السبت

1446-11-12

|

2025-5-10

أهمية دراسة السيرة النبوية لمعالجة واقع الإسلام والمسلمين ...

مختارات من موسوعة السيرة النبوية والخلفاء الراشدين ..

بقلم د. علي محمد الصلابي

الحلقة (2)

 

إنَّ قناعتي راسخةٌ في أن التمكين لهذه الأمَّة، وإعادة مجدها، وعزَّتها، وتحكيم شرع ربِّها منوطٌ بمتابعة الهدي النَّبويِّ. قال تعالى: ﴿قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ ﴾ [النور: 54].

فقد بيَّنت الآية الكريمة: أنَّ طريق التَّمكين في متابعة النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فقد جاءت الآيات الَّتي بعدها تتحدَّث عن التمكين، وتوضِّح شروطه قال تعالى: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ۝ وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ [النور: 55، 56] .

وقد قام رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأصحابه بتحقيق شروط التمكين، فحقَّقوا الإيمان بكلِّ معانيه، وجميع أركانه، ومارسوا العمل الصَّالح بكلِّ أنواعه، وحرصوا على كلِّ أنواع الخير، وصنوف البرِّ، وعبدوا الله عبوديةً شاملةً في كلِّ شؤون حياتهم، وحاربوا الشِّرك بكلِّ أشكاله، وأنواعه، وخفاياه، وأخذوا بأسباب التمكين المادِّيَّة والمعنوية على مستوى الأفراد والجماعة، حتى أقاموا دولتهم في المدينة، ومن ثَمَّ نشروا دين الله بين الشُّعوب والأمم.

إنَّ تأخر المسلمين اليـوم عن القيـادة العالمية لشعوب الأرض نتيجةٌ منطقيَّـةٌ لقومٍ نَسوا رسالتهم، وحطُّوا من مكانتها، وشـابوا معدنهـا بركامٍ هائلٍ من الأوهام في مجال العلم، والعمل علـى حدٍّ سواءٍ، وأهملوا الـسُّنن الرَّبَّانيَّة، وظنُّوا أنَّ التَّمكين قد يكون بالأماني، والأحلام.

إنَّ هذا الضعف الإيماني، والجفاف الروحي، والتخبُّط الفكري، والقلق النَّفسي، والشَّتات الذِّهني، والانحطاط الخلقي؛ الَّذي أصاب المسلمين سببه تلك الفجوة الكبيرة الَّتي حدثت بين الأمَّة، والقرآن الكريم، والهدي النبويِّ الشريف، وعصر الخلفاء الراشدين، والنقاط المشرقة المضيئة في تاريخنا المجيد.

أما ترى معي ظهور الكثير من المتحدِّثين باسم الإسلام، وهم بعيدون كلَّ البعد عن القرآن الكريم، والهدي النبويِّ، وسيرة الخلفاء الرَّاشدين، وأدخلوا في خطابهم مصطلحات جديدة، ومفاهيم مائعة؛ نتيجة الهزيمة النفسيَّة أمام الحضارة الغربيَّة، وأصبحوا يتلاعبون بالألفاظ، ويَلوونها، ويتحدَّثون السَّاعات الطوال، ويدبِّجون المقالات، ويكتبون الكتب في فلسفة الحياة، والكون، والإنسان، ومناهج التغيير، ولا نكاد نلمس في حديثهم، أو نلاحظ في مقالاتهم عمقاً في فهم فقه التَّمكين، وسنن الله في تغيير الشعوب، وبناء الدول، من خلال القرآن الكريم، والمنهاج النبويِّ الشَّريف، أو دعوة الأنبياء والمرسلين لشعوبهم، أو تقصِّياً لتاريخنا المجيد، فيخرجون لنا عوامل النُّهوض عند نور الدِّين محمود، أو صلاح الدِّين، أو يوسف بن تاشفين، أو محمود الغزنوي، أو محمَّد الفاتح، ممن ساروا على الهدي النبويِّ في تربية الأمة، وإقامة الدَّولة، بل يستدلُّون ببعض الساسة، أو المفكرين، والمثقفين من الشرق أو الغرب ممَّن هم أبعد الناس عن الوحي السَّماوي، والمنهج الرَّبانيِّ.

