مقومات الحكم الرشيد في دولة سليمان (عليه السلام): المقومات الاجتماعية والعلمية
مختارات من كتاب الأنبياء الملوك (عليهم السلام)
بقلم: د. علي محمد الصلابي
الحلقة (91)
سبق القرآن الكريم كل النظم المعاصرة في الحديث عن مقومات الحكم الراشد الذي سعى لتحقيق التنمية الشاملة في المجتمع بما تضمّنه من توجيهات أساسية لطريقة الحكم، فجعل الهدف من نزول القرآن الكريم، الهداية إلى الرشد، قال تعالى: ﴿قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا (2)﴾ [الجن: 1 - 2] بما ينشئه في القلب من إدراك ومعرفة واتصال بمصدر النور، واتساق مع النواميس الإلهية الكبرى؛ كما أنه يهدي إلى الرشد بمنهجه التنظيمي للحياة وتصريفها، وهذا يوصف (بالرشد العقلي). كما أنه لا تتحقق مهمة العبودية لله سبحانه وتعالى من الفرد إلا إذا كان رشيداً متحرّياً للرشد؛ لأن الرشد والغي لا يجتمعان.
وقد امتدح الله القيادة الرشيدة لإبراهيم (عليه السلام)، ووصفه بالرشد الكامل اللائق به وبأمثاله من الرسل؛ قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ﴾ [الأنبياء: 51].
فهو الرشد في سياسة الأمة، والاهتداء والتوفيق للنظر والاستدلال على الحق والصلاح وحسن التصرف -حسيًّا أو معنوياً- في الدين والدنيا، وكذلك الاقتدار على إصلاح الأمة باستعمال النواميس الإلهية.
إنّ قصة سليمان (عليه السلام) أشارت إلى مقومات الحكم الرشيد، ومن أهم هذه المقومات:
1) المقومات الاجتماعية والعلمية:
كان للبيئة النبوية الربانية التي عاش فيها سليمان (عليه السلام) -سواء الاجتماعية أو العلمية- الأثر الكبير في حكمه الرشيد، وقد أكدت مبادئ الحكم الرشيد على ضرورة الاندماج الاجتماعي في البيئة المحيطة بالفرد والأسرة، وهي اللبنة الأولى في البناء الاجتماعي التي تؤثر في سلوك الفرد وبناء شخصيته. وقد بيَّن الرسول ﷺ ضرورة الأدب والتأديب للأبناء؛ موضحاً مدى تأثير ذلك في تكوين شخصية الإنسان، إيجاباً وسلباً. قال رسول الله ﷺ: «كلُّ مولودٍ يولَدُ على الفطرةِ فأبواه يُهوِّدانِه أو يُنصِّرانِه أو يُمجِّسانِه».
كانت بيئة سليمان (عليه السلام) الاجتماعية مؤثرة في صقل شخصيته، وتربيته على القيم الإنسانية الربانية، وكان لأبيه داود (عليه السلام) تأثيرٌ كبيرٌ في مسيرته بعد الله عز وجل؛ ويتضح ذلك من خلال:
أ- التنشئة الاجتماعية:
كانت للعلاقة بين سليمان ووالده داوود منذ طفولته وشبابه، الأثر البالغ في صقل شخصيته وتحديد أهدافه ورسالته في الحياة؛ فقد نشأ في بيئة تلقى فيها تربية نبوية صالحة، فهو ابن النبيّ داوود (عليه السلام) الذي وصف بالعبودية، والذي تميّز في جهاده، وصلاته وصيامه، وذكره وثنائه وحمده لله عز وجل، وقد كان سليمان هبة من الله عز وجل لعبده داوود ؛ ولذا كان ابناً بارًّا وقرة عين لأبيه: فصفة العبودية والصلاح سمة بارزة في شخصية سليمان (عليه السلام)، بل خصه الله بمدح خاص، فقال تعالى: ﴿نِعْمَ الْعَبْدُ﴾، لكونه حقق العبودية الصادقة لربه جل وعلا في حياته الخاصة باستقامته على أمر الله، وبصفته حاكماً في سياسته لدولته وإدارته لها.
