تسبيح المخلوقات والكائنات جميعها لله تعالى
مختارات من كتاب الأنبياء الملوك
بقلم د. علي محمد الصلابي
الحلقة (21)
﴿تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا﴾ [الإسراء: 44].
فالآية الكريمة تبيِّن أن كل من في السماوات السبع والأرض يسبح لله؛ سواء كانت مخلوقاتٍ عاقلةً أو مخلوقات غير عاقلة، أو جمادات، فما من شيء في الوجود إلا يسبح بحمد الله إلا أننا لا نفقه لغتها، أو لا نسمع صوت الجمادات ولا نفقه لغتها؛ لأننا لا نفقه إلا لغتنا نحن البشر. والذي عليه أهل العلم أنّ الجبال والطيور كانت تسبح مع داوود (عليه السلام) على الحقيقة وليس هذا على الله بعزيز، فالذي أنطق البشر ليس بعاجز أن ينطق الطير والجبال كما قال تعالى: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا﴾ [الأحزاب: 72].
وقال سبحانه: ﴿لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ﴾ [الحشر: 21].
وكما ذكر الله تعالى الحجارة، فقال: ﴿ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً﴾ [البقرة: 74].
ثم مدح الحجارة في مقابلهم، فقال: ﴿وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾، مع أنها حجارة، ولكن الله جل وعلا يجعل فيها هذا الإحساس، فتستطيع أن تسبِّح؛ ولذلك كان النبي ﷺ يخبر عن حجر كان يسلم عليه. والجذع قد أنّ وبكى لفراق النبي ﷺ له، لما وُضع له المنبر صلوات الله وسلامه عليه. وينكر الهدهد على ملكة سبأ أنها عبدت غير الله عز وجل.
فنحن نؤمن بهذا ونصدّقه، ونقول: ﴿إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [البقرة: 20]، كيف لا وستنطق يوم القيامة أيدي الكافرين وجلودهم بما كانوا يعملون، حين يقول الكافر لجلده ويده ورجله ﴿وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا﴾؛ فتردُّ عليهم: ﴿أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ [فصلت: 21].
إن الله عز وجل أنعم على عبده ونبيه داوود (عليه السلام) بما آتاه من الفضل المبين، وجمع له بين النبوة والملك المكين، والجنود ذوي العدد والعدة، وما أعطاه ومنحه من الصوت العظيم الذي كان إذا سبَّح تسبح معه الجبال الراسيات، والصم الشامخات، وتقف له الطيور السارحات والعاديات والرائحات، وتجاوبه بأنواع اللغات.
وإن اللطيف في إخبار القرآن عن تسبيح الجبال والطير مع داوود (عليه السلام)، أن هذه الأخبار جاءت في ثلاث سور: الأنبياء، سبأ، ص؛ ففي سورة الأنبياء، أخبر عن تسبيحها معه: ﴿وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ﴾ [الأنبياء: 79].
وفي سورة سبأ أخبر عن تأويبها معه: ﴿يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ﴾ [سبأ: 10]. أي أن تسبيحها كان تأويباً وترجيعاً وترديداً بعد تسبيحه هو. وأما في سورة ص فقد جاءت زيادة وإضافة مفيدة، قال تعالى: ﴿إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ (18) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (19) وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ (20)﴾ [ص: 18 - 20].
والعشي: وقت المساء، عند غروب الشمس.
والإشراق: وقت الصباح عند شروق الشمس.
وقد سخَّر الله له الجبال، وجعلها مسبّحة في الصباح وفي المساء، وحشر له الطير وجعلها تسبِّح وهي محشورة في الصباح والمساء أيضاً.
وجملة: ﴿يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإشْرَاقِ﴾ في محل نصب حال، وصاحب الحال، هو الجبال. أي: إنا سخرنا الجبال معه مسبحة بالعشي والإشراق.
و ﴿مَحْشُورَةً﴾ حال منصوب، وصاحب الحال هو "الطير"، والطير مفعول به لفعل محذوف مفهوم من السياق، والتقدير: وسخرنا الطير محشورة مسبحة بالعشي والإشراق.
وكأن الجبال والطير مخلوقات عاقلة، وهي تختار أصفى أوقات للتسبيح، أي عند شروق الشمس، وعند غروبها، وتخيَّلْ منظرَها وهي تسبِّح عند الصباح والمساء، إنه منظر جميل لطيف مؤثر، تتفاعل معه النفوس.
ما من شيء في الوجود إلا هو مسبح لله، فقد أخبرنا الله بذلك؛ قال رسول الله ﷺ ذلك لأبي موسى الأشعري رضي الله عنه، الذي كان من أجمل الصحابة صوتاً بالقرآن: وكان رسول الله ﷺ يحب سماع القرآن منه، ويشبِّه صوتّه الجميل بصوت داوود (عليه السلام). روى البخاري ومسلم عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، أن النبي ﷺ قال: «لقد أوتيتَ مزمارا من مزامير آل داوود».
وروى مسلم عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال: «إن عبد الله بن قيس أو الأشعري أعطي مزماراً من مزامير آل داوود»، وفي رواية أخرى عنه: أن رسول الله ﷺ قال له: «لو رأيتني وأنا أستمع لقراءتك البارحة، لقد أوتيت مزماراً من مزامير آل داوود».
وإذا كانت الأحاديث السابقة تذكر (آل داوود)، والمراد بها داوود نفسه (عليه السلام)، كما قال الخطابي وابن حجر؛ فهناك رواية مرفوعة فيها التصريح بداوود وليس آل داوود.
ولا يراد بالمزمار في الحديث آلة العزف الموسيقية، وإنما يراد به الصوت الحسن الجميل عند القراءة، فعندما يقرأ كان يُحسن ويجمّل صوته، ويجوّد الكلمات الخارجة من فمه؛ فكأنه يعزف على المزمار.
إذن؛ كان داوود (عليه السلام) يقرأ ويتلو كلام الزبور، ويجوّد صوته بذلك، فكأنه يعزف على المزمار.
روى النسائي وغيره عن أبي هريرة (رضي الله عنه) أن رسول الله (ﷺ) قال: «لقد أعطي أبو موسى من مزامير داوود». ولا يراد آل داوود أنفسهم، وإنما يراد داوود نفسه.
ونسارع إلى القول: إن المزامير المنسوبة إلى داوود (عليه السلام)، المذكورة في العهد القديم، ليست هي الزبور الذي أنزله الله على داوود (عليه السلام)، ولا هي مما كان داوود يناجي به ربه.
والسِّفْر التاسع عشر من أسفار العهد القديم اسمه (المزامير). وقد سجل أحبار اليهود فيه مائة وخمسين مزماراً، ومعظم هذه المزامير منسوب إلى داوود، وبعضها منسوب إلى غيره. ولكننا نقول: هذه المزامير ليست الزبور، وما كان داوود يتلوها وكلماتها لا تتفق مع أدب داوود (عليه السلام) مع الله تعالى، وهي من وضع أحبار اليهود فيما بعد، ونحن نعلم أن بعض أحبار اليهود حرّفوا التوراة وأسفار العهد القديم.
مراجع الحلقة:
- علي محمد محمد الصلابي، الأنبياء الملوك، الطبعة الأولى، دار ابن كثير، 2023، ص 117-122.
- عثمان محمد الخميس، فبهداهم اقتده "قراءة تأصيلية في سير وقصص الأنبياء"، دار إيلاف الدولية، الكويت، ط1، 1431ه – 2010م، ص295.
- أحمد نوفل، تفسير سورة الإسراء، ط1، 435ه – 2014م، ص311.