الجمعة

1446-11-04

|

2025-5-2

رد سليمان (عليه السلام) على هدية ملكة سبأ

مختارات من كتاب الأنبياء الملوك (عليهم السلام)

بقلم: د. علي محمد الصلابي

الحلقة (67)

 

تفسير الآيات الكريمة:

1- ﴿فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ﴾:

- ﴿فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ﴾ أي: وصل الوفد إلى بيت المقدس ودخلوا على سليمان (عليه السلام) وقدموا له الهدية ووضعوها أمامه، ورفض قبولها، واستعلى عليها وأنكر عليهم تقديمها، وعرف غرض الملكة، واكتشف فعلتهم في محاولة رشوته بالمال، وشراء ذمته بالهدايا، فقال: ﴿أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ﴾ والاستفهام هناك: استنكاري توبيخي، أي: أترشونني بهذا المال؟ اعلموا أنني لست بحاجة إلى مالكم وهديتكم ورشوتكم:

- ﴿فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ﴾: اعترف أمامهم بأن فضل الله عليه كبير، أنعم الله عليه بالنعم الكثيرة والخير الكثير الجزيل الجميل، والعطايا الروحية والمادية من العلم والنبوة والحكمة والملك، لا ينبغي لأحد من بعده وتسخير الرياح والجن والإنس ومواد الصناعات وغير ذلك، وكأنه يقول لهم: أنا لست ممن تقدم له الرشوة باسم الهدية؛ لأن الله أغناني عنها بما آتاني ومنحني. أنتم تأخذون الرشاوى والهدايا.

- ﴿بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ﴾: بل للإضراب الانتقالي، وهو انتقال من إنكاره عليهم إمداده بمال إلى رد ذلك المال وإرجاعه إليهم.

قال السعدي رحمه الله: لحبكم للدنيا وقلة ما بأيديكم بالنسبة لما أعطاني الله.

قال الشيخ محمد أبو زهرة: بل للإضراب الانتقالي، لا تفرحون إلا بالمادة، وما يتصل بها من أمثالها، وتقديم الجار والمجرور. بهديتكم للقصر والاختصاص، أي لا تفرحون إلا بها.

وقال المهندس عبد الستار كريم المرسومي: رفض الرشوة: وهنا ينبغي للقائد أن يميز جيدا بين الرشوة وبين الهدية، ويتدخل في هذا التمييز مجموعة من العوامل، فمنها العلم، ومنها التقوى، ومنها نقاء السريرة، ومنها صدق النية، فالهدية والرشوة في العطاء والأخذ متشابهان، ولكن الفرق في النيّات والنتائج، ومن هنا ميّز نبي الله سليمان (عليه السلام) أن ما أرسلته الملكة بلقيس إنما كانت بمثابة الرشوة لعله يرجع عن قراره حين دعاهم للإسلام؛ لذلك فإنه رفضها.

ويحل للقائد أن يقبل الهدية سواء كانت شخصية أو لمصلحة الجماعة؛ ولا يحق له أن يأخذ الرشوة. وللتمييز بين الهدية والرشوة:

- الهداية تكون من غير مقابل؛ ولهذا اعتبر النبي سليمان (عليه السلام) هدية بلقيس رشوة حين قالت: ﴿وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ﴾. فما دامت الملكة بلقيس تنتظر أن يرجع من أرسلته بالهدية بالنتيجة، فقد كانت تنتظر المقابل لتلك الهدية فستكون رشوة وليست هدية.

- أن لا يكون توقيتها في وقت اتخاذ قرار بشأن معين، فيؤثر وجودها في ذلك القرار بشكل كلّي أو جزئي.

وعلى العموم، فإن الرشوة هي ما يتوصل به إلى إحقاق باطل، أو إلى إبطال حق.

يقول شيخ الإسلام ابن تيمة: قال العلماء: إن من أهدي هدية لولي الأمر، ليفعل معه ما لا يجوز كان حراما المهدي والمُهدى إليه، وهي من الرشوة التي قال فيها رسول الله ﷺ: «لعن الله الراشي والمرتشي والرائشين». وقد اتفق الفقهاء على أن الرشوة حرام بما أن عقوبتها لم تحددها الشريعة، فتكون عقوبة تعزيرية تعود إلى اجتهاد الإمام، أو من ينوب عنه، وهي ترتبط شدة أو خفة أو تغليظاً أو تخفيفاً بحجم الرشوة، وآثارها وظروفها وملابساتها المحيطة بها.

ولا مانع شرعاً من إصدار تقنين خاص بالرشوة تحدد فيها العقوبات، وحدها الأدنى والأقصى، معتمدة على آراء أهل الشرع، والقانون والخبرة.

إن سليمان (عليه السلام) يقدم للإنسانية درساً في صمود العقيدة أمام إغراء المال، وقد كانت فتنة المال قديمة في الإنسان كما في وقتنا الحاضر؛ إذ فطنت بلقيس أن سليمان كغيره من الناس تؤثر فيه إغراءاتُ المال، ولذلك أرسلت إليه بهدية تمتحن جوهره لترى آثارها في نفسه، وهل تكون هذه الهدية مدعاة لسكوته وترك دعوته لله، والغزو الذي هددها به، ولكن لم تجد بلقيس رداً من سليمان (عليه السلام) سوى قوله: ﴿فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِّمَّا آتَاكُم﴾ كلمة قالها وأطلقها لتكون دستوراً لمن بعده، وليقولها بعده كل داعية مخلص في دعوته إلى الله، وكل زعيم، وكل قاض، عندما تعرض عليه أهل الباطل رشوة للسكوت عن فسادهم، ومجاراتهم في باطلهم.

وبعد أن بيّنّا خطورة الرشوة والفرق بينها وبين الهدية، حان الوقت لبيان ما ورد في السنة في النصوص الصحيحة في فضل الهدية، والحث عليها وقبولها، حتى إن قلّتْ.

- عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال: «يا نِساءَ المُسْلِماتِ، لا تَحْقِرَنَّ جارَةٌ لِجارَتِها، ولو فِرْسِنَ شاةٍ».

- وعن عائشة رضي الله عنها: أن النبي ﷺ كان يقبل الهدية، ويثيب عليها.

- وقال رسول الله ﷺ: «تَهَادُوا تَحَابُّوا».

- وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت يا رسولَ اللهِ! إنَّ لي جارينِ فإلى أيِّهما أُهْدِي؟ قال: «إلى أَقْرَبِهِمَا مِنْكِ بَابًا».

- وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال النبي ﷺ: «ليسَ لنا مَثَلُ السَّوْءِ، الذي يَعُودُ في هِبَتِهِ كالكَلْبِ يَرْجِعُ في قَيْئِهِ».

هذه بعض الأحاديث التي تحض على التهادي، ولو باليسير، لما فيه من استجلاب المودة، وإذهاب الشحناء واصطفاء الجيرة. ونرجع إلى سليمان (عليه السلام)، فبعد أن رفض رشوتهم أطلق (عليه السلام) تهديده القوي الصاعق وإنذاره الأخير الماحق، وحملهم رسالة مع وفد الهدية.

2- ﴿ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ﴾:

والمعنى: أن سليمان (عليه السلام) قال لمن جاؤوا بالهدية موجهاً تهديده إلى رئيسهم: ﴿ارْجِعْ إِلَيْهِمْ﴾؛ أي: ارجع بهديتكم.

- ﴿فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا﴾؛ أيّ: لا طاقة لهم بقتالهم.

- ﴿وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً﴾؛ أي: ولنخرجنهم: أي بلقيس وقومها من بلدتهم أو من أرضهم أذلة.

- ﴿وَهُمْ صَاغِرُونَ﴾؛ أي: مهانون مدحورون. وهذا الذي سيصيبهم إذا لم يسلموا وظلوا مقيمين على كفرهم.

أ- قال محمد أبو زهرة في تفسيره للآية:

كان الخطاب بالمفرد؛ لأنه الوفد الذي يخبرهم بأمر سليمان، وما استعد به لهم، (فلنأتينهم) الفاء: عاطفة دالة على الترتيب والتعقيب أي فور رجوعهم لنأتينهم، وقد أكد غزو الشرك بالقسم، ولام القسم، ونون التوكيد الثقيلة، وقد أكد إرسال الجيش، وأكد نتيجته، بقوله: (لَنُخْرِجَنَّهُم). والإخراج يصح أن يكون المعنى إبعادهم عن سلطان الحكم، فلا يكون لهم رأي ولا إرادة، وكأنَّهم المخرجون، وأذلة أي كونهم أذلاء صاغرين أي منحطين إلى المنزل الدون راضين بذلك؛ لأنه لا قدرة عندهم على تغيير حالهم، والتفكير في أمرهم، كان هذا رد الملك النبي، وما كان ليسكت عن قوم يعبدون الشمس ومشركين، فهو ملك نبي ونبوته لا تتأخر، بل هي العامل الأول المسير لملكه دائمًا.

ب- وقال الدكتور عبد الكريم زيدان:

ويفهم من هذا: أن سليمان أظهر عزمه على قتال بلقيس وقومها، وإزالة حكمهم بالقوة إذا لم يسلموا ويتركوا كفرهم وشركهم. ومعنى ذلك -على ما يبدو لنا- أن ما عزم عليه سليمان (عليه السلام)، هو من باب إزالة المنكر. ونظرا لوجود القوة اللازمة لإزالته تحرك سليمان (عليه السلام)، إلى اليمن طالباً من بلقيس التنحي عن السلطة والحكم، إذا لم تسلم وقومها وإذا رفضت ذلك، فإنه سيجازيها ويزيل حكمها بالقوة، لأن بقاءه منكر عظيم تجب إزالته، ومعنى ذلك كله: أن من شريعة سليمان إزالة الحكم الطاغوتي من الأرض كلما كان ذلك ممكنا، وقد أمكنه بالنسبة لمملكة سبأ من اليمن، فقد كتب إلى بلقيس كتابه قبل أن يخطو الخطوة الثانية، وهي إخضاعهم بالقوة، وإزالة حكمهم الكافر.

إن فلسفة الفتوحات الإسلامية في العصر الراشدي، استمدت تعاليمها من هدايات القرآن الكريم، وتوجيهات النبي ﷺ، وساهمت تلك الفتوحات في إزالة أكبر الامبراطوريات الاستبدادية الشمولية، وخصوصاً الإمبراطوريتَين الكبيرتَين في ذلك الزمان، وهما الفارسية والبيزنطية، وتركت الشعوب تختار العقيدة التي تراها مناسبة لها.

لما رجع رسل بلقيس بهديتها وأخبروها بما قال سليمان وما هدّدهم وتوعّدهم به، عزمت على الاستجابة لدعوته، وأعلمته بالقدوم عليه مع رؤساء قومها للتعرف على دينه والدخول فيه، فقد كانت لا تريد العداء، ولا الحرب ومن خلال جميعها للمعلومات وقدرات سليمان (عليه السلام) القتالية والحضارية، علمت أنها لا طاقة لهم به. فقد قالت لقومها: قد والله عرفت ما هذا بملك وما لنا به طاقة، وبعثت إليه أني قادمة عليك بملوك قومي، لأنظر ما أمرك، وما تدعو إليه من ذلك.

ولما علم سليمان (عليه السلام) بتوجه ومسيرة بلقيس ومن معها إليه، سرّه ذلك، وقال (عليه السلام): للملأ من حوله من الجن والإنس ما أخبرنا الله به.

 

مراجع الحلقة:

- الأنبياء الملوك، علي محمد محمد الصلابي، الطبعة الأولى، دار ابن كثير، 2023، ص 296-304.

- القصص القرآني عرض وقائع وتحليل أحداث، صلاح الخالدي، دار القلم، دمشق - الدار الشامية، بيروت، ط1، 1419ه - 1998م، (3/547).

- التحرير والتنوير، الطاهر ابن عاشور، (1/474).

- تفسير السعدي، ص804.

- زهرة التفاسير (10/5453).

- التنمية الشاملة، د. علي القره داغي، ص79.

- التدبر والبيان في تفسير القرآن بصحيح السنن، محمد بن عبد الرحمن المغراوي، (25/66 - 77).

- الكشاف، (3/266 – 367).

- زهرة التفاسير (10/5454).

- المستفاد من قصص القرآن، ص296.

- تفسير ابن كثير (3/363).

 

لمزيد من الاطلاع ومراجعة المصادر للمقال انظر:

كتاب الأنبياء الملوك في الموقع الرسمي للشيخ الدكتور علي محمد الصلابي:

https://www.alsalabi.com/salabibooksOnePage/689


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022