ولهذا أعقب الله تعالى وصفه بالعبودية بجملة تعليلية؛ فقال: ﴿إِنَّهُ أَوَّابٌ﴾ أي: رجّاع إلى الله في جميع أموره وشؤونه، توّاب إليه مما يكرهه منه. وقيل: إنه عُني به أنه كثير الذكر لله وكثير الصلاة.
وتبرز مظاهر عبوديته لله في كثرة شكره ودعائه وذكره ومناجاته لله. لقد سار على نهج والده النبي الملك داوود، وتأثر بأخلاقه وسلوكه ودعوته وأعماله وأهدافه، وإدارته للملك، وقدّما نموذجاً من نماذج تحقيق العبادة من خلال منصب (الرئاسة) وقيادة الدولة، والشعوب التابعة لها في دفع المظالم، وإقامة العدل، ودلالة الناس على توحيد الله وإفراده بالعبادة، ومساعدة المحتاجين، وعمارة الدولة بالبناء والتجارة والانفتاح على الآخرين وفق منهج الله وشرعه. قال تعالى: ﴿قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الأنعام: 162].
ب- التنشئة العلمية:
إنّ المتتبع لقصة سليمان (عليه السلام) في القرآن الكريم يجد أنَّ موضوع العلم الإلهي ركيزة أساسية في تشييد حكمه القائم على المنهج الرباني؛ فقد قرن الله سبحانه وتعالى العلم بالحُكم في منحه لداوود وسليمان عليهما السلام. قال تعالى: ﴿فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ﴾ [الأنبياء: 79] وقال تعالى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [النمل: 15].
وفي فعل ﴿آتَيْنَا﴾ ما يؤذن بأنّه علم مفاض من عند الله تعالى، ولا يذكر هنا نوع العلم ولا موضوعه، لأن جنس العلم هو المقصود بالإبراز والإظهار، وللإيحاء، بأن العلم كله هبة من الله، وبأن اللائق بكل ذي علم أن يعرف مصدره.
وتبرز أهمية العلم الرباني المستمد منه سبحانه وتعالى في بناء الحضارات، وترسيخ مقومات الحكم الرشيد في الدولة، وضبط مسار القيادة والشعوب والمؤسسات وفق قيم الشريعة الربانية، التي جعلها الله بصائر للناس وهدايات لهم في حياتهم الدينية والدنيوية، وكيفية التعامل مع العلوم المتنوعة في إسعاد الناس وفق المنهج الرباني، سواء كانت علوماً معنوية قائمة على المعرفة والدراسة والتحصيل وإعمال العقل، والذهن وإدراك الأمور والحقائق، أو علوماً مادية متعلقة بالاختراعات والصناعات والطرق والجسور ووسائل المواصلات، وتطوير الثروات الحيوانية والزراعية والبحرية.. وعلوم اللغات والتفاهم مع الأجناس، وتوظيف كافة العلوم في خدمة دين الله والقيم السامية المستمدة منه. وهذا ما قام به سليمان (عليه السلام)، فطريق الحكم الرشيد معرفة العلوم والتمكن منها بأنواعها الدينية والدنيوية.
وتؤكد مبادئ الحكم الرشيد على ضرورة تكريس المعرفة، وتوظيفها في بناء القدرات من خلال المساواة، وتكافؤ الفرص بين المواطنين، ولا يتأتى التنافس إلا بالعلم، كما يُعدّ العلم من الصفات الضرورية في كل من يتولى الحكم، وشرطاً أساسياً في كل ولاية حتى لا يخرج في حكمه عما شرعه الله، لأنه منفذ لأحكام الله في إقرار مصالح العباد. فنعمة العلم التي تحصّل عليها سليمان (عليه السلام) من أجلّ النعم التي أنعم الله بها عليه وفضله وشرّفه بها، فلا حضارة تتقدم ولا دولة تقوم بأهدافها بدون العلم.
مراجع الحلقة:
- الأنبياء الملوك، علي محمد محمد الصلابي، الطبعة الأولى، دار ابن كثير، 2023، ص 433-438.
- مقومات الحكم الرشيد، سعيد محمد عبد السلام ناجي، ص 306-311.
- تفسير الرازي (7/16).
- فتح البيان في مقاصد القرآن، القنوجي، (8/337).
لمزيد من الاطلاع ومراجعة المصادر للمقال انظر:
كتاب الأنبياء الملوك في الموقع الرسمي للشيخ الدكتور علي محمد الصلابي: