة يُعدّها المارشال بيجو، لاحتلال مدينة تلمسان، فأمر بإخلائها ؛ لأنها مدينة مفتوحة، ولا يمكن الدفاع عنها، وأمر أيضاً بتدمير المصانع المتواجدة فيها لئلا يستفيد منها العدّة، وتمّ ذلك قبل وصول العدو إليها، وأما السكان الذين بارحوها فلقد عادوا إليها ليلاً وقدموا الطاعة للعدو.
2 ـ مطاردة القبائل:
وبعد احتلال تلمسان خرج بيجو لسبدو فدخلها ودمرها، وجرت بينه وبين القبائل المحيطة بها حروب وتمكن من هزيمتها، فعبرت له عن طاعتها، ثم عرج على نواحي سعيدة، ثم قصد بلدة القيطنة فأحرقها، وهي بلدة عائلة الأمير، اختطها جده مصطفى بن المختار، سنة (1206هـ) ووصفها النقيب دي مونرون، فقال: تلك البلدة مبنية بوسط واد يانع بالأزهار، تندهش منه الأبصار، وكان لا يظن أنه يوجد بأقصى إفريقيا أبنية محكمة البناء كأبنيتها.
وبعد أن سيطر بيجو في خرجاته على النقاط الاستراتيجية، وإخضاع قبائل الجبال بين ندرومة وتافنة، وأسس منها «جامعة قبائل ندرومة» تحت شعار «حلفاء لا مهزمون» متبعاً أسلوب الأمير، قسم جيشه إلى ثلاثة أقسام:
ـ قسم تحت نظره ومركزه في نواحي الشلف.
ـ والثاني تحت قيادة الجنرال شانكرني ويكون مركزه البليدة.
ـ والثالث تحت قيادة الجنرال لاموريسيير ويكون مركزه معسكر.
وفي آخر الشتاء خرج كل إلى المنطقة المحددة له، وراحوا يطاردون القبائل التي تركت منازلها وارتحلت إلى الصحراء. كانوا يستولون على مواشيها ويحرقون أكواخها وخيامها، ويفرغون مطاميرها من الحبوب، في عمليات إبادية عرفت باسم «الرازيا» تستهدف ضرب مصادر قوت وحياة القبائل وفرض الطاعة عليها. فبيجو مثلاً أرسل تهديداً للقبائل المقيمة بين سفوح الشفة والبحر غرب متيجة بأنه سوف لا يكتفي بحرق حقول الحبوب، بل سيقطع الأشجار المثمرة. ومع هذا فإن القبائل التي تنضم مرغمة للفرنسيين تتمرد عليهم بمجرد أن تسنح الفرصة لذلك.
 
يمكنكم تحميل كتب كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي من موقع د.علي محمَّد الصَّلابي:
 


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022