وأنا لست ممَّن يعارض الاستفادة من تجارب الشُّعوب والأمم؛ فالحكمة ضالَّة المؤمن، فهو أحق بها أنَّى وجدها، ولكنِّي ضدُّ الَّذين يجهلون، أو يتجاهلون المنهاج الرَّبانيَّ، وينسون ذاكرة الأمَّة التَّاريخيَّة المليئة بالدُّروس، والعبر، والعظات، ثمَّ بعد ذلك يحرصون على أن يتصدَّروا قيادة المسلمين بأهوائهم، وآرائهم البعيدة عن نور القرآن الكريم، والهدي النَّبويِّ الشَّريف.

وما أجمل ما قاله ابنُ القيِّم رحمه الله:

واللهِ ما خوفي الذُّنوب فإنَّها

لعلَى طريقِ العَفْوِ والغُفْرانِ

لكنَّما أخشى انسلاخ القَلْبِ عَنْ

تحكيم هذا الوَحْي والقرآن

ورضاً بآراء الرِّجال وَخَرْصِهَا

لا كان ذاك بمنَّةِ الرَّحمنِ

إنَّنا في أشدِّ الحاجة لمعرفة المنهاج النبويِّ في تربية الأمَّة وإقامة الدَّولة، ومعرفة سنن الله في الشُّعوب، والأمم، والدُّول، وكيف تعامل معها النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم عندما انطلق بدعوة الله في دنيا الناس، حتَّى نتلمَّس من هديه صلى الله عليه وسلم الطريق الصَّحيح في دعوتنا، والتمكين لديننا، ونقيم بنياننا على منهجيَّةٍ سليمةٍ، مستمدَّةٍ أصولها وفروعها من كتاب ربنا وسنَّة نبيِّنا صلى الله عليه وسلم قال تعالى:

﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخر وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾ [الأحزاب: 21] .

لقد كان فقه النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم في تربية الأمَّة، وإقامة الدَّولة شاملاً، ومتكاملاً، ومتوازناً، وخاضعاً لسنن الله في المجتمعات، وإحياء الشعوب، وبناء الدُّول، فتعامل صلى الله عليه وسلم مع هذه السُّنن في غاية الحكمة، وقمَّة الذَّكاء، كسنَّة التَّدرُّج، والتَّدافع، والابتلاء، والأخذ بالأسباب، وتغيير النفوس.

وغرسَ صلى الله عليه وسلم في نفوس أصحابه المنهج الرَّبَّانيَّ، وما يحمله من مفاهيم، وقيم، وعقائد وتصوُّراتٍ صحيحةٍ عن الله، والإنسان، والكون، والحياة، والجنَّة، والنَّار، والقضاء، والقدر، وكان الصَّحابة رضي الله عنهم يتأثَّرون بمنهجه في التربية غاية التأثُّر، ويحرصون كلَّ الحرص على الالتزام بتوجيهاته، فكان الغائب إذا حضر من غيبته؛ يسأل أصحابه عمَّا رأوا من أحوال النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ، وعن تعليمه، وإرشاده، وعمَّا نزل من الوحي حال غيبته، وكانوا يتَّبعون خُطَى الرَّسول صلى الله عليه وسلم ، في كلِّ صغيرةٍ وكبيرةٍ، ولم يكونوا يقصرون هذا الاستقصاء على أنفسهم، بل كانوا يلقِّنونه أبناءهم، ومن حولهم.

 

مراجع الحلقة:

- علي محمد محمد الصلابي، السيرة النبوية عرض وقائع وتحليل أحداث، الطبعة الأولى، دار ابن كثير، 2004، ص 7-10.


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022